فصل: سورة النصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.سورة النصر:

نزولها: مدنية.. اختلف في ترتيب نزولها، والرأى عندنا أنها نزلت قبل فتح مكة عدد آياتها: ثلاث آيات عدد كلماتها: ست وعشرون كلمة عدد حروفها: أربعة وسبعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
آذن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- المشركين في سورة {الكافرون} التي سبقت هذه السورة- آذانهم بكلمة الفصل بينه وبينهم {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
.. ووراء هذه الكلمة الحاسمة القاطعة، التي أخذ بها النبي طريقه إلى ربه ومعبوده، واتخذ بها المشركون طريقهم إلى آلهتهم ومعبوداتهم- وراء هذه الكلمة تشخص الأبصار إلى مسيرة كلّ من النبي والمشركين الذين أخذوا طريقا غير طريقه، لترى ماذا ينتهى إليه الطريق بكل منهما.
وتختفى عن الأبصار طريق أهل الشرك، وتبتلعهم رمال العواصف الهابّة عليهم من صحراء ضلالهم.
أما الطريق الذي أخذه النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، فها هو ذا النصر العظيم يلقاه عليه، وها هو ذا الفتح المبين ترفرف أعلامه بين يديه، وها هو ذا دين اللّه الذي يدعو إليه، قد فتحت أبوابه، ودخل الناس فيه أفواجا.
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 3):

{إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً}.
إذا ظرف، شرطىّ، لما يستقبل من الزمان.. وهذا يعنى أن ما بعدها لم يتحقق بعد، وهو إذا كان وعدا من اللّه سبحانه وتعالى، فإن تحققه أمر لا شك فيه، وهو واقع موقع اليقين من المؤمنين قبل أن يتحقق.
ونصر اللّه والفتح، هو نصر دين اللّه، بنصر النبي والمؤمنين على المشركين، ومن اجتمعوا معهم على حرب النبيّ والمؤمنين، والوقوف في وجه دين اللّه، الذي يدعو إليه رسول اللّه.. والفتح، هو فتح مكة، التي كان مشركوها هم القوة المحركة لكل عدوان على النبيّ والمؤمنين.. فإذا فتحت كان فتحها هو النصر المبين، والفتح العظيم.
وهذا يعنى أن هذه السورة، نزلت قبل فتح مكة، فكانت من أنباء الغيب، ومن البشريات التي بشر بها النبي والمسلمون، في وسط هذا الصراع الدائر بينه وبين المشركين.
وتكاد الأخبار التي يرويها المفسرون- تجمع على أن هذه السورة كانت من أواخر ما نزل من القرآن، وأنها نزلت بعد سورة الفتح، وقبيل وفاة النبي صلوات اللّه وسلامه عليه بأيام، قيل عنها في أكثر الروايات إنها كانت ثمانين يوما!! وهذا ما نخالفهم فيه.
فالقرآن الكريم صريح في أن قوله تعالى: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً} هو وعد، يتحقق في زمن مستقبل.. فهذا ما ينطق به صريح النظم القرآنى.. ولن يعدل بنا شيء عن الأخذ بمنطوق الآية الكريمة. ولهذا فإنا نقول- في ثقة واطمئنان، وفى قطع ويقين: إن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وفى أشد مواقف النبي حرجا وضيقا، وهو في مواجهة أهل الشرك والضلال- فكانت مددا من أمداد السماء، وزادا من عند اللّه، يتزود به النبي وأصحابه، فيما امتحنوا به في أنفسهم وأموالهم.. إنها طاقة من النور السماوي، في وسط هذا الظلام الكثيف، يرى المؤمنون على ضوئها وجه المستقبل المشرق، الذي وعدهم اللّه فيه بالنصر، والفتح! وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً}.
والتسبيح أولا، لأنه المطلوب في مقام الشكر، على هذه النعمة العظيمة، بالنصر والفتح.. ثم الاستغفار ثانيا، مما وقع من تقصير في حق اللّه على مسيرة الجهاد، حتى جاء يوم النصر، والفتح.
فعلى مسيرة الجهاد، وفى أوقات الشدة والضيق، وفى مواقع الهزيمة، وفقد الأحباب والأعزاء، تتغير مواقف المجاهدين، وتحوم حول مشاعرهم خواطر تهز إيمانهم، على درجات مختلفة، حسب ما في النفوس من إيمان، وما في القلوب من يقين.
فالنفس البشرية- أيا كانت من وثاقة الإيمان باللّه- تعرض لها في الشدائد والمحن، عوارض، من الخواطر، والتصورات، لا ترضاها لدينها، وإيمانها بربها في ساعة اليسر، وفى أوقات السلام والأمن.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [110: يوسف] وقوله تعالى عن النبي وأصحابه: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ} [214: البقرة] ويقول سبحانه عن المؤمنين في غزوة الأحزاب: {إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [10: الأحزاب]- وقد صرح المنافقون والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين- صرحوا عن ظنونهم باللّه يومئذ، فقالوا ما ذكره اللّه تعالى عنهم من قولهم: {ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [12: الأحزاب].
فدعوة النبي إلى الاستغفار، هي دعوة له، وللمؤمنين معه- من باب أولى- إلى لقاء اللّه تعالى تائبين مستغفرين، بعد أن يتم اللّه عليهم نعمة النصر والفتح، ويبلغ بهم منزل السلامة والأمن.. وإنه ليس في هذا الاستغفار إلا مراجعة لما وقع في النفوس من ظنون باللّه عند بعض المؤمنين، أو ضجر من الصبر على البلاء عند بعض آخر، أو شعور بشيء من الأسى والحزن عند فريق ثالث.
وهكذا وذلك في مسيرتهم على طريق الضرّ والأذى، إلى أن لقيهم نصر اللّه والفتح.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً} أي كثير التوبة على عباده، واسع المغفرة لذنوبهم.. وفى المبالغة في التوبة دلالة على كثرتها، والدلالة على كثرتها، دلالة على كثرة ذنوب العباد، وما وقع لهم في مسيرتهم على الجهاد، مما ينبغى أن يتطهر منه المجاهدون، وأن يصفّو حسابهم معه بالتوبة والاستغفار، بعد أن رأوا ما رأوا من قدرة اللّه، ومن إحسانه وفضله عليهم.. وهذا مثل قوله تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [117: التوبة].

.سورة المسد:

نزولها: نزلت بمكة.. بعد الفاتحة.
عدد آياتها: خمس آيات.
عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة.
عدد حروفها: سبعة وسبعون حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كانت سورة النصر- كما قلنا- مددا من أمداد السماء، تحمل بين يديها هذه البشريات المسعدة للنبىّ وللمؤمنين، وتريهم رأى العين عزّة الإسلام، وغلبته، وتخلع عليهم حلل النصر، وتعقد على جبينهم إكليل الفوز والظفر.
وتحت سنابك خيل الإسلام المعقود بنواصيها النصر، والتي هي على وعد من اللّه به- حطام هذا الطاغية العنيد الذي يمثّل ضلال المشركين كلّهم، ويجمع في كيانه وحده، سفههم، وعنادهم، وما كادوا به للنبىّ والمؤمنين.
إنه أبو لهب.. وامرأته حمالة الحطب.
سورة اللهب.. ونظمها:
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 5):

{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}.
التفسير:
أبو لهب كما أشرنا من قبل، كان أبرز معلم من معالم الجاهلية، التي واجهتها الدعوة الإسلامية، بما كان عليه هذا الجهول من طيش طاغ، وضلال مبين.
ومع أنه كان عمّ النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكان مما تقضى به التقاليد العربية الجاهلية الانتصار للقريب، ظالما أو مظلوما، كما كان ذلك شأنهم-
فإن هذا الشقي كان من أسفه السفهاء على النبي، وأشدهم عدوانا عليه، وأكثرهم أذى له، حتى إنه- وعلى غير تقاليد الجاهلية- يدخل معه امرأته في هذه العداوة، ويجرها جرّا إلى تلك المعركة التي يخوضها ضد النبيّ، ولهذا كان لرجل الوحيد من قريش الذي ذكره القرآن باسمه، وأعلن في العالمين عداوته للّه، وغضب اللّه عليه، ووقوع بأسه وعذابه به، وذلك ليكون لعنة على كل لسان إلى يوم الدين، لا يذكر اسمه إلا ذكر مدموغا باللعنة، مرجوما بالشماتة والازدراء، تتبعه امرأته مشدودة إليه بحبل من مسد، كما كانت مشدودة إليه في الدنيا بحبل عداوتهما للنبى، وحسدهما له.
وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.
التب: القطع للشيء.. وهو كالبت.. ولفظه يدل على القطع والحسم، ويحكى الصوت الذي يحدث عند فصل الشيء عن الشيء.
والمفسرون مجمعون على أن هذا دعاء على أبى لهب من اللّه سبحانه وتعالى، بقطع يديه، أي قطع القوى العاملة فيه، الممكّنة له من الشر والعدوان، وهما يداه اللتان يبطش بهما، إذ كان اليد دائما هي مظهر آثار الإنسان، بها يأخذ، وبها يعطى.. فإذا ذهبت اليد اليمنى، قامت اليسرى مقامها، فإذا ذهبت اليدان أصبح الإنسان معطل الحركة، عاجزا عن أن يحصّل خيرا، أو يتناول خيرا، أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه، إنه هالك لا محالة، ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: {وتب} أي هلك هو، بعد أن قطعت يداه.
والرأى عندنا- واللّه أعلم- أن هذا الخبر على حقيقته، وأنه خبر مطلق، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء.. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلا، وحل به البلاء منذ اتخذ من النبي، ومن الدعوة الإسلامية، هذا الموقف الأثيم الضال.
لقد ركب الطريق الذي لا نجاة لسالكه، ولا سلامة لسائر فيه، وكذلك امرأته التي ركبت معه هذا الطريق، وعلقت فيه حبالها بحباله.
والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد، إشارة تحقق وقوعه، وأنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع، إذ تقدمته أسبابه، وقامت علله، التي تدفع به دفعا إلى الواقع المحتوم.. وفى هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية الأثيم، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع، على حين لا يزال شبحا يتحرك بين الناس.. إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت، ينتظر ساعة التنفيذ فيه!! وقوله تعالى: {ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ}.
هو تعقيب على هذا الخبر، فقد هلك أبو لهب، ونزل به ما نزل من هوان وخسران، دون أن ينفعه هذا المال الذي جمعه، واعتز به، ولا هؤلاء الأبناء الذين اشتد ظهره بهم.. لقد تخلى عنه ماله وولده جميعا، وتركوه لمصيره الذي هو صائر إليه.. إنه في قيد الهلاك وهو بين أيديهم.. فهل يستطيع أحد أن يمد يده إلى نجاته؟ إنه بين مخالب عقاب محلق به في السماء.. إن سقط من بين مخالبه هلك، وإن مضى به هلك!! وما كسبه أبو لهب، هو أولاده، لأن الولد من كسب أبيه، ومن تثميره، كما يقول النابغة الذبياني:
مهلا فداء لك الأقوام كلّهم ** وما أثمر من مال ومن ولد

قيل إن أبا لهب قد أصيب بداء يسمى العدسة- ولعله الطاعون- وكانت العرب تخشى هذا الداء، وتتحاشى المصاب به، وكان ذلك بعد غزوة بدر ببضعة أيام، فلما مات بدائه هذا، لم يقترب أحد من أبنائه لمواراته في التراب، خوفا من هذا الداء، بل ألقوا عليه الحجارة من بعيد حتى أخفوا جثته، وكأنهم يرجمونه، ويشيعونه بهذه الرجوم، وهم يذرفون الدمع الحزين عليه!! وقوله تعالى: {سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ}.
هذا وعيد من اللّه سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب في الآخرة، بعد أن عرف مصيره في الدنيا، وأن كل ما كان يكيد به للنبى، قد ردت سهامه إليه، فرأى بعينيه في الدنيا، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم بدر، وكيف قتل صناديدها، وأسر زعماؤها.
وفى وصف النار بأنها ذات لهب، إشارة إلى شؤم هذا الاسم الذي تسمى به، أو الكنية التي تكنّى بها أبو لهب.
فقد ولد، وهو يلبس هذا الثوب الناري، الذي جعل منه وقودا يشتعل، ويتلهب، وكأنه شارة من شارات جهنم ذات اللهب التي يلقاها في الآخرة، ويصلى جحيمها.. إنه من لهب، وإلى اللهب.
وقوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}.
معطوف على فاعل {سيصلى} أي سيصلى هو نارا ذات لهب، وستصلى امرأته معه هذا النار، ذات اللّهب.
وقوله تعالى: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} منصوب على الذّم، بفعل محذوف قصد به التخصيص للصفة الغالبة عليها، وتقديره: أعنى، أو أقصد.. حمالة الحطب.
و{حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي حمالة الفتنة، التي تؤجج بها نار العداوة، وتسعى بها بين الناس، لتثير النفوس على النبي، وتهيج عداوة المشركين له.. فقد كانت امرأة أبى لهب- واسمها أم جميل بنت حرب، أخت أبى سفيان- كانت أشدّ نساء قريش عداوة للنبى، وسلاطة لسان، وسوء قالة فيه، كما كان ذلك شأن زوجها أبى لهب من بين مشركى قريش كلهم.. وهكذا تتآلف النفوس الخبيثة، وتنزاوج، وتتوافق، وتتجاذب! وقيل حمالة الحطب: أي حمالة الذنوب، التي أشبه بالحطب الذي يتخذ وقودا، والذي يتعرض لأية شرارة تعلق به فتأنى على كل ما اتصل من أثاث وغيره، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ} [31: الأنعام].
وانظر إلى الإعجاز القرآنى في وصف امرأة أبى لهب، وسعيها بالفتنة، وإغراء الصدور على النبي- بأنها حمالة الحطب.. فهذا الحطب الذي تحمله، مع مجاورته للهب الذي هو كيان زوجها كله، لابد أن يشتعل يوما، وقد كان.
فأصبح الرجل وزوجه وقودا لنار جهنم.
وانظر مرة أخرى إلى هذا الإعجاز في التفرقة بين أبى لهب وحمالة الحطب.. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار، بما تطاير من شرره إلى هذا الحطب الذي تحمله، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء.. إنها كانت تحمل حطبا، وحسب.. وهذا الحطب- وإن كان من وقود النار- إلا أنه قد يسلم منها، لو لم يخالطها، ويعلق بها.. وأما وقد خالطها أبو لهب فلابد أن تشتعل، وتحترق! وقوله تعالى: {فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}.
الجيد: العنق، والجيد من محاسن المرأة، وسمى جيدا من الجودة، وفيه تضع المرأة أجمل ما تنزين به من حلى وجواهر.
والمسد: الليف، أو ما يشبهه، مما تتخذ منه الحبال.
وفى تعليق هذا الحبل في جيد أم جميل، تصوير بليغ معجز لشناعة هذه المرأة، وفى تشويه خلقها.. فما أبشع جيد امرأة كان من شأنه أن يتحلى بعقد من كريم الجواهر، يشدّ إليه حبل من ليف.. إنه إهانة لعزيز، وإذلال لكريم.. وإن الإهانة للعزيز، والإذلال للكريم، لأقتل للنفس، وأنكى للقلب، من إهانة المهين، وإذلال الذليل! فكلمة جيد هنا مقصودة لذاتها، إنه يراد بها ما لا يراد بلفظ رقبة، أو عنق.. إنها تنزل امرأة من عقائل قريش، ومن بيوتاتها المعدودة فيها، لتلقى بها في عرض الطريق، وهى تحمل على ظهرها حزم الحطب، وتشدها إلى جيدها بحبل من ليف!! ولهذا فزعت المرأة، وولولت حين سمعت هذا الوصف الذي وصفها القرآن الكريم به، فخرجت- كما يقول الرواة- في جنون مسعور، تستعدى قريشا على النبي الذي هجاها- كما تزعم- هذا الهجاء الفاضح، وعرضها عارية على الملأ! وحق للمرأة أن تفزع وأن نجنّ، فلقد كانت هذه الصورة التي رسمها القرآن لها، وعرضها هذا العرض المذل المهين لها، حديث قريش- نسائها ورجالها- ومادة تندرها، ومعابثها، زمنا طويلا.
وأكثر من هذا.
فإن النظم الذي جاءت عليه السورة الكريمة، قد جاء في صورة تغرى بأن تكون أغنية يتغنى بها الولدان، ويحدو بها الركبان، ويتناشد بها الرعاة.
إنها تصلح أن تكون- في نظمها- غناء، أو نشيدا، أو حداء.. ولا نحسب إلا أنها كانت، بعد أيام قليلة من نزولها، نشيدا مرددا في طرقات مكة، على ألسنة الصبيان، وفى البوادي على أفواه الرعاة، والحداة، وأنها قد أخذت صورا وأشكالا من الأوزان، والأنغام، التي تولدت من نظمها العجيب المعجز. انظر.
ألا يمكن أن تنشد هكذا: تبت يدا أبى لهب/ وتبّا ما أغنى عنه ماله/ وما كسبا سيصلى نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة الحطب في جيدها/ حبل من مسد ثم ألا يمكن أن تكون صوت حداء.. هكذا:
تبت يدا أبى لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب.
سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب.
فى جيدها حبل من مسد؟.
ثم ألا يمكن أن تكون نشيد رعاة.. هكذا:
تبّت يدا/ أبى لهب/ وتب ما أغنى عنه/ ماله/ وما كسب سيصلى/ نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة/ الحطب في جيدها/ حبل/ من مسد؟ وهكذا، يمكن أن تتوالد منها الصور، وتتعدد! وفى الإخبار عن أبى لهب وامرأته بأنهم من أهل النار، وفى مواجهتهم بهذا الخبر، ثم موتهم بعد هذا على الكفر- في هذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي ساق أبا لهب وامرأته إلى النار وهما حيان يرزقان.. ولو أن أبا لهب آمن باللّه- ولو حتى عن نفاق- لأقام حجة قاطعة على كذب النبي، وافتراء ما جاء به، لأن النار التي توعدها اللّه إنما هي لكفره، فلو أعلن الإيمان لما كان لهذا الوعيد حجة عليه، بل كان حجة على القرآن بأنه مفترى. ولكن أنّى يكون هذا، وقد قضى اللّه بعذابه في جهنم، ونزل القرآن بالخبر القاطع بهذا؟
إنها كلمة واحدة كانت تخرج من فم أبى لهب أو امرأته، بإعلان إسلامهما، فيقضى بها على محمد ودعوته.. وهذه معجزة متحدية من معجزات القرآن، الذي أمسك لسان الرجل والمرأة عن أن ينطقا بهذه الكلمة، بكلمة الإسلام، في أوضح صورة، وأكملها وأصرحها، كما جاءت بها سورة الإخلاص.
وتلك شهادة قائمة على الدهر، بأن هذا القرآن كلام اللّه، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.