فصل: تفسير الآيات (33- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (33- 42):

{فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} الصاخة: هي الطامة الكبرى، التي جاء ذكرها في قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى} [34: النازعات] وهى تلك الأحداث المزلزلة التي تقع يوم القيامة.
وسميت صاخة، لأنها تصخّ الآذان، أي تقرعها قرعا شديدا عاتيا، بما يكون من صراخ وعويل، وصرير أسنان.. في هذا اليوم العظيم.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} يوم، هو الظرف، الذي تجيء فيه هذه الصاخة، المدويّة، المرعبة.
وفى هذا اليوم: {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}.
يقر من كل هؤلاء الذين كانوا ملاذه، وعونه، وأمنه، طالبا النجاة لنفسه من هذا الهول، الذي لا يدع فرصة لأحد أن ينظر إلى غير نفسه: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}: فكل إنسان في هذا اليوم همّه الذي يشغله، ويستغرق كل ذرة في كيانه، فلا يبقى عنده فضل لغيره، ولو كان أحب الناس إليه وآثرهم عندهم.
ومن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم في هذه الآيات، أنه غاص في أعماق النفس الإنسانية، وأقام مشاعرها على ميزان دقيق محكم، فجاء هذا الترتيب لموقف الإنسان ممن يقر منهم في زحمة هذا البلاء، حسب درجة شعوره بهم، ووزنه لكل منهم.
إنه يفرّ أولا من الناس جميعا.. جملة واحدة. لا ينظر إلى أحد.
ثم هو يجد نفسه مع أشخاص قد ارتبط بهم ارتباط الجسد بأعضائه.. هم أهله، الذي هو فرع من شجرة جمعتهم وإياه.. أخوه، وأمه وأبوه، وزوجه وبنوه! ثم هو من جهة أخرى محمول بالإكراه- تحت قسوة الموقف- أن يفر منهم جميعا.. ومع أن زحمة الأحداث، وشدة البلاء- لا تدع له فرصة للاختيار، إلا أنه في لحظة خاطفة، من أجزاء الزمن، أشبه بالذرات- يفرّ منهم على صورة تأخذ هذا الترتيب التصاعدى، القريب، فالأقرب، فمن هو أشد قربا.
فيفر أولا من أخيه، ثم أمه وأبيه، ثم زوجة، ثم يكون آخر من ينفصل عنه أبناؤه الذين هم بضعة منه، والذين لا يبقى بعدهم من ينفصل منه إلا بعض أجزاء جسمه هو!! وليس هناك- كما قلنا- زمن يقع فيه هذا الفرار على آنات متتابعة، وإنما هي وحدة شعورية بالفرار، انقسمت في داخلها، كما تنقسم الذرة! ويلاحظ أن الزوجة، لم تأخذ مكانها من هذا الترتيب، ولم تفضل الأبوين، إلا وهى زوجة ذات صفات خاصة، وهى أنها صاحبة وزوج معا، والزوجة حين تكون بهذه الصفة هي أقرب مخلوق إلى نفس الإنسان وآثره، بعد الأبناء! هذه هي حركة النفس الإنسانية، وتلك معطيات شعورها في حال الفرار من الخطر، والتماس سبيل النجاة.
فإذا كان الإنسان واقعا ليد الخطر فعلا، وقد أحاط به من كل جانب، وعلقت به النار من رأسه إلى أخمص قدمه- فما الحركة الشعورية للنفس في دفع هذا الخطر، وإطفاء تلك النار المشتعلة فيه؟
نجد الجواب على هذا في قوله تعالى، في سورة المعارج، إذ يقول سبحانه: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى} (11- 15).
إن الحركة الشعورية للإنسان هنا تأخذ اتجاها عكس الاتجاه الأول، الذي أخذته في موقف الفرار.
ففى موقف الفرار، هناك شيء من السعة، يتيح للإنسان أن يتحرك فيه، نحو الجهة التي يتوهم أن له سبيلا إليها، وإن لم يكن ثمّة سبيل.
أما في موقفه وقد أحاط به البلاء، واشتملت عليه النار، فإنه ليس ثمة إلا أن يمد يده إلى أقرب شيء يمكن أن يصل إليه، ليقيم منه ستارا على جسده الذي تأكله النار، وقد يكون هذا الشيء بعض أعضاء جسده هو، كيده، التي يدفع بها النار عن وجهه مثلا!! وأقرب شيء إلى الإنسان بعد أعضائه، هم بنوه، ثم صاحبته (زوجه) ثم.. ثم أسرته من أعمام، وأبناء أعمام.. ثم أهل الأرض جميعا.. كل هؤلاء يتخذ منهم دروعا واقية له، يرمى بهم في وجه البلاء واحدا بعد واحد، ولكن هيهات أن يجد من أىّ وقاية من هذا البلاء.
إنه مجرد أمل يراوده لو أمكنته الفرصة من تحقيقه، ولكن ليس إلى ذلك من سبيل..!
فهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، الذي يستولى ببيانه على حقائق الأشياء، وينفذ إلى أعماقها وخفاياها، فإذا هي في وجه صبح مشرق مبين!!.
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ}.
هو جواب {إذا} في قوله تعالى: {فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} أي فإذا جاءت القيامة، فأمر الناس مختلف، فهم فريقان:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} أي مشرقة بالبهجة والمسرة، تضحك استبشارا بما لاح لها من دلائل الفوز، وما هبّ عليها من أنسام الرضوان والجنان.
{وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ} أي عليها غبرة الكمد والحسد، وسواد الكآبة والمذلة.. {تَرْهَقُها قَتَرَةٌ}.
أي يعلوها الشحوب، ويعتصر ماءها الرّهق والتعب.. {أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} أي أن أصحاب هذه الوجوه المغبرة الكالحة الشاحبة، هم الكفرة الفجرة، أي الذين جمعوا بين الكفر باللّه، وبين المبالغة في الضلال، والفجور.. فالكفر ظلمات بعضها أشد ظلاما من بعض، والكفار أصناف، بعضهم أشد إيغالا في الكفر والضلال من بعض، وشتان بين كفر أبى لهب، وأبى جهل، وبين كفر غيرهم من حواشى القوم.
والحديث عن الوجوه عوضا عن أصحابها- هو- كما قلنا في غير موضع- لما في الوجوه من قدرة على التعبير عما في النفوس من مشاعر وعواطف.. حيث ينطبع عليها كلّ ما يقع على الإنسان مما يسوء أو يسرّ.

.سورة التكوير:

ولها: نزلت بمكة بعد سورة المسد.
عدد آياتها: تسع وعشرون.. آية.
عدد كلماتها: مائة وأربعون كلمة.
عدد حروفها: خمسمائة وثلاثة وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
جاء في سورة عبس عرض ليوم القيامة، وللعذاب الشديد الذي يحيط بالكافرين، حتى ليفر الكافر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.
وقد جاءت سورة التكوير بعدها، عارضة المشاهد التي تسبق هذا اليوم، لتخرح بالمشركين وراء دائرة العذاب قليلا، ليلقوا نظرة على الحياة الدنيا، التي كانوا فيها، والتي يودون الفرار إليها.
فهل إذا أتيحت لهم فرصة الفرار من هذا العذاب، وعادوا إلى الدنيا، أيصلحون ما أفسدوا من حياتهم؟ أيؤمنون بهذا اليوم، وما يلقى الكافرون فيه؟ وإنهم لفى هذا اليوم فعلا، إنهم لم يبرحوا هذه الدنيا بعد.. فماذا هم فاعلون؟.. هذا سؤال ستكشف الأيام عن الجواب الذي يعطيه هؤلاء المشركون عنه.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 14):

{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}.
تكوير الشمس: ظهورها كالكرة في أعين الناس يومئذ أي يوم القيامة، حيث يشرف عليها الإنسان من عل فيراها من جميع وجوهها، لا من وجه واحد، كما تبد ولنا الآن وكأنها قرص مسطّح.
وانكدار النجوم: انطفاء بريقها، حيث أن بريق هذا الضوء الذي نراه منها، إنما هو بسبب الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا جاوز الإنسان الغلاف الهوائى للأرض بدت النجوم كرات لا معة معلقة في القضاء، لا يشع منها ضوء.
وتعطيل العشار، وهى النوق الحوامل، هو إلقاء ما في بطونها من أجنة، ثم عدم تعرضها للحمل، حيث يصرفها الهول عن الاستجابة لداعى الغريزة الطبيعية فيها.
يقول الإمام القرطبي: إن تعطيل العشار تمثيل لشدة الكرب، وإلا فلا عشار ولا تعطيل.
ونقول: إن هذا وإن كشف عن حال الشدة والكرب في هذا الوقت، فإنه لا يمنع من أن تكون هناك العشار، وأن يكون تعطيلها عن الحمل.
فهذا خبر جاء به القرآن، ولابد أن يقع على ما جاء به.
وحشر الوحوش: هو جمع بعضها إلى بعض، وسوقها إلى أكنانها، حيث يدفعها البلاء إلى الفرار، وطلب النجاة مما تراه من أحداث القيامة، فترتدّ عن مسارحها مسرعة إلى حيث ما تظن عنده الاختفاء من الخطر المحدق بها، فتجيء من كل وجه، ويلوذ بعضها ببعض، حيث يذهب الهول بكل ما فيها من نوازع الشر والعدوان.
أما ما يقال من حشر الوحوش بمعنى بعثها، وسوقها إلى الحساب والجزاء، كما يفعل بالناس، فذلك ما لا يقوم عليه دليل من كتاب اللّه، حيث أن الدنيا هي دار ابتلاء وتكليف للإنسان وحده من بين سائر المخلوقات التي على الأرض، وأن هذه البهائم لم تكلف بشيء، ولم تدع ألى شيء، وإنما هي مما خلق اللّه سبحانه للإنسان، لينتفع بها، أو ليبتلى بالضار منها، كما في النبات أو الجماد من نافع وضار.
ويقول الإمام محمد عبده: وحشر الوحوش، إما جمعها لاستيلاء الرعب عليها، وخروجها من أجحارها وأوكارها، ونسيانها ما كانت تخافه، فتفر منه.. فتحشر هائمة، لا يخشى بعضها بعضا، ولا يخشى جميعها سطوة الإنسان.. وقيل حشر الوحوش هلاكها...
قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ}.
أي رؤيت وكأنها بحر واحد، محيط بالأرض، لا حركة له، وكأنه مسجور، أي مربوط بالأرض.. أما ما يقال بأن تسجير البحار هو تضرّمها، وتلهبها، حيث تصبح كتلة من نار، فهذا لا مفهوم له، إلا أن يقال- كما قيل- إن هذا دليل على قدرة اللّه سبحانه، وأنه كما أنبت الشجر في أصل الجحيم، أخرج النار من قلب الماء.. وقدرة اللّه سبحانه لا تحتاج للدلالة عليها إلى مثل هذه الصور الشوهاء التي تفسد نظام الوجود، وتذهب بجلال الحكمة الممسكة به في دقة وروعة، وإحكام.
قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} أي زوجت الأبدان التي كانت فيها، وردّت إليها، لتخرج من قبورها للبعث والحساب، والجزاء.. فالمراء بالنفوس هنا الأرواح.
وقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}؟
الموءودة، من توءد من البنات، وتدفن حية، بيد أهلها، كما كان كذلك عادة عند بعض قبائل العرب في الجاهلية.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ} [58- 59 النحل].
وسؤال الموءودة يوم القيامة، في مواجهة من وأدها، مع أن الأولى-
فى ظاهر الأمر- أن يسأل الجاني لا المجنى عليه- في هذا تشنيع على الجاني ومواجهة له بالجريمة التي أجرمها، ووضعها بين يديه، ليرى تلك الجناية الغليظة المنكرة، وليسمع من قتيلته التي ظنّ أنه سوّى حسابه معها، ليسمع منطقها الذي يأخذ بتلابيبه، ويملأ قلبه فزعا ورعبا.
أرأيت إلى قتيل يظهر على مسرح القضاء، هذ وقاتله في موقف المحاكمة؟ ثم أرأيت إلى هذا القتيل، وهو يروى للقاضى: لم قتل؟ وكيف قتل؟ ثم أرأيت إلى القاتل، وقد أذهله الموقف، فخرس لسانه، وارتعدت فرائصه، وانهار كيانه؟ ذلك بعض من هذا المشهد الذي يكون بين الموءودة ووائدها يوم القيامة!.
وقوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}.
أي صحف الأعمال، حيث يقرأ كل إنسان ما سجل في كتابه المسطور بين يديه.
قوله تعالى: {وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ}.
وكشط السماء، هو زوال هذه الصورة التي تبدو منها لنا في الدنيا، وكأنها سقف سميك، فتبدو السماء حينئذ، وكأنها قد أزيلت من مكانها، فكانت أبوابا مفتحة تنطلق فيها الأرواح إلى ما شاء اللّه من علوّ، دون أن تصطدم بشيء يردّها.
قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}.
سعرت: أي توقدت، وتسعر جمرها، وعلا لهيبها.
وأزلفت: أي قربت ودنت من أهلها.
قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ} هو جواب {إذا} الشرطية الظرفية التي تواردت على هذه الأحداث التي تقع بين يدى الساعة، وفى يوم مجيئها.
ففى هذا اليوم تعلم كلّ نفس ما أحضرت معها من أعمال عملتها في الدنيا من خير أو شر.

.تفسير الآيات (15- 29):

{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ}.
قلنا، في غير هذا الموضع، إن هذه الأقسام المنفية، يراد بها التعريض بالقسم، لا وقوع القسم ذاته.. إذ كان الأمر الواقع في معرض القسم أظهر من أن يحتاج إلى توكيد وجوده بقسم.
والخنس: هي الكواكب، إذا طلع عليها النهار خنست أي غابت، واختفت معالمها عن الأنظار.
والجوار الكنس، هي هذه الكواكب في حال ظهورها بالليل، ثم تغيبها في الأفق الغربىّ، بفعل حركة الأرض، ودورانها اليومي من الغرب إلى الشرق.. والكناس، مأوى الظباء، وبيتها الذي تسكن إليه.
والخنس: جمع خنساء، وهى الظبية، تدخل في كناسها، ومن هذا سمّى العرب به بعض بناتهم، ومنهن الخنساء الشاعرة المعروفة تشبيها بالظبية في جمالها وتناسق أعضائها، ثم في خفرها، وحيائها، وصونها.
هذا، ومن أسماء الشمس عند العرب الغزالة تشبيها لها بالغزالة في جمالها وتحركها الرتيب الهادئ على مسرح مرعاها، حتى إذا غربت الشمس، عادت إلى كناسها، واختفت فيه. وخنست.. قال المعرى:
ولم أرغب عن اللذات إلّا ** لأنّ خيارها عنّى خنسنه

والفاء في قوله تعالى: {فلا أقسم} هو مرتبط بما وقع جوابا للشرط إذا في أول السورة وهو قوله تعالى {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ} أي إن هذا الحق واقع، فلا أقسم لكم على توكيده {بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ}.
قوله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ}.
عسعس الليل، أي قفل راجعا، وذهب ظلامه الذي كان مخيما على الكون.. ومنه العسس، وهم حراس الليل من الجنود، يعسّون في الطرقات أي يتحركون تحت جنح الظلام، ليروا ماذا يجرى من أحداث يحدثها أهل الشرّ تحت هذا الستار من الظلام.. فالليل، متحرك، وليس ثابتا.. إنه يجرى إلى كناسه، كما تجرى الكواكب إلى كناسها.
قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ} معطوف على قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ} وتنفس الصبح، ظهوره، ودبيب الحياة فيه.
وفى التعبير عن ظهور الصبح بالتنفس، إشارة إلى أنه مولد حياة للأحياء جميعها، حيث تبعث الحياة من جديد في الأحياء، مع الصباح، بعد أن غشيها النوم، وحبسها عن الحركة، فبدت وكأنها في عالم الموتى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [60: الأنعام] قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} هو جواب القسم المنفي: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} أي فلا أقسم لكم بالخنس، الجوار الكنس، ولا بالليل إذا عسعس، ولا بالصبح إذا تنفس- بأن أخبار يوم القيامة وأحداثها، واقعة لا شك فيها، وأن هذه الأخبار التي تحدثكم عن هذا اليوم، هي قول رسول كريم، هو رسول الوحى، جبريل عليه السلام، بلّغ به كلمات ربه إليه.. لا أقسم لكم بهذه العوالم على وقوع هذا الخبر، فإنه بيّن ظاهر.
ونسبة القول، وهو القرآن، إلى جبريل، لأنه هو المبلّغ له، القائل لما قيل له من ربه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} هو من صفة جبريل عليه السلام، وهو أنه ذو مكانة مكينة عند ذى العرش، وهو اللّه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} ومن صفات جبريل أيضا أنه مطاع هناك من ملائكة الرحمن، أمين على ما يحمل من كلمات اللّه إلى رسل اللّه، لا يبدل، ولا يحرّف.
قوله تعالى: {وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} وإذن فما صاحبكم هذا، وهو محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما هو بمجنون كما تقولون عنه، وإنما هو يتلقى هذا القول الذي يقوله لكم، من رسول أمين ممن السماء، يبلغ النبيّ رسالة ربه اليه.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} المفسرون على أن الهاء في قوله تعالى: {ولقد رآه} يعود إلى جبريل، عليه السلام، وأن المرئي لجبريل، هو النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأن الأفق المبين، هو الأفق العالي، أي أفق السموات العلا، حيث عرج بالنبي، فظهر له جبريل على صورته الملكية.
وإنه الأولى عندنا، أن يكون هذا الضمير عائدا على القرآن الكريم، قوله تعالى: {وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ}؟
أي أن هذا القرآن هو من قول اللّه سبحانه وتعالى، الذي نقله رسول الوحى جبريل، وليس من وساوس الشيطان، ولا من مقولاته.. {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [210- 212: الشعراء] وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}؟
أي فإلى أي مذهب من مذاهب الضلال تذهبون، بعد هذا البيان المبين، وبعد تلك الحجة الواضحة؟
أهناك مذهب لكم إلى غير اللّه، وإلى غير ما تدعوكم إليه آيات اللّه؟ إن أي طريق آخر غير هذا الطريق هو الضلال والهلاك وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ} أي هذا القرآن، ما هو إلا ذكر، وهدى، للعالمين وقوله تعالى: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} هو بدل بعض من كلّ من قوله تعالى: {للعالمين} أي هذا القرآن هو ذكر للعالمين جميعا.. وهو ذكر لمن شاء منكم أيها المشركون، أن يتلقى منه الموعظة والهدى، ويستقيم على طريق الحق ويسلك مسلك النجاة.
وقوله تعالى: {وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
الواو هنا للحال، أي من شاء منكم أن يستقيم، فليطلب الاستقامة، وليرد مواردها، وليأخذ بالأسباب إليها.. ثم إن مشيئتكم تلك مرتهنة بمشيئة اللّه العامة الشاملة، التي كل مشيئة منطوية تحتها، دائرة في فلكها.
فالإنسان- وإن كانت له مشيئة- ليس بالذي يستقلّ بمشيئته عن مشيئة اللّه، فهو إذ يشاء شيئا، وإذ يمضى هذا الشيء، فإنما ذلك من مشيئة اللّه فيه.
وهذا ليس بالذي يدعو الإنسان إلى أن يعطل مشيئته، منتظرا مشيئة اللّه فيه، لأنه لا يعلم ما مشيئة اللّه فيه.. بل إن عليه أن يعمل مشيئته، كما يعمل جوارحه جميعها، فإذا وافقت مشيئته مشيئة اللّه، مضت ونفذت، وإن خالفت مشيئة اللّه لم تمض، ولم تنفذ، ومضت مشيئة اللّه! هذا هو المطلوب من العبد.. فإن أعطى مشيئته ما ينبغى أن يقدّمه بين يديها من بحث- ونظر، وعقل- جاءت مشيئته قائمة على طريق الحق، مثمرة له أطيب الثمر، تماما، كما إذا أيقظ حواسه، وعمل بها في المحسوسات، كان له من معطياتها ما يصله بالحياة وصلا وثيقا، ويقيمه على طريقها دون أن يتعثر، أو يضلّ!