فصل: تفسير الآيات (130- 136):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (130- 136):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)}.
التفسير:
هذه الآيات والآيتان اللتان بعدها، تجيء هكذا بين تلك الأحداث التي يعرضها القرآن عن الصراع الدائر بين المسلمين والمشركين، في معارك بدر وأحد.
والحديث عن الربا هنا، يبدو وكأنه شيء غريب في هذا الجوّ، الذي لا نسمع فيه إلا قعقعة السلاح، ولا يرى فيه إلا الدماء والأشلاء! فما شأن الرّبا هنا؟ وما داعيته في هذا المقام؟
عرفنا في وقوفنا بين يدى آيات الرّبا في سورة البقرة، أن الربا كبيرة الكبائر، وأنه لفداحة جرمه لم يدخله الإسلام في دائرة الجرائم التي يطهّر مقترفوها بإقامة الحدّ عليهم فيها.
ولهذا فإن الذي يبدو لنا- واللّه أعلم- من وضع الرّبا هنا، وسط المعارك الدائرة بين الإسلام والكفر، أنه خطر كهذا الخطر الذي يتهدد المسلمين من الشرك والمشركين، وأنه إذا كان المسلمون مشتبكين في معركة ضارية مع المشركين، ليقتلعوا بذور الشرك والضلال من المجتمع الإنسانى، فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن معركة أخرى يجب أن يشتبكوا فيها مع عدوّ لا يقل خطرا في إفساد الكيان الإنسانى، وتدمير معالم الإنسانية في الإنسان- عن الشرك.. ألا، وهو الربا! وخطاب المؤمنين في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً} يتضمن أمرين:
أولهما: نهى المسلمين مقارفة هذا الإثم، والعمل على محاربته في أنفسهم، حتى يجلوه عنها، كما أجلوا الشرك من قبل منها.
وثانيهما: محاربة هذا الإثم، وجهاده حيث أطلّ برأسه في أي مكان تناله أيديهم، وتصل إليه قوتهم، كما يحاربون الشرك ويجاهدونه.. فإنه- أي الربا- ربيب الشرك، وثمرته البكر في شجرته الخبيثة! فحيث كان شرك، كان ظلم، والربا هو أشأم وجوه الظلم. وعلى هذا، فإنه كما لا يجتمع إيمان وشرك في قلب مؤمن، كذلك لا يجتمع إيمان وربا في حياة المؤمن! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [278- 279: البقرة].
فانظر إلى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وما فيها من تشكيك في إيمان المؤمنين، ونزع تلك الصفة عنهم، والتي خوطبوا بها في أول الآية، في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وذلك إذا لم ينزعوا عن الرّبا، ويخلّصوا أنفسهم منه. ثم انظر بعد هذا في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} تجد أنها حرب معلنة من اللّه ورسوله.. فيا للهول، ويا للبلاء!! وعلى من؟
على المؤمنين الذين آمنوا باللّه ولكن بقي معهم الربا! إنهم إذن والمشركون سواء! يحاربهم اللّه ورسوله.. ويجاهدهم المؤمنون كما يجاهدون المشركين.
فالمعركة مع الربا والمرابين معركة في صميمها مع الشرك والمشركين! ولهذا فقد أضيف الربا هنا إلى الشرك، ودخل في حسابه.. وبهذا صارت معركته وجهاده جزءا من معركة الشرك، وجهاد المشركين.
وفى قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً} قد يبدو أن النهى في تحريم الربا، وفى درجه مع الشرك في قرن واحد- إنما هو الربا الفاحش، الذي يتضاعف فيه رأس المال بمضاعفة المدة التي يبقى فيها المال في يد المقترض بالربا، ويكون- بمفهوم المخالفة- أن هذا النهى لا يرد على الربا إذا لم يكن على تلك الصورة الفاحشة! ولكن- مع قليل من النظر في وجه الآية الكريمة- نجد أن قوله تعالى {أَضْعافاً مُضاعَفَةً} وإن يكن حالا من أحوال الربا، مقيدا للربا في عمومه وإطلاقه.. إلا أن هذا الحال يكاد يكون الحال الشامل لجميع أحوال الربا، الذي كان معروفا شائعا في هذا الوقت، وهو ربا النسيئة، الذي يتضاعف فيه رأس المال على امتداد الزمن.
وإذن فهذا الوصف بالأضعاف المضاعفة للربا هو تقرير لحقيقة الربا، وكشف لوجهه الكريه، الذي يغتال أموال الناس على تلك الصورة البشعة التي لم تكن تتخلف أبدا عن المعاملات الربوية يومئذ! ويكون معنى الآية: نهى المؤمنين عن أكل الربا، الذي يأكل بدوره أموال الناس، حتى ينتفخ ويتورم، ويصبح أضعاف ما كان عليه، بتلك الأورام الخبيثة التي التصقت به.. فهو زاد تخمر وتعفن، تصدّ عنه النفوس الطيبة، ولو هلكت.. لأن في تناوله الهلاك المحقق.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تأكيد لاجتناب الربا، وتحذير من أكله.. لأن آكله لا يفلح أبدا.. لأنه لم يكن على تقوى من اللّه ومن حرم التقوى والخشية من اللّه فقد حرم الفلاح، وفى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ} ما يكشف عن جريمة الربا، وأنها باب من أبواب الكفر، ومدخل من مداخله- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- فالنار المعدّة للكافرين، هي معدة أيضا لآكلى الربا.. فمن لم يتق اللّه وينتهى عما نهى اللّه عنه من أكل الربا فهو مع الكافرين في نار جهنم، يلقى ما يلقى الكافرون، من عذاب ونكال.. وهذا يلتقى مع قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [278: البقرة] فمن لم يتق اللّه، ويتجنب الربا فليس بالمؤمن، ولا هو في المؤمنين! وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} التفات إلى المؤمنين، ودعوة لهم إلى الطاعة العامة للّه ورسوله، بعد أن أطاعوه في ترك الربا.
وفى قوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} تذكير لهم بالرحمة التي يجب أن تملأ قلوبهم عطفا وبرّا بالنّاس، فلا يغتالوا أموالهم بالرّبا، ولا يأكلوها ظلما وعدوانا، فإنهم إن رحموا الناس، رحمهم ربّ الناس، وفى الأثر: «الراحمون يرحمهم الرحمن».
قوله تعالى: {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
إثارة وإغراء بالمبادرة إلى طلب المغفرة من اللّه، باجتناب المحرمات، وعلى رأسها الكفر والربا.. فمن بادر بالتوبة، ورجع إلىّ اللّه من قريب، مستغفرا ربه، وجد ربّا غفورا رحيما يفتح له مع خزائن رحمته أبواب جنته وما فيها من نعيم مقيم.
وهذه الجنة التي وعد بها المتقون تسع النّاس، وأضعاف أضعاف الناس.
عرضها السموات والأرض.. يجد فيها المؤمنون والتائبون- مهما كثر عددهم- مكانا فسيحا، لا حدّ له، حيث يسرحون ويمرحون ما شاءوا.
فليخرس إذن أولئك المتنطعون والمتزمّتون، الذين يضيّقون من رحمة، أو يضيقون بها، حتى لكأنهم يرون أن ما يبسطه اللّه من رحمة ورضوان لعباده إنما هو مقتطع مما يمنّون أنفسهم به عند اللّه.. وأنّه كلما كثرت أعداد المقبولين عند اللّه، والداخلين في رحمته- تحيّف ذلك من نصيبهم، وأخذ الكثير من حظهم.. وهذا- لا شك- سوء ظن باللّه، وعدوان على مشيئته، شأنهم في هذا شأن بنى إسرائيل، الذين أكل الحسد قلوبهم أن ينال أحد من من اللّه خيرا غيرهم، كما قال تعالى فيهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [54: النساء] وكما قال فيهم أيضا: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ} [100: الإسراء].
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} صفة من صفات المتقين.
فمن شان التقوى أن تقيم في كيان الإنسان عواطف الرحمة والإحسان، فلا يمسك صاحبها خيرا لنفسه خاصة، بل إن كل ما في يده هو له وللناس.. فهو ينفق منه في كل حال.. في يسره وعسره، في سرّائه وضرّائه، وفى سرّاء الناس وضرائهم، لا يمنع فضله عن طالبه أبدا! وقوله تعالى: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} بيان للصفات المكملة للتقوى، المجمّلة للمتقين، فمن اتقى اللّه، كان رحيما بالناس، حدبا عليهم، يلقى إساءتهم بالصفح والمغفرة، فلا يصل إليهم منه أذى، بيد أو لسان.
والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، هم وإن كانوا في المتقين المحسنين، إلا أنهما درجتان في الإحسان والتقوى.. فالكظم درجة، والعفو درجة أعلى من تلك الدرجة.. فالذى تلقّى الإساءة وهو قادر على مقابلتها بمثلها ثم أمسك عن الردّ، وكظم في نفسه ما أثارته الإساءة في مشاعره من غيظ ونقمة، هو على درجة من التقوى والإحسان.. أما إذا ذهب إلى أكثر من هذا، فمسح ما بصدره من غيظ ونقمة. وأظهر العفو والمغفرة، فهو على حظ أكبر من الإحسان والتقوى.. وأرفع من هذا درجة، وأعلى مقاما في التقوى والإحسان، من دفع السيئة، لا يكظم الغيظ المتولد منها، ولا بالعفو عن المسيء، بل دفعها بالإحسان إليه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [22: الرعد].
ويقول سبحانه أيضا: {أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} [54: القصص].
ودفع السيئة بالحسنة إنما هو من باب الإنفاق، ولكنه إنفاق من أطيب وأعزّ ما يملك الناس: إنه إنفاق من سعة صدر، ومن كرم خلق، مما لا يرزقه إلا أهل الصبر والتقوى.. وفى هذا يقول الحق جلّ وعلا: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [34: 35 السجدة].
فيما يروى عن علىّ بن أبى طالب رضى اللّه عنه.. أن جارية له كانت تقوم على وضوئه وفى يدها إبريق، فسقط الإبريق من يدها وانكسر.. ونظر إليها الإمام- كرم اللّه وجهه- فقالت: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال: كظمت غيظى.. ثم قالت: {وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ} فقال: ولقد عفوت عنك قالت: {واللّه يحب المحسنين} فقال: أنت حرة لوجه اللّه!!.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
الفاحشة: المنكر الغليظ من العمل والقول.. وأكثر ما تكون في الأعمال السيئة.. وظلم النفس: يقع على كل مكروه ينالها من قبل صاحبها فيما يمسّ خاصة الإنسان من أذى، أو يتجاوزه إلى غيره من الناس.. فالزنا، فاحشة، والكفر ظلم! وكلّ من الأمرين ظلم وفاحشة معا.
فهذا الصنف من الناس إذا أصاب فاحشة أو ارتكب إثما، ذكر اللّه، وذكر عظمة اللّه وجلاله، وعلمه به، وفضله عليه، وذكر لقاء ربّه، ومحاسبته بين يديه.. فرجع إلى اللّه من قريب، تائبا مستغفرا- هذا الصنف من الناس معدود في المتقين من عباد اللّه، إذ غسل الحوبة بالتوبة، وبعد عن اللّه ثم عاد إليه، واقترب منه.
وفى قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} إغراء للعصاة والمذنبين، بالتوبة والقبول إذا هم مدّوا أيديهم إليه، وطلبوا الصفح والمغفرة منه! وقوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} إشارة إلى ما تصحّ عليه توبة التائبين، وهو أنّهم إذا فعلوا المعصية لم يصرّوا على معاودتها، بل أخذتهم خشية اللّه، واستولى عليهم الندم.. وأقبلوا على اللّه تائبين مستغفرين.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يفسح العذر للذين يأتون الفاحشة عن جهل، أو خطأ، كمن يشرب خمرا وهو يظنها غير الخمر.
وقوله تعالى {أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} الإشارة هنا إلى جميع من ذكروا في قوله تعالى: {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} إلى قوله سبحانه: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فهؤلاء الذين جاء ذكرهم في هذه الآيات الثلاث، هم من المتقين، وهم من الذين يتلقّون هذا الجزاء الحسن من اللّه.
جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها.
وفى قوله تعالى: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} مدح وتمجيد لهذا الجزاء العظيم، الذي ناله هؤلاء الذين أنعم اللّه عليهم، فاتقوه، وأنفقوا في السّرّاء والضراء، وكظموا الغيظ وعفوا عن الناس.. ومثلهم أولئك الذين إذا فعلوا فاحشة، أو واقعوا المعصية ذكروا جلال اللّه وعظمته، فرجعوا إليه من قريب، باسطين يد التوبة والمغفرة.
فالجزاء الذي ناله هؤلاء المحسنون المتقون، شيء عظيم رائع.. وهل شيء أعظم من الجنة وأروع؟.. ثم إن هذا الجزاء- وإن يكن فضلا من اللّه وإحسانا- هو عن إحسان كان من هؤلاء العاملين، وعن عمل من هؤلاء المحسنين: أجراه اللّه على أيديهم، ووفقهم إليه.
وفى هذا يقول الحق سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [13- 14: الأحقاف].

.تفسير الآيات (137- 138):

{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}.
التفسير:
كانت موقعة بدر، ثم موقعة أحد بعدها، تجربتين مثيرين في مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى كشف معالم الطريق الذي يسير فيه المسلمون تجاه تلك القوى المتربصة بهم، وبالدّين الذي آمنوا به.
بدأت دعوة الإسلام هامسة، متخافتة. تمشى على خفوت وخشية بين ظلام الشرك، ووسط معاقل المشركين.. فلما أخذ صوتها يعلو ويبلغ الأسماع.
أجلب عليها المشركون بجبروتهم وعتوّهم يلاحقون الجماعة القليلة المستضعفة، حتى كادت تختنق الدعوة في مهدها، لولا أن ثبت اللّه أقدام المؤمنين، وربط على قلوبهم، فصبروا على ما أوذوا، وخرجوا عن أموالهم وديارهم وأهليهم، فارّين بدينهم في وجوه الأرض.. حتى كانت هجرة النبي الكريم إلى المدينة.
فتحدّد بذلك خط سير الدعوة، كما تحدد الأفق الذي ستشرق منه شمسها، وتنتشر أضواؤها.
وفى المدينة قامت الخمائر الأولى لدولة الإسلام.. فكان المهاجرون والأنصار الكتيبة الأولى التي أمسكت راية الحق لتلقى بها الشرك كلّه، والكفر كلّه، والنفاق كلّه.
وفى موقعة بدر كان أول صدام بين الإسلام، والكفر.. الإسلام كله، والشرك كلّه.. ولو أن هذه المعركة انتهت بالقضاء على هذه الجماعة القليلة المسلمة، لما قامت للإسلام بعدها قائمة، ولما كان إسلام ولا مسلمون بعدها.
ولكن اللّه بالغ أمره.
فلقد قضت إرادته سبحانه أن تغلب تلك الفئة القليلة دولة الشرك، وأن تنالها بيد قوية قاهرة، فتقتل وتأسر، كما تشاء! وتشهد الدنيا كلها من تلك المعركة معجزة، قاهرة متحدية، وأن الإسلام ليس أمرا من أمور هذه الدنيا التي يقتتل الناس عليها، وإنما هو نور من نور اللّه، لا تطفئه الأفواه، ولا تحجبه الأيدى، وأنه بالغ الذي الذي أراد اللّه أن يبلغه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [9: الصف].. {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} [32: التوبة] وتفعل المعجزة فعلها فيمن شهد المعركة، وفيمن سمع أخبارها من المسلمين، والمشركين، والكافرين.. فكثير من المشركين والكافرين، الذين شهدوا المعركة، أو سمعوا أخبارها، قد دارت رءوسهم بها، وأخذوا يراجعون حسابهم مع الإسلام، ويحددون موقفهم من النبيّ، وفى كل يوم يزداد العقلاء قربا من الإسلام، على حين يزداد الحمقى والسفهاء، حمقا وسفاهة وبعدا!! أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم طمأنينة بالدين الذي آمنوا به، وبالنبيّ الذي استجابوا له، واتبعوا سبيله.. ثم نظر ناظرهم إلى آفاق بعيدة، فرأى يد الإسلام تنال ما تشاء.. وتبلغ ما تريد في كل أفق تتجه إليه.. لا يمتنع عليها شيء، ولا يحول دونها حائل.. إنها تقاتل تحت راية اللّه، وتضرب أعداءها بيد اللّه.. فمن يقف لها، أو يردّ ضربتها؟ ألم تشارك ملائكة السماء في القتال مع المسلمين؟ وهل تهزم جبهة تقاتل معها الملائكة، ولو كانت عدد أصابع اليد أو اليدين؟
لقد كان هذا الشعور مستوليا على المسلمين، بعد أن فرغوا من معركة بدر، وبعد أن عادوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى، وبعد أن ملئوا أرض المعركة من أعدائهم، جثثا وأشلاء!! ولكن. ما هكذا تدبير اللّه وتقديره فيما بين الناس، وفيما بين الحق والباطل!! إنه لابد من بذل وتضحية، ومن معاناة وابتلاء! وإلا فأين المحقّون وأين المبطلون؟ وأين إحسان المحسنين وإفساد المفسدين؟
وأين ما أعطى صاحب الحق من نفسه وماله، للحق الذي في يده؟ وكيف تكون إثابة المحسن وجزاء العامل، إن لم يكن عمل وإحسان؟
إن العدل الإلهى يقضى بأن يجازى المحسن، ويعاقب المسيء..!
وفى مجال الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، يمتاز المحقّون من البطلين، وينعزل الأخيار عن الأشرار.
وإذا كانت معركة بدر قد دارت على تلك الصورة الفريدة بين المعارك، ليثبّت اللّه بها الراية التي ركزها للإسلام، فإن ما يستقبل المسلمون بعد ذلك من معارك لن يكون على تلك الصورة التي شهدوها يوم بدر، وأن عليهم أن يبلوا بلاءهم مع عدوّهم، وأن يستعينوا عليه بالصبر والتقوى. فذلك هو السلاح الذي وضعه اللّه في أيديهم، والذي إن حاربوا به عدوّهم كتب اللّه لهم النصر، وإن قلّ عددهم، وتضاعفت أعداد قوى الشرّ المتصدية لهم!! هكذا ينبغى أن يعرف المسلمون ما يجب أن يكون عليهم أمرهم، وهم مقدمون على لقاء العدو، الذي جاءهم بكل غيظه وحنقه، ليثأر للهزيمة التي نقيها في معركة بدر!! وها هم أولاء المسلمون يتأهبون للقاء المشركين، الذين جمعوا جموعهم، يريدون أن يقتحموا بها المدينة، ويدمروها على من فيها من المهاجرين والأنصار! ويستشير النبي أصحابه.. ويكثر القول، ويختلف الرأى، ثم يعلو الصوت القائل بلقاء العدو خارج المدينة، ويرى النبي الكريم أن يستجيب للأغلبية، وإن كان يرى خلاف ذلك، فيلبس لباس الحرب، ويضع لامته على رأسه، ويؤذن أصحابه بأنه خارج معهم إلى لقاء المشركين.
وهنا يستشعر المسلمون الندم، ويرون أنّهم على أمر لم يكن يريده النبيّ.
فأقبلوا عليه يسألونه أن يكون عند رأيه الذي رآه.. فأبى عليهم ذلك، وقال: «ما ينبغى لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل».
وذلك أنه أقام أمره على عزيمة، وبهذه العزيمة لبس لبوس الحرب.. وما كان له أن يرجع بعد ما عزم.. فإن هذا الرجوع يعنى انحلال العزيمة، إذ ليس ثمّة ما يمنع بعد هذا أن يعزم عزما آخر، ويعود فليبس عدّة الحرب.. وهكذا تستولى عليه حال من التردد بين الإقدام والإحجام.. وليس بعد هذا اجتماع لعزيمة، أو استقامة على رأى.. وفى هذا ما فيه من ضياع وخذلان، لأى أمر، وفى كل عمل، يدخل عليه التردد من أي باب! ولهذا كان أمر اللّه لنبيّه الكريم: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [159: آل عمران] قاطعا الطريق إلى التردد بعد العزيمة، التي تجيء عن مناصحة ومشاورة! نقول: خرج النبيّ بأصحابه للقاء العدوّ، ومع المسلمين هذا الشعور الذي وقع في نفوسهم من حملهم النبيّ على هذا الخروج- الشعور بالندم والحسرة- الأمر الذي لو صحبهم إلى المعركة لأفسد عليهم موقفهم من عدوهم، ولاغتال الكثير من عزمهم وقوّتهم! وهنا يتلقّى الرسول الكريم من ربّه، ما يذهب بمرارة هذا الأسى الذي وجده، ووجده معه أصحابه، في مجلس الشورى، وما انتهى إليه.
فجاء قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} جاء قوله تعالى في هذه الآيات. ليذكّر النبي والمسلمين بما كان للّه عليهم من فضل، في هذا النّصر العظيم، الذي امتلأت به أيديهم يوم بدر.. وفى هذه الصورة التي ترتفع للمسلمين من معركة بدر، تهبّ عليهم ريح الطمأنينة، وتدخل على قلوبهم السكينة والأمن، فيلقون عدوّهم بعزم جميع، وإرادة مصممة على النصر، واثقة من عون اللّه وتأييده.
وفى تلك الحال التي تمتد فيها أبصار المسلمين إلى معركة بدر، وتتعلق عيونهم بالمشاهد الواردة عليهم من ذكرياتها- تمتلئ أسماعهم بما يتلو عليهم الرسول الكريم، مما يتلقى من آيات ربه: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}.
ويستشعر المسلمون من كلمات اللّه هذه أنهم من اللّه على حال غير الحال التي كانوا عليها يوم بدر.. إذ قد جاء وعد اللّه بإمدادهم بالملائكة يوم بدر غير مشروط بشرط، بل هو وعد مطلق، لابد من تحقيقه.. وقد تحقق.
أمّا هذا الوعد الكريم الذي يتلقونه من اللّه في هذا اليوم- يوم أحد- فهو مشروط بشرطين: أن يصبروا، وأن يتقوا.. وتحقيق هذين الشرطين، شرط لتحقيق ما وعدوا به من النصر.
إذن فهم مطالبون بشيء جديد، من الصبر والتقوى، غير ما كانوا عليه يوم بدر، وغير ما هم عليه اليوم، من صبر وتقوى.
وإنهم لو أعطوا المطلوب من الصبر والتقوى، لوجدوا في أنفسهم من روح اللّه، قوة تعدل خمسة آلاف من تلك القوى التي ساندتهم، وقاتلت معهم يوم بدر! ثم يستمع المسلمون بعد هذا إلى قوله تعالى: {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فيستشعرون أن تلك الأمداد العلويّة، لا تجيء إليهم من بعيد، وإنما هي شرارات من الإيمان والصبر، تنطلق من داخل أنفسهم، فتشتعل بنور اللّه، فإذا هي قوى يبلغ بها الإنسان في ميدان القتال، ما لا يبلغ خمسة من الرجال، لا يملكون تلك القوى في هذا الميدان! وهنا يلتفت المسلمون إلى أنفسهم التفاتا قويّا، يفتشون عن مواطن القوة والضعف في إيمانهم وصبرهم، حتى يكونوا على الشرط الذي اشترطه اللّه عليهم، ليمدّهم بالقوة، وليمكّن لهم من عدوهم.
وتجيء آيات القرآن الكريم، لتلتقى مع هذا الشعور، الذي يفتش فيه المسلمون عن أنفسهم، ولتكون في مجال البصر وهم يرتادون مواقع الخير الذي يدنيهم من التقوى، ويمكن لهم من الصبر.. وإذا في الآيات التي يتلوها الرسول عليهم بعد أن تلقاها من ربّه لساعته- إذا في هذه الآيات الدواء والشفاء، إذ يقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ} فعلى ضوء هذه الآيات الكريمة، يعرض المسلم نفسه، ويطّلع على ما تكون قد انطوت عليه مما نهى اللّه، مما لم يكن يراه، وهو في زحمة الأحداث المتلاحقة، التي كانت تمرّ بالمسلمين في تلك الفترة الحرجة من حياة الإسلام- فيعمل على تنقيتها، والخلاص منها.. وقد أشرنا من قبل إلى ما في هذه الآيات الكريمة من معانى الإحسان، وما تحمل من دواء عتيد لسقام النفوس، ومرضى القلوب! ثم يجيء قوله تعالى بعد ذلك: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} فيذكر المسلمون من الآية الكريمة أن للّه سبحانه وتعالى سننا في خلقه، لن تتخلف أبدا، وأن من هذه السنن وتلك الأحكام والقوانين التي أخذ اللّه بها النّاس، ما تضمّنه قوله سبحانه {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى} [39- 41: النجم].
وما جاء به قوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [7- 8 الزلزلة].
وبهذا يرى المسلمون أنهم مطالبون بأن يعملوا وأن يحسنوا ما وسعهم العمل، وما أمكنهم الإحسان، وأن يلقوا عدوّهم بالصّبر وتوطين النفس على الجهاد والتضحية والبذل في سبيل اللّه، وأن يشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة اللّه.. وهنا يأذن اللّه لهم بالنصر، ويريهم في عدوّهم ما يحبّون، وإلّا فقد رضوا لأنفسهم بالهزيمة، التي اكتسبوها بالقعود عن البذل والتضحية.
وينظر المسلمون في سنن اللّه التي خلت في عباده، وما لهذه السنن من آثار في تقدير مصائر الأمم والأفراد على السواء، وإذا الّذين كذّبوا بآيات اللّه، وآذوا رسل اللّه، قد أخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين.. هؤلاء جميعا هم ممن كذبوا الرّسل، فأخذهم اللّه بذنوبهم، وأوردهم موارد الهلاك في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار.. وفى هذا بقول اللّه تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [40: العنكبوت].. فهذا هو مصير الذين كفروا بآيات اللّه وكذّبوا رسله، وإلى مثل هذا المصير يصير أولئك الذين كذّبوا رسول اللّه وآذوه، ووقفوا منه ومن دعوته هذا الموقف العنادىّ المغرق في العناد والضلال.
وفى هذا تطمين للمسلمين، وتثبيت لأقدامهم، وأنهم على طريق النصر، إذا هم صبروا واتقوا، وأن أعداءهم إلى البوار والهلاك إن أصرّوا على ما هم عليه من شرك وضلال.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} [51: غافر].. ويقول سبحانه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [31: المجادلة] ثم تمتلئ أسماع المسلمين وقلوبهم بعد هذا بقوله تعالى: {هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}.
فيرجعون إلى هذا البيان الذي استقبلتهم به تلك الآيات، وهم على مشارف المعركة والالتحام بعدوّهم، ويرتلون هذا البيان مرة بعد مرة، فيخلص إليهم منه في كل مرة ما يزيد إيمانهم إيمانا ويقينهم يقينا، وإذا هم يمضون إلى المعركة في ثقة وطمأنينة، وفى إصرار على كسب المعركة وبلوغ النصر! وتدور المعركة، وتهبّ ريح النصر على المسلمين، وفى لحظة خاطفة يرون أنهم كسبوا المعركة، فألقى كثير منهم السلاح، وأقبل على الغنائم ينتزعها من بين يدى العدو قبل أن يفرّ بها! ولكن سرعان ما تتبدل الأمور، وتسكن ريح النصر، ويقع المسلمون ليد أعدائهم، فيقتلون منهم نحو سبعين قتيلا.. وينكشف الرسول، إذ تتناثر الكتيبة التي حوله، بين قتيل، وجريح، ومهزوم.. ويثبت الرسول الكريم مع فئة قليلة من أصحابه، ويخلص إليه من سهام العدوّ أذى كثير، حتى لتشجّ رأسه، وتنكسر ثنيّته، وينادى منادى المشركين: أن محمدا قتل!! وهنا يستبدّ الهول والفزع بالمسلمين، وتكاد تنتهى المعركة بالهزيمة القاصمة، لولا أن نادى منادى الرسول: أن رسول اللّه هنا في المعركة، يقاتل المشركين.. فتثوب إلى المسلمين ألبابهم الشاردة، ويجتمعون إلى رسول اللّه، ويصمدون معه في ردّ عدوان المعتدين.
وتكتفى قريش بما نالت، وتقف بالمعركة عند هذا الحدّ، خوفا من أن تدور الدائرة عليها، لو أنها مضت بالحرب إلى آخر الشوط! ويعود النبيّ وأصحابه من المعركة، وقد أصيبوا في أنفسهم، وفى أصحابهم.
وفى القلوب حزن وأسى، وفى النفوس ضيق واختناق، ويهبّ على المدينة إعصار محموم، يلفّ الناس في جوّ كئيب، ملفف بالسواد، لا يرى فيه الرائي موقع قدميه! وأين بدر ويومها؟ وأين الوجه الذي استقبلت به المدينة أصحاب بدر، من هذا الوجه الذي تستقبل به أصحاب أحد؟
وتدور في الرءوس، وعلى الشفاه، خواطر، وهمسات، وغمغمات، تكاد لكثرتها أن تكون هديرا كهدير البحر الهائج، أو عواء كعواء الريح العاصف! وتعلو أصوات المنافقين والكافرين، فتقرع أسماع المسلمين، بالتجديف على الإسلام، والتكذيب لرسول اللّه، والسخرية بالملائكة التي قيل إنها قاتلت مع المسلمين يوم بدر! فأين رب محمد؟ وأين الملائكة التي يقول إن ربّه يمدّه بها؟ لقد قتل أصحابه، وكاد أن يقتل هو.. فما لربّه لا يدفع عنه وعن أصحابه ما أصابهم؟ وما للملائكة لا تخفّ لنجدته؟ أم ترى هل تفرّ الملائكة كما يفرّ الناس؟ وهل تهزم كما يهزم المحاربون؟ وكم من الملائكة من قتيل وجريح على أرض المعركة؟.. إن ذلك ليس إلّا ضلالا في ضلال، وغرورا في غرور.. لقد {غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ} [49: الأنفال] فأوردهم موارد الهلاك وسوء المصير!! هكذا كان المشركون والمنافقون يرددون تلك المقولات المنكرة، ويلقون بها- في شماتة وسخرية- إلى أسماع المسلمين، فتزيد من آلام جراحهم، وتثقل من هموم أنفسهم! والمسلمون في صمت ووحوم، يمسكون أنفسهم على هموم، ويطوون صدورهم على حسرات وغمرات.. لا يدرون ما يقولون، ولا ما يفعلون!! تلك هي بعض المشاهد التي يمكن أن يرصدها الراصد لهذا اليوم، فيما كان يجرى في المدينة، وما يدور في محيط الجماعات التي تأوى إليها، من مسلمين، ومنافقين، ومشركين.. إنها مشاهد أرضية، تسبح صورها وخيالها في غبار المعركة ودخانها، الذي انعقد فوق المدينة، وخيّم في سمائها لأيام وأيام! ويتطلع الرسول والمؤمنون إلى السّماء، يرقبون ماذا يجيء من جهتها عن هذا الحدث العظيم.. وماذا كان حسابهم عند اللّه فيما كان منهم، ولما أخذوا أو تركوا في هذا اليوم؟
وتقول السماء كلماتها، وتتنزل آيات اللّه بالحق، يقشع ظلام الباطل، ويفضح ضلال المبطلين، وتتلى كلمات اللّه فتلتئم بها جراحات المؤمنين، وتمتلئ بها قلوبهم سكينة ورضى، وإيمانا:! وفى هذه الآيات المنزّلة، عزاء ورحمة وشفاء: