فصل: سورة التين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة التين:

نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة البروج.
عدد آياتها: ثمانى آيات.
عدد كلماتها: أربع وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة الانشراح بالدعوة إلى الكد والنصب، في الحياة الدنيا، ليبنى الإنسان بذلك دار مقامه في الآخرة، ويعمرها بما يساق إليه فيها من نعيم اللّه ورضوانه.
وبدئت سورة التين بهذه الأقسام من اللّه سبحانه وتعالى، لتقرير حقيقة الإنسان وتذكيره بوجوده، وأن اللّه سبحانه خلقه في أحسن تقويم، وأودع فيه القوى التي تمكّن له من الاحتفاظ بهذه الصورة الكريمة، وأن يبلغ أعلى المنازل عند اللّه، ولكن ميل الإنسان إلى حب العاجلة، قد أغراه باقتطاف الذات الدانية له من دنياه، دون أن يلتفت إلى الآخرة، أو يعمل لها، فردّ إلى أسفل سافلين.. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر أنفسهم، فعلوا بها عن هذا الأفق الضيق، ونظروا إلى ماوراء هذه الدنيا.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 8):

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} اختلف في معنى التين والزيتون، وكثرت مقولات المفسرين فيهما، ويرون عن ابن عباس أنه قال فيها: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت، قال تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [40: المؤمنون].
ويروى عن أبى ذرّ أنه أهدى إلى النبيّ صلى اللّه عليه وسلم سل من تين، فقال: «كلوا» وأكل منه، ثم قال: «لو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النّقرس».
وقيل التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى، وقيل: هما جبلان بالشام.. وقيل كثير غير هذا.
ويرجّح القرطبي أنهما التين والزيتون على الحقيقة، وقال: لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل!.
ولكن إذا أخذنا بالقول بأن التين والزيتون هما هاتان الثمرتان- لا نجد جامعة بين التين والزيتون، وبين طور سينين والبلد الأمين.. وعادة القرآن أنه لا يجمع بين الأقسام إلا إذا كانت بينها علاقة تشابه أو تضادّ، وهنا لا نجد علاقة واضحة بين هاتين الفاكهتين، وبين طور سينين والبلد الأمين، اللهم إلا إذا قلنا: إن طور سيناء ينبت فيه التين والزيتون، ويطيب ثمره، فتكون العلاقة بينهما علاقة نسبة إلى المكان، ويقوّى هذه النسبة أن القرآن الكريم أشار في موضع آخر إلى منبت شجرة الزيتون، وأن طور سيناء هو أطيب منبت لها، إذ يقول سبحانه: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} (20: المؤمنون) وقيل: إن التين والزيتون فاكهتان، ولكن لم يقسم بهما هنا لفوائدهما، بل لما يذكّران به من الحوادث العظيمة التي لها آثارها الباقية وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يذكّرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل، من أول نشأته إلى مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم.
فالتين، إشارة إلى عهد الإنسان الأول، فإن آدم- كما تقول التوراة- كان يستظل في الجنة بشجر التين، وعند ما بدت له ولزوجه سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين.. فهذا أول فصل من فصول حياة الإنسان.
والزيتون، إشارة إلى الفصل الثاني، وهو عهد نوح، وذلك أنه بعد أن فسد البشر، وأهلك اللّه من أهلك بالطوفان، ونجّى نوحا ومن معه في السفينة، واستقرت السفينة على اليابسة- نظر نوح- كما تقول التوراة- إلى ما حوله، فرأى الحياة لا تزال تغطى وجه الأرض، فأرسل حمامة تأتى له بدليل على انحسار المياه عن وجه الأرض، فجاءت إليه وفى فمها وريقات من شجر الزيتون، فعرف أن المياه بدأت تظهر على وجه الأرض من جديد! أما طور سينين، فهو إشارة إلى الفصل الثالث من حياة الإنسان، وهو ظهور الشريعة الموسوية، وقد كانت تلك الشريعة دعوة لكثير من أنبياء اللّه ورسوله إلى عهد المسيح عليه السلام، الذي كان خاتمة هذه الشريعة.
وأما البلد الأمين- وهو مكة- فقد كان مطلع الرسالة الخاتمة لما شرع اللّه للناس، وبها يختم الفصل الأخير من حياة الإنسان على هذه الأرض.
وهذه كلها أقوال متقاربة، يمكن أن يؤخذ بأيّ منها، أو بها جميعها.
مسيرة الإنسان.. إلى أمام، أم وراء؟
وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
هو جواب القسم، وهو المقسم عليه، لتوكيده، وتقريره بالقسم.
وفى توكيد هذا الخبر، وهو خلق الإنسان في أحسن تقويم- إشارة إلى كثير ممن تشهد عليهم أفعالهم بأنهم ينكرون خلقهم القويم هذا، ولا يعرفون قدره فينزلون إلى مرتبة الحيوان، ويسلمون قياد وجودهم إلى شهواتهم البهيمية، غير ملتفتين إلى ما أودع الخالق فيهم من عقل حمل أمانة أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فضيع الإنسان هذه الأمانة، ولا كها في فمه كما تلوك البهيمة العشب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ}.
فلقد ردّ الإنسان بهذه الغفلة عن وجوده الحقيقي، إلى الوراء، منكّسا في خلقه، حتى بلغ أدنى مراتب الحيوانية، وصار وراء الحيوان الأعجم الذي تسيره طبيعته التي ركبت فيه، على خلاف هذا الإنسان الذي غيّر فطرته، وانتقل من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان، فلم يصبح حيوانا، ولم يعد إنسانا! يقول الأستاذ الإمام محمد عبده عن الإنسان وخلقه في أحسن تقويم، ورده إلى أسفل سافلين: وما أشبهه- أي الإنسان- في حاله الأولى بثمرة التين، تؤكل كلها، لا يرمى منها شيء.. والإنسان- أي في حاله الأولى- كان صلاحا كله، لم يشذّ عن الجماعة منه فرد، تلك كانت أيام القناعة بما تيسر له من العيش، وشدة الإحساس بحاجة كل فرد إلى الآخر في تحصيله، وفى دفع العوادي عن النفس.. تنّبهت الشهوات بعد ذلك وتخالفت الرغبات، فنبت الحسد والحقد، وتبعه التقاطع، واستشرى الفساد بالأنفس، حتى صارت الأمانة عند بعض الحيوان، أفضل منها عند الإنسان، فانحطت بذلك نفسه عن مقامها الذي كان لها بمقتضى الفطرة، وقد كان ذلك- ولا يزال- حال أكثر الناس. فهذا قوله: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ}! ونظرة الأستاذ الإمام هنا، قائمة على أن الإنسان في حال التذاجة والبدائية كان خيرا منه في حال الحضارة والمدينة، أو بمعنى آخر، أنه كان في حياة الغابة بين الحيوان، لا يتكلف لحياته أكثر ممّا يتكلّف الحيوان، حيث يأكل مما يأكل الحيوان، ويسكن في كهوف، وأجحار كما يسكن الحيوان- كان في هذه الحياة خيرا منه في حياة المدن، وما ولّد له عقله فيها من قوّى سخّر بها الطبيعة، واستخرج منها كنوزها المودعة في كيانها، وأمسك بمفاتح أسرارها، فاستضاء بالكهرباء، واتخذ الهواء مركبا له، بل وصعّد في السماء حتى وضع قدميه على القمر، وهو بسبيل أن يضع أقدامه على الكواكب الأخرى!! ولو صحّ هذا الذي يقوله الأستاذ الإمام، لكان معناه أن الحياة الإنسانية تسير إلى الوراء، وهذا ما لا تسير عليه الحياة، ولا ما تقتضيه سنّة التطور في الكائن الحىّ نفسه.. فالإنسان بدأ من طين، ثم صار خلقا سويّا، في أطوار ينتقل فيها من أسفل إلى أعلى.. من التراب، ثم النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة.. ثم.. ثم.. إلى أن يكون طفلا، ثم غلاما، ثم شابّا، ثم رجلا.. كذلك الشأن في عالم النبات.. البذرة، ثم النّبتة، ثم الشجرة، ثم الدّوحة العظيمة.. وهكذا.. حتى في عالم الجماد.
وإنه لأولى من هذا أن تكون هذه النظرة مقصورة على الأفراد في أنواعها، لا على الأنواع في أفرادها، بمعنى أن الأفراد تدور في فلك محدود يكون لها فيه شروق وغروب، وصعود وهبوط، وازدهار وذبول، ونضج وعطب.. أما الأنواع- مع ما يقع في أفرادها من تحول وتبدّل- فهى سائرة إلى الأمام أبدا، متطورة إلى ما هو أحسن وأكمل.. وشاهد هذا الشرائع السماوية نفسها، فما كملت شريعة السماء إلا في الشريعة الإسلامية، التي التقت مع الإنسان بعد هذه الدورات الطويلة الممتدة من مسيرة الحياة الإنسانية- فهذا هو معيار الإنسان، ووزنه الذي يوزن به! ودورة الإنسان هذه على هذه الأرض هي دورة جزيئة في فلك الوجود، إذاغربت شمسه على هذه الأرض، طلعت من جديد في عالم آخر، هو عالم الخلود!.
أما قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ} فهذا حكم على الإنسان في أفراده، لا في نوعه، فالإنسان- كفرد- يولد- في أىّ زمن من أزمان الحياة الإنسانية {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} بما أودع الخالق فيه من عقل مبصر، وفطرة سليمة، ثم إن كثيرا من الناس يطفئون نور عقولهم بأيديهم، ويغتالون فطرتهم بشهواتهم، فيفسدون وجودهم الإنسانىّ ويردّون إلى عالم الحيوان، وقليل منهم يحتفظون بوجودهم الإنسانىّ- عقلا وفطرة- فيكونون شاهدا قائما على أن الإنسان- في كل زمن هو خليفة اللّه في هذه الأرض، وهو سيّد ما عليها من مخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}.
فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هم الإنسان، وهؤلاء هم الإنسان الذي يتناول من ربّه أجره الإنسان كاملا في الدنيا والآخرة، وإنه لأجر يتكافأ مع هذا الخلق العظيم الذي خلق عليه في أحسن تقويم، لا يناله غيره من عالم الأحياء.. إنه أجر مقدّر بقدره محسوب بشرف خلقه.. أما من نزلوا عن هذا القدر وتخلّوا عن هذا الشرف، فلهم الأجر الذي هم أهله: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} وهل للأنعام إلا أن تسمّن، وتذبح، ثم تكون وقودا للبطون الجائعة؟.
إن الوجود في تطور، وفى نماء، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى:
{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} (1: فاطر).. وإن نظرة في تاريخ الإنسانية لترينا أن الإنسان في أول ظهوره على هذا الكوكب الأرضى، كان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، يسكن الغابات والكهوف، ويعيش عاريا أو شبه عار، لا يستره إلا ورق الشجر أو نحوه، كما لا تزال شواهد من هذا قائمة في البيئات المتخلّفة، كما في الزنوج، والهنود الحمر.
فهذا الإنسان البدائى كان- ولا يزال- محكوما يغرائزه الحيوانية.
أما هذا الإنسان الذي شهد عهد النبوّات، فهو وليد حياة متطورة، قطع الإنسان مسيرتها في مئات الألوف من السنين، حتى أصبح أهلا لأن يخاطب من السماء، وأن تناط به التكاليف الشرعية، وأن يكون محلّا للحساب، والثواب، والعقاب.
والنظرة التي ينظر بها إلى الإنسان على أن أمسه خير من يومه، ويومه خير من غده، وأنه سائر في طريق يتدلّى به سلّما سلّما من السماء إلى الأرض- هذه النظرة خاطئة من وجوه:
فأولا: أنها نظرة محصورة في الوجود الذاتي للإنسان.. فالإنسان في نظرته إلى نفسه يرى أن واقعه الذي يعيش فيه، غير محقّق لرضاه عنه، أيّا كان هذا الوجود، وأيّا كان حظّه مما لم يظفر به غيره.. إنه يتطلع دائما إلى ما هو أفضل.
وثانيا: وتأسيسا على هذا، أن عدم رضا الإنسان عن واقعه، وتطلعه إلى المستقبل الذي لا يجد فيه ما يرضيه- هذا التطلع- يشرف به على عالم مجهول، لا يدرى ما سيطلع عليه منه، فلا يجد إلا الماضي الذي يعيش في ذكرياته، وإنه حين ينظر إلى هذا الماضي لا يذكر منه إلّا ما كان موضع مسرّته ورضاه.. أما ما يسوءه منه فإنه يختفى من حياته، ولهذا كان الحنين إلى الماضي رغبة منبعثة من صدور كل إنسان.
وثالثا: وتأسيسا على هذا أيضا- كان هذا الإحساس الذي يجده الإنسان دائما من تقديس الماضي وتمجيده، وأنه بقدر ما يبعد الزمن في أغوار الماضي، بقدر تعدّد ما يلبس من أثواب التقديس والتمجيد.
فالحياة بخير، والإنسانية في طريقها من الأرض إلى السماء، وليست في هبوط من السماء إلى الأرض!! قوله تعالى: {فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ}.
الدّين هنا، هو ما يدين به الإنسان لخالقه الذي خلقه في أحسن تقويم، وهو الاحتفاظ بهذه المنزلة العالية التي له في عالم المخلوقات، بما له من عقل مبصر، ونظرة سليمة.
والمراد بالتكذيب، هو إنكار هذا العقل، وعدم الإصغاء إليه.
والتخلّي عن هذه الفطرة، وتعطيل وظيفتها.
والاستفهام إنكارى، بكشف عن حال أولئك الذين خرجوا عن إنسانيتهم تلك، وتحوّلوا إلى دنيا الحيوان، بلا عقل، ولا قلب!! وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ} هو إنكار بعد إنكار، لمن زهدوا فيما أودع الخالق فيهم من آياته، فردّوها، وعرّوا أنفسهم منها، كأنهم لا يرضون بما زيّنهم اللّه به، وكأنهم يرون أن ما صنع اللّه بهم ليس على التمام والكمال، فهم يزهدون فيه، ويطلبون لأنفسهم ما هو أحكم وأكمل!! فالتكذيب بالدين لا يكون من إنسان عاقل رشيد، وإنما يكون ممن سفه نفسه وجهل قدره!

.سورة العلق:

نزولها: مكية.. أول ما نزل من القرآن الكريم.
عدد آياتها: تسع عشرة آية.
عدد كلماتها: اثنتان وتسعون كلمة.
عدد حروفها: مائتان وثمانون حرفا.
مناسبتها لما قبلها كانت سورة التين مواجهة للإنسان في خلقه القويم، الجليل، الذي خلقه اللّه عليه، وأن هذا الإنسان إذا استطاع أن يحتفظ بهذا الخلق الكريم، كان في أعلى عليين.. أما إذا لم يحسن سياسة هذا الخلق، ولم يحسن تدبيره فإنه يهوى إلى أسفل سافلين.
وتبدا سورة العلق بهذه الواجهة مع الإنسان في أعلى منازله، وأكرم وأشرف صورة له، وهو رسول اللّه محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، مدعوّا من ربه إلى أكمل كمالات الإنسان، وأكرم ما يتناسب مع كماله وشرفه، وهو القراءة، التي هي مجلى العقل، ومنارة هديه ورشده.
وبهذا تكون المناسبة جامعة بين السورتين، ختاما، وبدءا.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 19):

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}.
يكاد إجماع العلماء والمفسرين ينعقد على أن هذه الآيات الخمس، هي أول ما نزل من القرآن الكريم، وأول ما استفتحت به الرسالة المحمدية.
وقد نزل بها جبريل على النبيّ وهو يتعبد في غار حراء، وقد فجئه الوحى بقوله تعالى: {اقرأ}.
ففى الصحيحين عن السيدة عائشة، رضى اللّه عنها، قالت: «أول ما بدئ به رسول اللّه- صلى اللّه عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يخلوا بغار حار، يتحنث فيه الليالى ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لمثل ذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق، وهو في غار حراء، فجاء الملك، فقال: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ قال فأخذنى فغطّنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ فقلت ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى» فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}.
هذه هي الآيات الخمس الأولى، التي استفتح بها كتاب اللّه الذي نزل على النبيّ.
والنبىّ-صلوات اللّه وسلامه عليه- أمّى، لا يقرأ، وأمره بالقراءة، إنما هو قراءة من هذا الكتاب السماوي، الذي يقرأ منه جبريل، فيقرئ النبيّ منه.. فهى قراءة متابعد لقارئ السماء، جبريل، من كتاب اللّه.
وقوله الملك لنبى: «اقرأ» هو دعوة إلى قراءة من كتاب، والنبي صلوات اللّه وسلامه عليه، لا يقرأ، ثم إنه ليس هناك كتاب يقرؤه لو كان قارئا.
ولهذا كان ردّ النبي: «ما أنا بقارئ»!.. وقد تكرر هذا الموقف بين جبريل، وبين النبي ثلاث مرات: «اقرأ» «ما أنا بقارئ!» أي لا أعرف القراءة.
وفى هذا تنويه بشأن القراءة. وأنها السبيل إلى المعرفة والعلم.
ثم إن الأمية، وإن كانت حائلة بين المرء وبين أن يقرأ في كتاب، فإنها لا تحول بينه وبين العلم والمعرفة، فهناك كتاب الوجود، الذي يقرأ الإنسان آياته بالنظر المتأمل فيه، والبصيرة النافذة إلى أسراره، وعجائبه.. ثم هناك التلقي عن أهل العلم، ممن يقرءون ويدرسون.. فليكن الإنسان قارئا أبدا، على أي حال من أحواله، قارئا بنفسه، أو قارئا متابعا لغيره.
أما أمية النبي الكريم، فهى أمية مباركة، قد فتحت عليه خزائن علم اللّه، إذ بعث اللّه سبحانه وتعالى إليه رسولا من عنده يقرأ عليه كتاب اللّه، ويملا قلبه هدى ونورا منه.
ولهذا كان النبي قارئا، فقرأ حين أقرأه جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}.
وقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي اقرأ بأمر ربك، أي أن جبريل يقول: هذا الأمر الذي آمرك به ليس بأمرى، وإنما هو بأمر ربك، الذي يدعوك إلى أن تقرأ ما أفرئك إياه، من كتاب ربك.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ} [27: الكهف]. وقوله تعالى: {فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [18: القيامة].
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ} هو بيان لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه هو الذي بقدرته خلق الإنسان، هذا الخلق السوىّ {من علق} أي من دم لزج، متجمد.
فالذى خلق الإنسان من هذا العلق، وسوّاه على هذا الخلق، لا يقف به عند هذا الحد، بل هو سبحانه، بالغ به منازل الكمال، بما يفتح له من أبواب العلم والمعرفة.
وقوله تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} أي خذ ما أعطاك ربك من علم، وما دعاك إليه من معرفة، فإن ربك كريم واسع العطاء، لا ينفد عطاؤه.
فقوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} جملة خبرية، تقع موقع الحال من فاعل {اقرأ} وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم، أي اقرأ مستيقنا أن ربك هو الأكرم.. أي ذو الفضل العظيم، والكرم الذي لا حدود له.
وفى تعريف طرفى الجملة الخبرية، ما يفيد القصر، أي قصر صفة الكرم على اللّه وحده.
وقوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}.
أي ومن كرمه سبحانه أنه جعل من القلم الذي هو قطعة جامدة من الحطب، أو الخشب، أداة للعلم والمعرفة، ففتح به على الإنسان أبواب العلوم والمعارف، وجعل من ثماره هذه الكتب التي حفظت ثمار العقول، فكانت ميراثا للعلماء، يرثها الخلف عن السلف، وينميها ويثمرها العلماء جيلا بعد جيل.. وبهذا تعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وبعلمه هذا المستفاد من سلفه، فتح أبوابا جديدة من العلم يتلقاها عنه من بعده، ويفعل فعله، بما يفتح من أبواب جديدة للعلم.. وهكذا تتسع معارف الإنسان، ويزداد علمه على مدى الأجيال.
وهذا يعنى أن الإنسانية متطورة، وسائرة نحو الأمام، بما تتوارث أجيالها من ثمار العقول، التي يتركها السلف للخلف، جيلا بعد جيل.
وهكذا يذهب الناس، كأجساد، وتبقى غراس عقولهم، وثمار أفكارهم.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى}.
هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}.
ومع أن هذه الآية وما بعدها، قد نزلت بعد خمس الآيات التي افتتحت بها السورة بزمن ممتد، إلا أن المناسبة جامعة بينها وبين ما قبلها، وهذا هو السر في سردها في سياقها.. فقد قلنا: إن قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى} هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ}.
والسؤال هو: هل أدّى الإنسان حق هذه النعمة التي أنعمها اللّه عليه؟ وهل كان له من علمه هذا الذي تعلمه، نفع له، وللناس معه؟ والجواب على هذا: {كلّا}.
فإن هذا العلم الذي فتح على الناس وجوه المنافع، وملأ أيديهم من ثمرات الحياة، بمامكن لهم به من الأرض، وما سخر لهم من قوى الطبيعة- هذا العلم، قد فتنهم سلطانه، وأغرى بعضهم ببعض، فاتخذوا منه سلاحا للبغى والعدوان، والتسلط والقهر.. وبهذا طغى الإنسان، وتجبر وظلم، حين رأى نفسه بمنقطع عن الناس، مستغنيا عنهم بجاهه وسلطانه.
وهذا مما لا يعيب العلم، ولا ينقص من قدره.. فإنه وإن يكن استحدث به الإنسان كثيرا من أدوات الإهلاك والتدمير، فلقد استنبط منه ما لا يحصى من النعم الجليلة التي كشفت للإنسان عن فضل اللّه وإحسانه على الناس، كما أقام من آيات اللّه شواهد ناطقة تشهد بجلاله، وعظمته، وحكمته، وتضع الناس وجها لوجه أمام أسرار هذا الكون، وما تنطوى عليه تلك الأسرار من سعة علم اللّه، وعظمة جلاله وقدرته.
وفرق كبير بين الإنسان البدائى، وبين رجل العلم في العصر الحديث، في موقفهما إزاء الوجود، وفى نظرتهما إلى عظمة اللّه وقدرته.. فالبدائى ينظر إلى عوالم الوجود بنظر شارد تائه، لا يبعد كثيرا عن نظر بعض الحيوانات أمام مشرق الشمس أو مغربها.. أما رجل العصر الحديث فإنه ينفذ بنظره إلى أعماق بعيدة في الموجودات، حيث يطلع على أسرار لانهاية لها، يروعه جلالها، ويبهره نظامها وإحكامها.
وشتان بين الإنسان البدائى الذي خاف الطبيعة وظواهرها، فعبدها، وتخاضع بين يديها، وبين الرجل العصرى، الذي أمسك بزمام الطبيعة، وسخرها لخدمته، ونظر إليها نظرة السيد المالك لها.. ثم كان عليه بعد هذا أن يبحث عن السيد المالك له هو، ولهذا الوجود كلّه.. وهو لابد مستدل بعقله على خالق هذا الوجود وسيده، وذلك هو الإيمان الذي لا زيغ معه ولا ضلال.
ولعل هذا يفسر لنا كثرة الأنبياء والرسل في الأزمان السالفة.. ثم قلّتهم شيئا فشيئا كلما تقدم الزمن، وتقدم معه العقل الإنسانى، الذي يقوم مقام الرسول في الدعوة إلى اللّه، والهداية إليه.، ثم انقطاع الرسل والأنبياء بخاتم سيد الرسل ونبى الأنبياء، محمد رسول اللّه، بعد أن بلغت الإنسانية رشدها.
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى}.
هو تهديد لهذا الإنسان الذي جحد نعمة اللّه عليه، واتخذ منها أسلحة يحارب بها الفضيلة، ويقطع بها ما أمر اللّه به أن يوصل.. إن هذا الإنسان راجع إلى ربه يوما، وسيلقى جزاء بغيه وعدوانه.
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى}.
وهذه صورة لهذا الإنسان الذي طغى، حين رأى نفسه ذاقوة وسلطان.
إنه لا يؤمن باللّه، ولا يقف موقف الأولياء منه، بل إنه ليحارب المؤمنين باللّه، ويحول بينهم وبين أداء ما للّه سبحانه وتعالى عليهم من حق.. فجرم هذا الطاغية جرم مضاعف.. فلا هو يؤمن باللّه، ولا يؤدى حق ربه عليه، ولا يدع المؤمنين يؤدّون حق ربهم عليهم.. والاستفهام هنا تعجب من الأمر المستفهم عنه، وتشنيع على فاعله، ودعوة الناس إلى ضبطه وهو قائم على هذا المنكر، متلبس به!! وفى جعل فاصلة الآية الفعل: {ينهى} وفى قطع الفعل {ينهى} عن معموله، وهو {عبدا إذا صلى} في هذا تشنيع على طغيان هذا الطاغية فإذا.
استمع مستمع إلى قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى} وقع في تفكيره لأول وهلة، أن هذا الإنسان إنما ينهى عن منكر، لأن هذا هو شأن ما ينهى عنه.. فإذا فاجأه الخبر بأن ما ينهى عنه هذا الآثم، إنما هو الصلاة والولاء للّه رب العالمين اشتد إنكاره له، وتضاعفت جريمته عنده.
والنهى هنا بمعنى المنع، لأن الذي يملك النهى عن فعل الشيء، يملك منع المنهىّ عن فعله، إذ النهى في حقيقته لا يكون إلا من ذى سلطان متمكن ممن ينهاه، ويقدر على منعه مما نهاه عنه.
وفى قوله تعالى: {عبدا} إشارة إلى أن هذا المنهي عن الصلاة، هو في مقام العبودية والولاء لربه.. فهو عبد، ولكنه سيد الأسياد جميعا في هذه الدنيا، إذ كان عبد اللّه رب العالمين.
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى} {أرأيت} هنا، استفهام إنكارى، بمعنى ماذا ترى من حال هذا الأثيم الذي ينهى عبدا عن الصلاة، ويحول بينه وبينها؟ ثم أرأيت لو أنه كان في موقف آخر غير هذا الموقف، فكان قائما على طريق الهدى، مؤمنا بربه، مواليا له، آمرا بالبر والتقوى بدلا من نهيه عن البر والتقوى؟ فاىّ حاليه كان خيرا له وأهدى سبيلا؟ أحال الضلال، والعمى، والصد عن سبيل اللّه، أم حال الاستقامة والهدى والدعوة إلى اللّه؟ وشتان بين الظلام والنور، والشر والخير، والكفر والإيمان! وقوله تعالى:
{أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى}.
أي ثم ماذا ترى من حال هذا الضال، وقد أبى أن يكون على الهدى أو يأمر بالتقوى، بل كذب بآيات اللّه، وتولى معرضا عمن دعاه إلى اللّه، ورفع لعينيه مصابيح الهدى؟ فأى إنسان هذا؟ وبأى نظر ينظر، وبأى عقل يفكر ويميز بين الخير والشر؟ {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى}؟ أسفه نفسه حتى أنكر أن لهذا الوجود إلها قائما عليه، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟ ألا يخاف بأس اللّه؟ ألا يخشى عقابه؟
وقوله تعالى:
{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ}.
هو ردّ على هذا السؤال في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى}.
وكلا، إنه لا يعلم بأن اللّه مطلع على كل شيء، ولو كان يعلم هذا علما مستيقنا لخاف ربه وخشى بأسه، ولكن ضلاله أعمى قلبه، وأظلم بصيرته، فلم يرى جلال اللّه، ولم يشهد عظمته، ولم يخش بأسه! وقوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} هو وعيد وتهديد لهذا الضال إن لم ينزع عن ضلاله، ويرعو عن غيه، ويثوب إلى رشده، ويؤمن بربه، ويستقم على الهدى- لنسفعن بناصيته، أي لنجرنّه من رأسه جرّا إلى جهنم كما يقول سبحانه: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ}.
وفى هذا امتهان أي امتهان، وإذلال أي إذلال لهذا المتشامخ بأنفه، المتطاول برأسه! وقوله تعالى: {ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ} أي هي رأس فارغة من كل خير، حشوها الكذب والضلال، ونبتها الخطيئة والإثم، فكانت النار أولى بها، حطبا ووقودا.
وقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ}.
أي ها نحن أولاء آخذون بناصية هذا العتلّ الأثيم إلى جهنم كما يؤخذ برأس الكبش من قرونه، فليهتف بناديه أي أهل النادي الذي يأخذ مجلسه بينهم، ويدير أحاديث الإثم والضلال عليهم.. أما نحن فسندعو الزبانية الذين يأخذون بناصيته إلى جهنم.. فهل من أصحابه من يخفّ له، ويسعى إلى تخليصه من يد الزبانية؟ هيهات هيهات.. لقد علقت أيديهم به، ولن يفلت حتى يلقى به في جهنم، مع جماعة السوء الذين انضوى إليهم، واعتزّ بهم.
وقوله تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}.
هو رد على قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى} أي لا تسمع لنهى هذا الغوى، ولا تخش بأسه.. إنه مأخوذ بناصيته إلى جهنم بيد الزبانية.. وإذن فاسجد لربك واقترب منه بهذا السّجود.. كما يقول الرسول الكريم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد».
والزبانية، جمع زبنيه، أو زبنى.. وأصله من الزّبن، وهو الدفع.
يقال زبنه، أي دفعه ليزيله عن موضعه.. وهم ملائكة العذاب الموكلون بأهل النار يدعّونهم إلى جهنم دعّا.
قيل إن هذه الآيات نزلت في أبى جهل، وقد كان يعترض النبيّ في الصلاة، ويترصد له، ويتهدده كلما ألمّ بالبيت الحرام.. وقد جاء في الخبر أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمد يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه.. فجاءه من يقول له:
إن محمدا يصلى في الكعبة، فاتجه إليه يريد أن يفعل فعلته، فما كاد يقارب النبيّ حتى رأى فحلا هائجا يريد أن ينقض عليه، فولّى مذعورا مبهورا.. فلما رأى القوم منه ذلك، سألوه ما به.. فقص عليهم ما رأى.. ولما بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك قال: «لو فعل لأخذته الملائكة»!! والخطاب مع هذا عام، لكل من هو أهل للخطاب.