فصل: تفسير الآيات (123- 126):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (123- 126):

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)}.
التفسير:
بعد أن استحضرت الآيتان (121، 122) المقدمات الأولى لمعركة أحد، إذ غدا النبيّ خارجا منزله إلى حيث يلقى العدو، الذي وقف عند مشارف المدينة، يفكر في دخولها ولقاء المسلمين فيها، أو محاصرتهم داخلها إلى أن يخرجوا للقائه.. ولكن رأى النبي وأصحابه كان قد انتهى- بعد مشاورات كثيرة كادت تؤدى إلى فرقة وانقسام في صفوف المسلمين- انتهى إلى لقاء العدو- خارج المدينة عند أحد.
نقول- بعد أن استحضرت الآيتان السابقتان، هذه المقدمات الأولى للمعركة، جاءت آيات القرآن الكريم بعد هذا مباشرة، تحدّث المسلمين بمعركة بدر التي كانوا قد خاضوها منذ عام، مع هذا العدو الذي جاء إليهم بعدد عديد، وعتاد كثير، على حين كانوا هم في أعداد قليلة، وعدة هزيلة، ولكن اللّه أيدهم بنصره، وكيب الهزيمة والخزي والخذلان على عدوهم.
وفى إثارة هذه الأحداث من معركة بدر في خواطر المسلمين، وهم على مشارف معركة جديدة توشك أن تبدأ بينهم وبين هذا العدو، الذي عرفوه، وذاقوا طعم النصر عليه، ورأوا رأى العين أمداد السماء لهم يومئذ- في إثارة هذه الأحداث، في هذه اللحظة الحاسمة، ما يطمئن الخواطر المضطربة، وما يقطع على المسلمين هذا الجدل المحتدم بينهم- في لقاء العدو، داخل المدينة أو خارجها.
ذلك ليعرفوا أن مكان لقاء العدو ليس هو العامل الأول في المعركة، وليس العدد ولا العتاد هو كل شيء في كسب النصر، وإنما السلاح العامل أولا وقبل كلّ شيء في بلوغ النصر، هو الإيمان باللّه، وتوجيه القلوب إليه، وإخلاص النية في الجهاد في سبيله، فذلك هو الذي يجعل ميزان المؤمن يرجح عشرة من غير المؤمنين في ميدان الحرب.
وليس ذلك بالذي يعفى المؤمنين من النظر في إعداد العدة للقاء العدو، واتخاذ الحيطة والحذر منه، وسدّ المنافذ والثغرات التي ينفذ منها إليهم، فهذا كلّه وكثير غيره، هو من عدد النصر وأسلحته، التي يجد منها المؤمن قوة، إلى قوة إيمانه وتوكله على اللّه.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} صورة قوية نابضة بالحياة، تجمع في كلماتها القليلة تلك، كل مشاهد المعركة، وتستحضر كل أشخاصها، ومشخصاتها، من بدئها إلى خاتمتها.
وأول ما يذكر المسلمون عن هذا اليوم، وأهمّ ما يجدونه في خواطرهم منه، أنهم انتصروا نصرا حاسما، من حيث كان لا يرجى لمثلهم نصر في هذه الموقعة، لقلة عددهم، وضالة عدّتهم، مع كثرة عدوّهم، وقوة عدده! وهنا أمر لا يدع لأحد شكّا حتى عند من لا يؤمنون باللّه، هو أن يدا قوية غير منظورة لأحد، هي التي أدارت تلك المعركة، وقلبت أوضاعها، وبدّلت موازينها!
والذلّة التي وصف القرآن بها المسلمين هنا ليست ذلّة نفسيّة، ولا ضعفا قلبيا، وإنما هي ذلّة حاجة وعوز، وقلة في المال والرجال، بحيث يخفّ ميزان أصحابها في أعين الناس، حين ينظرون إلى ظاهرهم هذا.
فوصف المؤمنين بالذلّة هنا، إنما هو وصف للحال الظاهر منهم للناس.. أما في حقيقة أنفسهم، فهم من إيمانهم باللّه، وثقتهم فيه، وتوكلهم عليهم واستعلائهم على حاجات الجسد، ومتاع الحياة- هم في عزّة عزيزة، تستخف بكل قوى المادة وعتوّها.
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعقيب على هذه النعمة التي أنعم اللّه بها على النبيّ وأصحابه، يوم بدر، فمكّن لهم من رقاب أعدائهم، ومنحهم النصر عليهم، ذلك النصر الذي لم يتوقعه أحد.
فحقّ على المؤمنين أن يزداد إيمانهم باللّه، وإقبالهم عليه، حتى يبلغ بهم هذا الإيمان وذلك الإقبال منازل المتقين، وعن هذه التقوى يكون الشكران للّه على ما أنعم عليهم.. بل إن هذه التقوى في صميمها هي شكران للّه أعظم الشكران وأكمله، فما شكر اللّه، ولا حمده، ولا عرف فضله وقدره من لم يتّقه حق تقواه، فيأتى ما استطاع من أوامره، ويجتنب ما استطاع من نواهيه.
فإنه بغير التقوى تكون العبادات والطاعات مجرّد مظاهر جوفاء، لا ثمرة لها، ولا جزاء عليها.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [27: المائدة].
وقوله سبحانه: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} هو عرض وتذكير لما كان في يوم بدر من أمداد السماء للمسلمين، حين بشرهم الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بأن اللّه ممدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من عالمهم العلوىّ، ليشاركوا في معركة الحق، ولينصروا أنصار اللّه، المجاهدين في سبيله.
وقوله تعالى: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} هو تأكيد لهذا الوعد الكريم من اللّه تعالى الذي تحقق يوم بدر بهذا المدد السماوي، والذي شهد المسلمون آياته يوم بدر.. ثم هو عرض لوعد آخر معلّق على ما يكون عند المؤمنين من صبر وتقوى، فإن كان منهم هذا لم يكن المدد السماوي ثلاثة آلاف ملك وحسب، بل إن اللّه سبحانه وتعالى سيمدهم بخمسة آلاف في هذه المعركة التي توشك أن تنشب بينهم وبين المشركين، في أحد.
والملائكة المسوّمون: هم المعلّمون، أي لهم شارات يعرفون بها.
وهنا سؤال:
ما هذا المدد السماوىّ؟ وما هي صورته؟ وكيف يكون عمله في المعركة؟
وهل يكون على هيئة الرجال، أو الفرسان.. أو بين الرجال والفرسان؟
أم ماذا؟
والجواب على هذا من وجوه:
أولا: أنه يجب التصديق تصديقا مطلقا بما أخبر به القرآن، وأن الملائكة قد كانوا بالأعداد التي ذكرها للّه، وأنهم كانوا جندا مع جنود اللّه في تلك المعركة.
ثانيا: أن هذا المدد السماوىّ كان روحا من عند اللّه، لبست المؤمنين، وأحاطت بهم، فكانت قوة راسخة في قلوبهم، ودروعا حصينة على صدورهم، وسيوفا قاطعة في أيديهم! وما كان لهذه القوى أن تظهر عيانا للناس، وإلا كانت فتنة لهم.. ولكن يجد المؤمنون أثرها في أنفسهم، كما يجد المشركون مسّها الرعب لقلوبهم!
ثالثا: تجسيد هذه القوى السماوية للمسلمين في الخبر الذي أخبروا به، وتحديد أعدادها، هو لتطمين قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم.
رابعا: أن هذه القوى السماوية لو جسّدت لكانت رجالا وفرسانا، ولو عدّت لكان حسابها في الرجال والفرسان بثلاثة آلاف من المقاتلين.
خامسا: في قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} إشارة إلى أن هذا التجسيد، وتحديد العدد لتلك القوى السماوية التي تعمل معهم، إنما هو لتطمين قلوبهم، وليكون لهم من فرحة هذه البشرى قوة يرون منها خاتمة هذه المعركة قبل بدئها، وأنهم هم المنتصرون.
سادسا: كانت أعداد المسلمين يوم بدر نحو ثلاثمئة، وكان حساب المسلم في قتاله للمشركين يومئذ بعشرة منهم كما يقول اللّه تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [65: الأنفال].
فالمسلمون الذين قاتلوا يوم بدر وإن كانوا ثلاثمائة، هم في قوتهم، وفى حسابهم في المقاتلين ثلاثة آلاف..!
وعلى هذا، فإن لنا أن نفهم أن هذه الثلاثة آلاف التي كانت مددا من السماء يوم بدر، قد كانت قوى سماوية، وأرواحا علوية لبست المسلمين، فإذا كل رجل منهم عشرة رجال! بل عشرة أرواح علوية سماوية، بل عشرة ملائكة.. {وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ} [31: المدثر].
هذا، وقد جاء في سورة الأنفال في غزوة بدر قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [9- 10: الأنفال].
وهنا نجد المدد السماوىّ ألفا من الملائكة لا ثلاثة آلاف، ولكن في قوله تعالى: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وفى وصف الملائكة بالمردفين- ما يشعر بأن وراءهم أمدادا أخرى، تجيء مرادفة لهم، وفى أعقابهم، ويؤيد هذا قراءة السّدّى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.
كذلك يجيء التعقيب على هذا المدد السماوي، بأنه لم يكن إلا بشرى للمؤمنين وتطمينا لقلوبهم، كما جاء ذلك في آية آل عمران التي نحن بين يديها الآن! وقوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ} وقوله في سورة الأنفال: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى} بزيادة {لكم} هناك، لاختلاف المقامين.. حيث أن الخطاب في آية الأنفال كان والمسلمون يواجهون الحدث مواجهة واقعية، ويتلقون بشريات السماء وهم مشتبكون مع العدو، فلا حاجة إلى تعيينهم بقوله سبحانه {لكم} على خلاف ما جاء في آية آل عمران، إذ كان نزولها والمسلمون مقدمون على حرب المشركين، في أحد، فجاءت هذه الآية مع أخواتها لتذكرهم بفضل اللّه عليهم في يوم بدر، فكان التعيين بقوله {لكم} هنا لازما. إذ كان كثير من المسلمين الذين يشهدون أحدا اليوم لم يشهدوا بدرا بالأمس! كذلك ما جاء في قوله تعالى في آل عمران: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} وفى الأنفال: {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} فلاختلاف المقامين اختلف الأداء للمعنى المراد.. فالمسلمون الذين خوطبوا في سورة الأنفال كانوا في مواجهة المعركة في بدر، وقلوبهم مضطربة واجفة تنظر إلى ما يطلع عليها من فضل اللّه ورحمته، فقدم ما بشّروا به من أمداد السماء، وهو المشار إليه بالضمير في {به} على القلوب لأنه هو المطلوب لها.. أما في آية آل عمران، فهو تذكير بهذا الحدث، فجاء ذكره على الأسلوب الذي يقتضيه النظم المعتاد في لغة العرب.. الفعل، فالفاعل، فالمتعلقات: {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}.
ويشبه هذا ما جاء في قوله تعالى هنا في آل عمران: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وما جاء في سورة الأنفال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وأحسبك لا يخفى عليك الحال الداعي لاختلاف الأداء اللفظي في الآيتين.
ولكن لا بأس من أن نشير إليه، كما أشرنا إلى سابقيه من قبل! ففى آية الأنفال تقرير وتوكيد لعزة اللّه وحكمته: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
وهذا التقرير والتوكيد لازمان في هذا الموقف، الذي كان يقفه المسلمون في قلّتهم، وضالة شأنهم إزاء الجيش القوى الزاحف عليهم، فإذا جاءتهم البشرى بنصر اللّه، محمولة بما وعدهم على لسان نبيّه، ثم أتبعت هذه البشرى بالتذكير بعزة اللّه وحكمته في هذا الأسلوب المؤكد {أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} كان لذلك وقعه في القلوب وأثره في النفوس! أما في آية آل عمران، فالشأن مختلف.. إنها حديث عن أمر وقع، رأى منه المسلمون رأى العين كيف كانت عزة اللّه وكيف كانت حكمته.. فيكفى هنا أن يذكر اللّه وعزته وحكمته.. {الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} دون توكيد، إذ كان يعيش المسلمون مع الحدث الواقع، الذي هو أثر من آثار عزة اللّه وحكمته.
وطبيعى أن مثل هذه الفروق الدقيقة في الصور اللفظية التي تعرض لموضوع واحد، فيقع في النظم تقديم وتأخير، أو زيادة وحذف- لا يلتفت إليها، ولا يقام لها وزن في معايير البلاغة، إلا أن يكون ذلك في نظم القرآن الكريم، حيث كل شيء بحساب وتقدير، ولكل حرف وزنه، الذي يرجح موازين الدنيا جميعا.. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز القرآنى.. {تنزيل من عزيز حكيم}.
فسبحان من هذا كلامه.

.تفسير الآيات (127- 129):

{لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ} هو تعليل لما جاء في ختام الآية السابقة على هذه الآية، وهوقوله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} حيث اقتضت عزّة اللّه وحكمته أن ينصر المؤمنين في معركة بدر، هذا النصر الذي كان منحة من اللّه كتبها بأيدى المؤمنين، ولولا فضل العزيز الحكيم لما نال المسلمون ما نالوا من أعدائهم.. ولكن قضى اللّه بذلك {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ليقضى على جانب من الذين كفروا بالقتل، وبذلك ينهدّ ركن من هذا البناء الأسود، الذي يصدّ عباد اللّه عن دين اللّه.
{أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يملأ قلوبهم حسرة وألما، وذلك حين ينقلب الأحياء من جيش البغي هذا، بالهزيمة، وبما خلّفوا وراءهم في ميدان المعركة من جثث وأشلاء، لأبطالهم، وفلذات أكبادهم.
فهذا الجيش الآثم الباغي: فريقان: فريق حصدته سيوف المسلمين في المعركة، وفريق فرّ مثخنا بالجراح، محملا بخزي الهزيمة وعارها مثقلا بالحزن والألم، لما فقد من أهل وأحباب.
وتغلى مراجل الضغينة والحقد في رءوس المشركين، وتتحول مكة كلها إلى ذئاب عاوية، تتردد في بيوتها، وفى أنديتها، وطرقاتها أصداء هذا العواء المسعور، تسبّ وتتوعد، محمدا ومن اجتمع إليه من مهاجرين وأنصار.
ثم هاهى ذى تجيء إليه محملة بحقدها، مشحونة ببغضائها، لتلقاه في يوم كيوم بدر، تراق فيه الدماء، وتتناثر الأشلاء، ويتقطع فيه ما بقي بينه وبين قومه من أواصر الرحم والقرابة.. فما أمرّ هذا وما أقساه!! ويأسى النبيّ الكريم لهذا ويحزن، وكان يودّ ألا يبلغ الأمر بينه وبين أهله إلى هذا الحدّ، وهو الذي جاءهم بالهدى والرحمة، ودعاهم إلى البر والتقوى.
ولكن القوم أبوا إلّا إعناتا له، وخلافا عليه، وإمعانا في توجيه الأذى والضرّ إليه وإلى من اتبعه، حتى لقد حملوه على أن يهاجر من موطنه، ليخلص بدينه، وليجد له طريقا غير هذا الطريق المسدود! فكان قول اللّه تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} عزاء للنبيّ، وتخفيفا لما وجد في نفسه من تلك الحال التي وقعت بينه وبين أهله وذوى قرابته.. كما كان فيه إلفات لهؤلاء المشركين إلى الجهة التي نالتهم بهذا السوء الذي حلّ بهم، جزاء كفرهم وعنادهم، وأنها جهة لا تنال.. إنها يد اللّه القوى العزيز، لا يد محمد، ولا أصحاب محمد، وفى هذا تيئيس لهم من أن يأخذوا بثأرهم الذي احتسبوه على محمد وأصحاب محمد، فما كان لمحمد وأصحابه من هذا الأمر شيء! وقوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فتح لصفحة جديدة، ولحساب جديد مع هؤلاء المشركين، بعد وقعة بدر.. فهم بين أمرين: إما أن يرجع راجعهم إلى اللّه ويستجيب لدعوة الحق الذي يدعى إليه، فيجد المغفرة والرحمة، وإما أن يزداد إثمه إثما، فيمضى في طريق العناد والكفر، والمحادّة للّه ولرسوله، فيلقى الجزاء الذي هو أهله، ولا جزاء له غير العذاب الأليم.
{فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ}.
فما محمد إلا رسول، يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه.. واللّه سبحانه هو الذي يرجع إليه الأمر كلّه، له ما في السموات والأرض، لا يملك أحد معه شيئا.
{يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} لا معقب لحكمه ولا ناقض لأمره! وفى قوله تعالى تعقيبا على هذا الحكم: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ما يكشف فضل اللّه على عباده، ورحمته بهم، وأنها رحمة عامة شاملة، تنال الخلق جميعا، حتى أولئك العصاة المتمردين، وحتى وهم يتقلبون في العذاب الأليم! فهو عذاب فيه رحمة لهم، وتطهير لما تلطغوا به من أدران الإثم والشرك!