فصل: سورة الانفطار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة الانفطار:

نزولها: نزلت بمكة بعد سورة النازعات.
عدد آياتها: تسع عشرة آية.
عدد كلماتها: مائة كلمة.
عدد حروفها: ثلاثمائة وتسعة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة الكريمة، هي على شاكلة سابقتها التكوير.
كل منهما حديث عن يوم القيامة وإرهاصاتها.. فكان جمعهما في هذا السياق من جمع النظير إلى نظيره، ليتأكد ويتقرر في الأذهان.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 12):

{إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ}.
هو مشابه لقوله تعالى: {إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ}، وانفطار السماء هو تشققها وزوال هذا السقف الذي يبدو منها في مرأى العين.. وقد أشرنا إلى هذا من قبل.. وقلنا إن هذا التغير في نظام الوجود يوم القيامة، هو بسبب تغير حواسنا ومدركاتنا، وانتقالنا من عالم إلى عالم.
وقوله تعالى: {وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ}.
وتناثر الكواكب: هو ظهورها لنا على حقيقتها، فهى تبدو الآن- في موقع النظر- أشبه بالمصابيح المعلقة في السقف.. فإذا كان يوم القيامة ظهرت لنا على حقيقتها، وهى أجرام هائلة، معلقة في الفضاء، كذلك تبدو لنا يوم القيامة في منازل مختلفة في علوّها، فبعضها أعلى من بعض علوّا سحيقا يقدر بألوف السنين الضوئية، على حين تظهر لنا اليوم، وكأنها على درجة واحدة في علوها، حيث تأخذ- كما يبدو لنا- مكانها من هذا السقف المرفوع فوقنا، وكأنها مصابيح مضيئة في سقف مرفوع، على سمت واحد.
وقوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ} وتفجير البحار، هو ما يبدو يومئذ من إحاطتها بالكرة الأرضية من جميع جوانبها، على بحين تبدو هذه القارات وكأنها جزر صغيرة غارقة في الماء وقوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}.
وبعثرة القبور، هو إخراج ما فيها من أموات، حيث تنطلق منها الحياة التي كانت مندسّة فيها، وكأنها قذائف تنفجر من باطن الأرض.
قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}.
هو جواب إذا الشرطية الظرفية، وما بعدها من معطوف عليها.
أي إذا حدثت هذه الأحداث، علمت كل نفس ما قدمت من عمل صالح للآخرة، وما فاتها أن تعمله في الدنيا من خير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي} [23: 24 الفجر].. وفى تنكير {نفس} إشارة وحدة النفوس في هذا اليوم من حيث العلم بما لها وما عليها، فالنفوس جميعها سواء في هذا العلم الذي يكشف كل شيء، حتى لقد أصبحت نفوس الناس جميعا أشبه بنفس واحدة.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}.
الخطاب بيا أيها الإنسان، استدعاء لمعانى الإنسانية التي أودعها اللّه سبحانه وتعالى في الإنسان، من قوى عاقلة مدركة، من شأنها أن تميز بين الخير والشر، وتفرق بين الإحسان والإساءة، وأن تضع بين يدى الإنسان ميزانا سليما يضع في إحدى كفتيه ما أحسن اللّه به إليه، ويضع في الكفة الأخرى ما يقدر عليه من شكر، وذلك بإحسان العمل، كما يقول سبحانه: {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (77: القصص) فإذا رأى الإنسان الكفة التي وضع فيها إحسان اللّه إليه ملأى بالعطايا والمنن، ثم لم يضع في الكفة الأخرى شيئا في مقابل هذا الإحسان، بل وتجاوز هذا، فملأ الكفة كفرا باللّه، ومحادة للّه ولأوليائه- فأىّ إنسان هو؟ وأي جزاء يجزى به؟
وفى اختيار صفة {الكريم} للّه سبحانه وتعالى في هذا المقام، من بين صفاته الكريمة جل شأنه- في هذا إلفات إلى هذا الإحسان العظيم الذي أفاضه اللّه على الإنسان، وإلى مقدار جحود الإنسان وكفرانه، وضلاله، مع هذا الفضل الغامر، الذي يجده الإنسان في كل ذرة من ذراته، ومع كل نفس من أنفاسه.
وفى قوله تعالى: {ما غرك} إنكار على الإنسان أن يدعوه توالى الإحسان عليه، وتكاثر النعم بين يديه، إلى أن يتخذ من ذلك أسلحة يحارب بها ربه المحسن الكريم.
وكرم الكريم، وإحسان المحسن، إذا قوبل ممن أكرم وأحسن إليه، بالاستخفاف، ثم النكران والجحود، ثم بالحرب والعدوان على الحدود- كان من مقتضى الحكمة والعدل معا، أن يؤدّب هذا الجاحد المنكر، وأن يذوق مرارة الحرمان، كما ذاق حلاوة الإحسان.. وإلا فقد الإحسان معناه، وذهب ريحه الطيب، الذي يجده الذين يعرفون قدره، ويؤدون حقه.
يقول المتنبى:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ** مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

وقد تأول بعض المتأولين هذه الآية تأويلا فاسدا، حين أقاموا منها حجة لأهل الزيغ والضلال، يلقون بها ربهم، إذا سئل أحدهم من ربه: {ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} فيقول في قحة، وبلا حياء: غرّنى كرمك!! إن ذلك مكر باللّه، واللّه أسرع مكرا! ونعم، إن اللّه كريم كرما لا حدود له.. ولكن هذا الكرم، لا يقع إلا حيث المواقع التي تحيا به، وتثمر أطيب الثمر في ظله.. إنه كرم بحكمة، وحساب وتقدير.. {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} [8: الرعد] ولقد وسع كرمه سبحانه، سيئات المسيئين، فتقبل توبتهم، وجعل السيئة سيئة، والحسنة عشرا، إلى سبعمائة، وأضعاف السبعمائة: {وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} (261: البقرة) ثم كيف يعرف كرم الكريم، ويطمع في أن ينال منه، من لا يعرف الكريم ذاته، ومن لا يرجو له وقارا؟ إن حجة هؤلاء داحضة، ومكر أولئك يبور! قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ}.
هو بيان لبعض كرم الكريم، سبحانه وتعالى، على الإنسان، وإحسانه إليه.
فلقد خلق اللّه سبحانه هذا الإنسان في أحسن تقويم، فعدل خلقه، وأحسن صورته، ومنحه عقلا امتاز به على كثير من المخلوقات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا} [70: الإسراء].
وقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} {ما} هنا للتفخيم، الذي يشير إلى قدرة الصانع، وما أودع في جرم الإنسان الصغير، من قوى عمر بها هذه الأرض، وفتح بها مغالق كنوزها، واستأهل أن يكون خليفة اللّه عليها.
قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ}.
{كلا} رد على جواب مفترض، ينبغى أن يجيب به الناس على قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} وهو قولهم: لم نغتر بكرمك يا كريم.. فجاء الرد عليهم {كلا} لقد غرّكم كرمى.. وإلا فلما ذا {تكذّبون بيوم الدين}؟ أليس تكذيبكم بما جاءت به رسل اللّه إليكم، مع مواصلة إحسانى إليكم، وتوالى نعمى عليكم- أليس ذلك منكم اغترارا بكرمى؟
وعلى هذا يكون الإنسان المخاطب في قوله: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} هو ذلك الإنسان الكافر باللّه، المكذب بآياته.. وهو الغارق في المعاصي، الذي لم يلتفت إلى ما وراء الحياة الدنيا، ولم يعمل للآخرة حسابا، كأنه مكذب بها.
والحافظون، هم الملائكة الموكلون بالناس، وبتسجيل ما يعملون من خير أو شر.. وهم الكرام عند اللّه، المكرمون بفضله وإحسانه، الكاتبون لما يعمل الناس.

.تفسير الآيات (13- 19):

{إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ}.
هو بيان لحال من لا يغترون بكرم اللّه، ومن يغترون به.
فالذين قدروا اللّه قدره، وعرفوا فضله وإحسانه، فآمنوا به، واستقاموا على شريعته، ولزموا حدوده- هؤلاء في نعيم يوم القيامة، حيث ينزلهم اللّه في جنات، ينعمون فيها بما يشتهون.
والأبرار: جمع برّ، وهو الذي عمل البر، والبرّ هو كل عمل طيب في ظل الإيمان باللّه، واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين.. وسمى البرّ برّا، لأنه برّ بما عاهد اللّه عليه، وبالميثاق الذي واثقه به.
قوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}.
والفجار: جمع فاجر، والفاجر من يفجر عن أمر اللّه، ويتعدى حدوده.
قوله تعالى: {يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ}.
أي هذه الجحيم، التي يلقى فيها الفجار، إنما يصلونها ويعذبون بها يوم الدين، أي يوم القيامة، الذي يكذبون به.
وقوله تعالى: {وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ}.
أي لا يغيبون عنها، ولا يخرجون منها أبدا، بعد أن يدخلوها.
ويجوز أن يكون المعنى أنهم ليسوا غائبين عنها في هذه الدنيا، فهم مشرفون عليها، مسوقون إليها بفجورهم، وإن لم بروها.
قوله تعالى: {وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ}.
استفهام يراد به عرض هذا اليوم على ما هو عليه من هول لا يوصف، ولا يعرف كنهه، لأنه شيء لم تره العيون، ولم تحم حوله الظنون.
قوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي أن هذا اليوم المهول، هو يوم يتعرّى فيه الناس من كل قوة وسلطان، فلا يملك أحد لأحد شيئا، ولا يدفع أحد عن أحد مكروها.. فالأمر كله بيد اللّه، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.
وفى قيد الأمر للّه بيوم القيامة، مع أن الأمر كله للّه في جميع الأزمان والأحوال- إشارة إلى أن الناس وإن كانوا في الدنيا يظنون أنهم يملكون شيئا، وأنهم يملكون فيما بينهم الضر والنفع- فإن هذا الظاهر من أمرهم في الدنيا، لن يكون لهم منه شيء في الآخرة.. كما يقول سبحانه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} [16: غافر].

.سورة المطففين:

نزولها: نزلت بمكة، بعد العنكبوت.. وهى آخر ما نزل بمكة.
وقيل أول ما نزل بالمدينة عدد آياتها: ست وثلاثون.. آية عدد كلماتها: مائة كلمة، وتسع كلمات عدد حروفها: أربعمائة وثلاثون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
أجملت سورة الانفطار التي سبقت المطففين مصير الفجار، ومصير الأبرار.
فجاءت سورة المطففين. مفصلة شيئا من هذا المصير، كما جاءت كاشفة مبينة عن وجوه من فجر الفجار، كالتطفيف في الكيل والميزان، والتكذيب بيوم الدين، والاتهام لرسول اللّه، ولآيات اللّه.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 17):

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} التطفيف: الخروج عن سواء السبيل في الكيل والميزان، زيادة أو نقصا.
وقد بين اللّه ذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}.
فهؤلاء هم المطففون، قد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالويل والعذاب الشديد في الآخرة، لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، فيأخذون أكثر مما لهم إذا كالوا أو وزنوا، أو يأخذونه كاملا وافيا {يستوفون} على حين يعطون أقل مما عليهم إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم {يخسرون}.
إنهم اؤتمنوا فخانوا الأمانة، ووضع في أيديهم ميزان الحق، فعبثوا به، واستخفوا بحرمته.. فيستوفون حقهم كاملا إذا أخذوا، ويعطونه مبخوسا ناقصا إذا أعطوا!! وفى قوله تعالى: {اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ} وفى تعدية الفعل بحرف الجر {على} إشارة إلى أن هذا الذي يكيلونه هو شيء لهم على غيرهم.
أمّا تعدية الفعلين {كالوهم ووزنوهم} بدون حرف الجر {إلى} فهو إشارة إلى أنهم في تلك الحال هم الذين يكيلون ويزنون، فكأنه قيل: وإذا أعطوهم مكيلا أو موزونا يخسرون.
قيل إن أهل المدينة، كانوا قبل الإسلام أخبث الناس كيلا، فلما جاء الإسلام، وكشف لهم عن شناعة هذا العمل، وما يجر على مقترفيه من نقمة اللّه وعذابه- أصبحوا أعدل الناس كيلا ووزنا إلى اليوم.
والقول بأن هذه السورة هي آخر ما نزل بمكة، أولى من القول بأنها نزلت في المدينة.. ذلك أن نزولها بالمدينة، وفى أول مقدم الرسول إليها، فيه مواجهة بالخزي والفضيحة، والتشنيع، على هؤلاء القوم الكرام، الذي استجابوا لدين اللّه، ورصدوا أنفسهم وأموالهم لنصرته، وفتحوا مدينتهم ودورهم لإيواء المسلمين الفارّين بدينهم من مشركى قريش.. وإن الذي يتفق وأدب الإسلام وحكمته لعلاج هذا الأمر المنكر، الذي قيل إنه كان فاشيا في أهل المدينة- الذي يتفق مع أدب الإسلام وحكمته أن يعلن رأيه في هذا الأمر، وحكمه على فاعليه، بعيدا عن موقع المواجهة، وأن يرمى به في وجه المشركين قبل أن تنتقل الدعوة من ديارهم، حتى إذا بلغت سورة المطففين أسماع أهل المدينة، انخلعوا من هذا المنكر، واستقبلوا رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه، وقد طهرت مدينتهم من هذا الخبث.
والخيانة في الكيل والميزان، ليست كما يبدو في ظاهرها، أمرا عارضا هينا، لا يمسّ إلا جانبا من حواشى حياة الجماعة، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال في نظام حياتها.. وكلّا، فإن هذا الداء، إذا تفشّى في مجتمع من المجتمعات، أفسد نظامه كله، وامتد ظله الأسود الكئيب على حياة المجتمع، مادياتها ومعنوياتها جميعا.. وحسب أي جماعة ضياعا وهلاكا، أن تفقد الثقة في معاملاتها، وأن يكون الاتهام نقدا متبادلا بين أفرادها، أخذا، وإعطاء.
ونتصور هنا جماعة قد شاع في معاملاتها النقد الزائف، واختلط بالنقد الصحيح.. فهل يجتمع لهذه الجماعة شمل، أو يستتب فيها نظام، أو تغشاها سكينة واطمئنان؟.
إن حياة الناس قائمة على التبادل، والأخذ والعطاء، فإذا لم يقم ذلك بينهم على ثقة متبادلة بينهم كما يتبادلون كل شيء، انحلّ عقد نظامهم، وتقطعت عرا أوثق رابطة تربط بين الناس والناس، وتجمع بعضهم إلى بعض وهى الثقة.
وفى القرآن الكريم، إشارة صريحة إلى خطورة التبادل، القائم بين الناس- أخذا وعطاء، والذي إذا لم يقم على أساس متين من العدل والإحسان، أتى على كل صالحة في حياة الناس.. وهذا ما نراه في دعوة نبى اللّه شعيب- عليه السلام- ورسالته في قومه.
إنها رسالة، تعالج هذا الداء الذي استشرى في القوم وتطبّ له قبل أي داء آخر، بعد داء الكفر.. فإنه لا يقوم بناء، ولا يستنبت خير، إلا إذا اقتلع هذا الداء، وطهرت منه الأرض التي يراد استصلاحها، وغرص البذور الطيبة فيها.
يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسان شعيب إلى قومه: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [84: هود] ويقول سبحانه على لسانه أيضا: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [181- 183 الشعراء].
إنها قضية حق وعدل.. فإذا افتقد الحق مكانه في قوم، وإذا اختلت موازين العدل في أيديهم، فليأذنوا بتصدع بنيانهم، وانهيار عمرانهم، وبوار سعيهم، وسوء مصيرهم.
وقوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}.
هو استفهام إنكارى، لهذا الأمر المنكر الذي يأتيه المطففون في الكيل والميزان.. إن هؤلاء المطففين لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم، فيه حساب، وجزاء.. ولو كانوا يظنون هذا ما اجترءوا على أكل حقوق الناس بالباطل، ولحجزهم عن ذلك حاجز الخوف من اللّه، ومن لقائه بهذا المنكر الشنيع.
وفى التعبير بفعل الظن، بدلا من فعل الاعتقاد في البعث، إشارة إلى أن مجرد الظن بأن هناك بعثا، وحسابا، وعقابا- يكفى في العدول عن هذا المنكر، وتجنبه، توقّيا للشر المستطير، الذي ينجم عنه.. فكيف بمن يعتقد البعث، ويؤمن به؟ إنه أشد توقيا للبعث، ومحاذرة منه، وإعدادا له.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}.
كلّا هو رد على قوله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}.
وكلا.. إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون، ولو ظنوا أنهم مبعوثون ما فعلوا هذا الذي فعلوه من التطفيف في الكيل والميزان.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} هو إشارة إلى أن هؤلاء المطففين من الفجار، الذين خرجوا على حدود اللّه، وأن كتابهم الذي سجلت فيه أعمالهم المنكرة، كتاب منكر، في مكان منكر.
والسجّين: مكان مطبق، مغلق على هذا الكتاب، وهو مبالغة من السجن، وهو الحبس.. وفى هذا إشارة إلى أن هذا الكتاب- لما يضم من شنائع ومنكرات- قد ألقى به في مكان بعيد عن الأعين، كما تلقى الجيف، أو يردم على الرمم.
وقوله تعالى: {وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ} تهويل، وتشنيع، على هذا المكان الذي ضمّ هذا الكتاب العفن، الذي تفوح منه رائحة هذه المنكرات الخبيثة.
وقوله تعالى: {كِتابٌ مَرْقُومٌ} هو بدل من {سجين}.
حيث يدل ذلك على أن هذا الكتاب المنكر، والمكان الذي ألقى فيه، قد صار شيئا واحدا، هو هذا الكتاب المرقوم، أي الموسوم بتلك العلامات، والشواهد الدالة على ما ضم عليه من آثام ومنكرات.
قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يكذبون بالبعث، ولا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم.. إن لهم الويل، والهلاك، والعذاب الأليم في هذا اليوم العظيم، الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين.
وقوله تعالى: {وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
أي أنه لا يكذب بهذا اليوم إلا كل معتد على حرمات اللّه، غارق في الإثم والضلال.
وإن من كان هذا شأنه من التهالك على المنكر، ولا ستغراق في الإثم، هو في سكرة مما هو فيه، لا يود أن يفيق منها أبدا، ولا ينتظر لليلة سكره صباحا، يقطع عنه أضغاث أحلامه، وهذيان خماره.
إن آفة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ليست عن حجة من عقل أو منطق، وإنما هي كامنة في تلك الشهوات المستبدة بهم، والمتسلطة عليهم، والتي من شأنها- لكى تضمن وجودها، وتدافع عن بقائها- أن تدفع كل خاطر يزحمها، أو طارق يتهدد وجودها.. فإذا اتجهت النفس إلى الإيمان باليوم الآخر، بدا لها هذا القيد الذي يقيدها به الإيمان، ويحول بينها وبين هذا المرعى الذي تنطلق فيه هائمة على وجهها.. وهنا يضعف ذوو النفوس الخبيثة عن قبول هذا الالتزام بالوقوف عند حدود اللّه، فيتهمون هذا الهاتف الذي يهتف في ضمائرهم بالإيمان باللّه واليوم الآخر ليظلّوا عاكفين على ما هم فيه من آثام ومنكرات. روى أن الأعشى الشاعر الجاهلى، حين سمع بأمر النبيّ، جاء يريد الإسلام، فتلقته قريش، وقالوا له إن محمدا يحرّم الزنا، فقال: هذا لا إربة لى فيه، فقالوا: إنه يحرم الخمر، فقال: أما هذه، فإنها شهوة نفسى، وعندى خابية منها، سأروى نفسى منها سنة، ثم أعود فأدخل في دين محمد.. فرجع ولكنه لم يعد، فقد مات في عامه هذا!! وهكذا يتعلل أصحاب المنكرات بالعلل والمعاذير، حتى يموتوا على ما هم عليه من ضلال.
وقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
كلا، هو ردّ على قول هذا المعتدى الأثيم، الذي إذا تتلى عليه آيات اللّه قال: {أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
إنه يغمض عينيه عن هذا النور المشع، الذي يبدّد ظلام ليله الغارق فى. لذاته، بتلك القولة الضالة التي يقولها عن كتاب اللّه:
{أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ}!! وكلا.. ليس الأمر كما زعم، ضلالا، وافتراء.. وإنما قد ران على قلبه هذا الإثم الذي غرق فيه، فلم يعد يرى حقّا، أو يهتدى إلى حقّ! و{رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ} أي غطى على قلوبهم.. والرّين على الشيء حجبه، وتغطيته.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}.
هو توكيد لهذا الرّين الذي غطى قلوبهم، وأنه قد صحبهم إلى الآخرة، فحجبهم اللّه سبحانه وتعالى عن رؤيته، وعن موقع رحمته وإحسانه، كما حجبوا هم أنفسهم بآثامهم عن رؤية الحقّ في الدنيا.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
أي وليس حجبهم عن اللّه سبحانه وتعالى في الآخرة، وبعدهم عن مواقع رحمته، هو كل جزائهم في الآخرة، وإن كان جزاء أليما، وعقابا زاجرا، بل إن وراء هذا نارا تلظّى، يلقون فيها، ويكونون حطبا لها.. ثم لا يتركون هكذا للنار تأكلهم، وترعى في أجسامهم، بل ينخسون بهذه القوارع، بما يرجمون به من كل جانب، من ملائكة جهنم وخزنتها بقولهم لهم: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} فذوقوه لتعلموا إن كان ما كذبتم به حقا أو غير حق، واقعا أو غير واقع: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا}؟
(44: الأعراف).