فصل: تفسير الآيات (139- 143):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (139- 143):

{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)}.
التفسير:
ولا تحتاج هذه الآيات الكريمة إلى شرح أو بيان، لمن يعيش هذه المعركة بمشاعره، ويشارك فيها بوجدانه، ويزن فيها الأحداث بالميزان الذي أقامه اللّه بين عباده، وأجرى أمورهم عليه! فأولا: لقد اختلف أمر المسلمين في هذه المعركة.. قبل أن يخرجوا إليها.. وهذا الخلاف- أيّا كان- هو عامل ضعف، وداعية فتور ووهن.
وكان من أولى وصايا الإسلام للمسلمين، أن يحذروا هذا الداء، وأن يجتنبوه في كل ما يأخذون وما يدعون من أمور: {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [46: الأنفال].
وثانيا: لم يقم أمر المسلمين جميعا في هذه المعركة على ما وصّاهم اللّه به، ولفتهم إليه، قبل أن يدخلوا المعركة، وذلك في قوله تعالى: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [125: آل عمران]. فثبتت قلة وصبرت.. وتواكلت كثرة منهم، فانهزمت وولت وثالثا: أضاف كثير من المسلمين يومئذ معركة أحد إلى معركة بدر، وحسبوها بحسابها.. فما أن رأوا ريح النصر تهبّ عليهم، وتكاد تسلم أعداءهم لأيديهم، حتّى أعفوا أنفسهم من مئونة القتال، وتركوا المعركة للملائكة تتمها كما بدأتها!! وذلك تقدير فيه كثير من البعد عن الطريق الذي أقامهم اللّه عليه في تلك المعركة، وهو أن يكسبوها بأيديهم، وبصبرهم وتقواهم.
وإنه لو جرت الأمور على هذا التقدير الذي قدّروه، لما كان بلاء ولا اختبار.. ومن ثمّ فلا ثواب ولا جزاء.. إذ بم يثابون؟ وعلى أي شيء يجزون؟ وما فضل المجاهدين على القاعدين؟ بل ما فضل المؤمنين على الكافرين؟ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}؟
إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللنّاس، أنّهم مؤمنون حقّا، وأنهم أدوا حقّ هذا الإيمان، بلاء وجهادا.
وفى قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} لا يتعلق علم اللّه بجهادهم وصبرهم. فعلم اللّه واقع على ما كان منهم وما سيكون قبل أن يكون، ولكن المراد بالعلم هنا، علم المعلوم في حال وقوعه، أي علمه على الصفة التي وقع عليها.. وهذا وإن كان واقعا في علم اللّه، إلا أنه علم غيب لما سيقع، والمراد بالعلم هنا علم الشهادة لما وقع.
والذي تضمنته هذه الآيات الكريمة، تعقيبا على هذا الحدث- هو عزاء جميل من اللّه سبحانه وتعالى للنبىّ وللمؤمنين.
ففى قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} نفحة من اللّه، تنزل على النبيّ وعلى المؤمنين معه، بما يهوّن عليهم كل مصاب، ويجلو عن صدورهم كل همّ وحزن! وهل مع قول العزيز الرحيم: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} يكون ما يوهن ويضعف، أو يبقى ما يسوء ويحزن؟
وسبحانك ربى! ما أوسع رحمتك، وما أعظم فضلك، وما أكثر برّك بالمؤمنين، ورعايتك للمجاهدين!! تبتليهم في أموالهم وأنفسهم، لتضاعف لهم الأجر، وتعظم لهم المثوبة، ثم تعود بفضلك ورحمتك فتعافيهم مما ابتليتهم به، وتملأ قلوبهم سكينة ورضى ومسرة، بما تسوق إليهم من رحمات وبشريات! وفى قوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} حكم من لدن حكيم عليم، حكم به للمؤمنين أن يكونوا دائما في المنزلة العليا في هذه الحياة.. لهم العزة والغلب على أعدائهم أبدا، مصداقا لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [141: النساء] وفى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تثبيت للمؤمنين على الإيمان.
وأنهم إذا ثبتوا على إيمانهم، وأعطوا هذا الإيمان حقّه من الصبر والتقوى، فإنهم لن يهنوا ولن يحزنوا أبدا، وأنهم الأعلون أبدا.
وقوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ} هو عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به في أنفسهم، ولما أصيبوا به في أهليهم.. وأنهم إن يكونوا قد أصيبوا اليوم بما يؤلم ويوجع، فقد أصابوا هم أعداءهم بما يؤلم ويوجع! ثم ليعلم المؤمنون من هذا أن طريقهم في مسيرتهم مع الإسلام ليست كلها يوما واحدا كيوم بدر، بل إنهم سيغلبون ويغلبون، ويقتلون ويقتلون، ويصيبون ويصابون.. وهكذا الدنيا.. وتلك سنّة الحياة فيها.. لا تدوم على وجه واحد، بل هي وجوه متقلبة متغيرة! تقبل وتدبر، وتضحك وتبكى.
وذلك هو الذي يعطى الحياة حيوية، وهو الذي يغرى الناس بالسعي والعمل، لينتقلوا من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع.. ولو أخذ الناس بوضع ثابت مستقر- ولو كان ذلك في أحسن حال، وأمكن وضع- لماتت في أنفسهم نوازع التطلعات إلى المستقبل، ولخمدت فيهم جذوة الحماس للكفاح والنضال.
وقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ} بيان لحكمة اللّه من هذا الابتلاء.. ففى هذا الابتلاء، وتحت وطأة القتال، ينكشف إيمان المؤمنين، ويعرف ما عندهم من صدق وبلاء.. فيكتب لهم ما كان في علم اللّه، وما وقع منهم، وهو أنهم مؤمنون مجاهدون! وفى قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ} إشارة إلى أن جماعة المؤمنين الذين كانوا مع النبيّ في أحد- كانوا جميعا على درجة عالية من الإيمان، وأنّ أنزلهم درجة في هذا الإيمان كان مؤهلا لأن يكون في عداد الشهداء، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ} خطابا لهم جميعا، وكان نسق النظم أن يجيء هكذا: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ}، ولكنّ هذا يعزل بعض المجاهدين عن أن يكونوا في المؤمنين، الصالحين لأن يتخذ اللّه منهم شهداء.
وفى قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ} إشارة كريمة إلى هذا المقام الكريم الذي يرتفع إليه الشهداء، وأنهم خيار المؤمنين، والمصطفين منهم، ولهذا اتخذهم اللّه شهداء.. إذ الاتخاذ أخذ عن اختبار واختيار.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تحريض للمسلمين على قتال المشركين، واحتمال المكروه في سبيل إضعافهم أو القضاء عليهم، لأنهم ظالمون لأنفسهم، بصرفها عن الهدى إلى الضلال، وظالمون للإنسانية إذ هم قوى شريرة عاملة على طمس معالم الهدى وصدّ الناس عن الخير.. {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ومن لا يحبّه اللّه فهو عدو للّه، يجب على أولياء اللّه أن يعادوه، ويخلّصوه من الذي في يديه، يرمى به نفسه، ويصيب به الناس.
وقوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ} أي من تمام حكمة هذا الابتلاء فيما بين المؤمنين والكافرين أن يمحّص اللّه المؤمنين بهذا الابتلاء، وينقيهم من دخائل الضعف والوهن، بملاقاة الشدائد والصبر عليها، كما أن في هذا الابتلاء إضعافا لشوكة الكافرين وتوهينا لقوى البغي والعدوان، المتربصة بالإيمان وبالمؤمنين.
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} بيان آخر للحكمة من هذا الابتلاء الذي ابتلى اللّه به المؤمنين، في قتال الكافرين، وهو أن هذا الابتلاء هو الذي يكشف عن إيمان المؤمنين، وصبرهم على المكروه، واحتمالهم الأذى في سبيل اللّه، وذلك هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويجعل لكلّ مكانه عند اللّه.. فالجنة للمجاهدين الصابرين.. والنار للمشركين المعاندين.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
هو عتاب رقيق للمؤمنين الذين شهدوا القتال في أحد، ثم تحوّل بعضهم عن موقف الموت، إلى حيث السلامة وجمع الغنائم، بعد أن لاحت بوارق النصر للمؤمنين: كما أن كثيرا منهم ترك القتال بعد أن بانت الهزيمة في جانب المسلمين.
فلقد كان كثير من المسلمين الذين شهدوا أحدا، ولم يكونوا قد شهدوا بدرا- كانوا يأسفون على أن فاتهم حظّهم من الجهاد في معركة بدر، وتعرضهم للاستشهاد في سبيل اللّه.. فخرجوا إلى أحد على نية الاستشهاد.. فلما كان من هؤلاء وهؤلاء، ما كان في أحد، من إقبال على الغنائم، أو فرار من المعركة- كان هذا العتاب الرقيق من اللّه سبحانه وتعالى لهم، ليذكّرهم بأنهم قالوا ولم يفعلوا، وهذا موقف لا يرضاه اللّه لهم، إذ يقول سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ} [2- 3: الصف] وفى قوله تعالى: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}.
تأسيف وتنديم، لأولئك الذين فاتهم الاستشهاد في أحد وأنهم قد ضنوا بأنفسهم عن هذا المقام الكريم، حتى لقد اكتفوا بأن يروا الموت في غيرهم وهم ينظرون إليه من بعيد!

.تفسير الآيات (144- 145):

{وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)}.
التفسير:
حين مال المشركون على المسلمين يوم أحد، وأخذوهم بسيوفهم وسهامهم، وسقط شهداؤهم الذين كانوا إلى جوار رسول اللّه- تنادى المشركون أن محمدا قتل!!
وكان لهذا الخبر الكاذب وقعه على المسلمين، فاضطربت لذلك صفوفهم، ووقع كثير منهم تحت وطأة الحزن والكمد، فهام على وجهه يطلب الفرار من وجه هذا الهول الصاعق.. إذ كانوا- وهم يعلمون أن محمدا ميت وأنهم ميتون- غير مستعدّين، نفسيا، وهم في معمعة المعركة، ووجودهم كله مستغرق فيها- كانوا غير مستعدين أن يتلقوا هذه الصدمة المزلزلة، وأن يصدقوها، وإن كانت حقّا، لا يمترون فيه ولا يشكّون! فكان عتاب اللّه لهم على ما كان منهم في هذا الموقف، عتابا رقيقا، يحمل في طياته الرحمة والمغفرة.. فما لقيهم اللّه بالعتاب إلا بعد أن ردّهم إلى الحق الذي عرفوه وآمنوا به، وإن كان قد غاب عنهم، أو ذهلوا عنه في هذا الموقف الرهيب! {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.
وما الرّسل إلا ناس من الناس، وبشر من البشر.. يموتون كما يموت سائر الناس، وقد مات الرسل جميعا، ولابد أن يموت محمّد.
{أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ}.
فكيف إذا مات محمد أو قتل تتحولون عن مواقفكم، وتنقلبون على أعقابكم تاركين ما دعاكم إليه، وأقامكم عليه من الجهاد في سبيل اللّه؟ إن ذلك غير مستقيم مع منطق أبدا!! {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} فهذا حكم اللّه.. إن من ينقلب على عقبيه فيكفر باللّه بعد إيمانه، أو ينكص عن الجهاد بعد موت النبي، فلن يضر اللّه شيئا.. إن اللّه غنى عن العالمين.
والعدول بالخطاب من الحضور إلى الغيبة، وصرفه عن الماضي إلى المستقبل- فيه ما فيه من لطف اللّه، ورحمته وإحسانه، بل ورضاه عن المسلمين الذين شهدوا أحدا، وشمولهم جميعا بهذا الصفح الجميل، والرضوان العظيم.
وفى قوله تعالى: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} لطف فوق هذا اللطف، ورحمة فوق هذه الرحمة، وإحسان فوق هذا الإحسان!! فالمسلمون الذين شهدوا أحدا، قد تلقوا ألطاف اللّه هذه، بالشكر العظيم، وهم إذ يشكرون اللّه على رحمته بهم وفضله عليهم مجزئّون جزاء الشاكرين.
فالشاكرون هنا- وإن صح إطلاقها على كل شاكر- متجهة أولا وقبل كلّ شيء إلى هؤلاء الذين انتظمهم جيش رسول اللّه، في معركة أحد! ثم كان قوله تعالى: {وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا} عزءا جميلا للمسلمين، وتسرية عنهم لما أصيبوا به في أحد.
فهؤلاء الذين استشهدوا في سبيل اللّه قد ظفروا بالشهادة، دون أن ينقص ذلك من أجلهم ساعة واحدة.. فما تموت نفس على أي وجه من وجوه الموت، دون أن تستوفى أجلها المقدور لها {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ} [38: الرعد].
{لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [49: النحل] فمن أراد ثواب الدنيا واستيفاء حظه منها، ففرّ بنفسه عن مواطن الابتلاء، فله ما أراد، دون أن يزيد ذلك من عمره شيئا.. ومن أراد ثواب الآخرة، مجاهدا في سبيل اللّه، يستقبل الموت ولا يستدبره، فله ما أراد، ولن ينقص ذلك من أجله شيئا!! وفى قوله تعالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} إشارة إلى المؤمنين الذين عرفوا هذه الحقيقة واستيقنوها، فشكروا اللّه على ما أقامهم به على طريق الجهاد، ونظمهم في صفوف الشهداء، ووفاهم أجرهم، دون أن يستقضيهم ذلك ساعة واحدة من آجالهم التي حرص عليها غيرهم، ممن نكص عن الجهاد، وارتدّ على عقبه، فرارا من الموت، الذي هو طالبه حين يستوفى أجله.

.تفسير الآيات (146- 148):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}.
التفسير:
فى الآيات السابقة كان من اللّه، هذا العتاب الرفيق، الذي يحمل الإعتاب والرضا، ويسوق الإحسان والرحمة، ويبعث في صدور المسلمين دفء الأمل بالنصر للإسلام، والإعزاز للمسلمين، فيجدون في هذا كلّه العزاء الجميل لما أصابهم من جراح، في أجسامهم، ولما وقع في نفوسهم من مرارة الهزيمة، وعلوّ يد الكافرين عليهم في هذه المعركة، معركة أحد.
وهنا، في قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} صورة اخرى من صور العزاء والتّسرية عن المسلمين، بما تحمل إليهم كلمات اللّه من مواقف الإيمان والصّبر، للمؤمنين في الأمم التي خلت، ممن صدّق الرسل وجاهد في سبيل اللّه.
والربّيون: جمع ربّىّ، وهو من آمن باللّه، وأضاف نفسه إلى ربّه، متوكلا عليه، مستقيما على صراطه.
فكثير من هؤلاء المؤمنين من أتباع الرسل، كانوا مع الأنبياء مجاهدين في سبيل اللّه، لم يهنوا ولم يضعفوا، مهما نزل بهم من شدائد أو وقع عليهم من بلاء. وهؤلاء هم ممّن يحبّهم اللّه ويوسع لهم في منازل رضوانه ورحمته:
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} وفى قوله تعالى: {وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه موقف المجاهدين الصابرين، حين يكربهم الكرب، ويشتدّ بهم البلاء.. لا يذكرون غير اللّه، ولا يلتفتون إلا إليه، طالبين عفوه ومغفرته، وتثبيت أقدامهم في موطن الجهاد، حتى لا تنزع بهم نفوسهم إلى أن يولوا الأدبار، وأن يطلبوا السلامة والنجاة.
وفى طلبهم أن يغفر اللّه لهم ذنوبهم، وإسرافهم في أمرهم- أي خروجهم عن سواء السبيل في بعض أحوالهم- في طلبهم هذا، وفى جعله مفتتح دعائهم، اعتراف ضمنىّ بأن شيئا ما دخل على إيمانهم، فأدخل الوهن والضعف عليهم- وإن لم يهنوا ولم يضعفوا- وباعد بينهم وبين النصر المرجوّ على عدوهم.. فهم في هذا الدعاء يضرعون إلى اللّه أن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، فإذا استجاب اللّه لهم ذلك، طهرت نفوسهم، واستقامت طريقهم إلى اللّه، واشتد قربهم منه، وكان لهم أن يطلبوا إلى اللّه أن يثبت أقدامهم، وأن يمسك بهم على هذا الطريق الذي استقاموا عليه.
وهذه الحال التي تنكشف عن موقف المؤمنين من أتباع الرسل تلقى على المؤمنين الذين شهدوا أحدا ظلالا من الاتهام، واللّوم، والعتاب، لما وقع في نفوس بعضهم، وما جرى على ألسنة بعض آخر.. من وساوس الشك والريبة.
فقال قائل: {أَنَّى هذا} [165: آل عمران] وقال آخرون: {لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا} [154: آل عمران].. لقد نظر هؤلاء وأولئك إلى غير ما كان ينبغى أن ينظروا إليه.. لقد نظروا إلى غيرهم، وألقوا باللائمة عليه.. ولم ينظروا إلى أنفسهم ليبحثوا عما وقع فيها من خلل، كما كان يفعل المؤمنين قبلهم من أتباع الرسل، حين تنزل بهم الشدائد، وتتوالى عليهم المحن.
وفى قوله تعالى: {فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} مشهد كريم، يعرض على أنظار المسلمين، لمن آمن باللّه واستقام على طريقة، حتى إذا استشعر أن يد اللّه قد تراخت عنه، اتّهم نفسه، وأيقن أن خللا وقع في صلته باللّه، فبادر فأصلحه، وصالح اللّه، فوجد العفو والمغفرة، ثم أصاب النصر والظفر.
وهؤلاء المؤمنون الذين جاهدوا مع رسل اللّه، وكان شأنهم عند اشتداد المحن، وقسوة البلاء، العودة إلى اللّه بإصلاح أنفسهم- هؤلاء قد أعزّهم اللّه في الدنيا، فكتب لهم النصر على عدوهم، وأجزل لهم المثوبة والرضوان في الآخرة، لما كان منهم من صبر على البلاء، وثبات في وجه الموت.