فصل: تفسير الآيات (149- 151):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (149- 151):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)}.
التفسير:
وفى هذه الآيات يرى للّه المؤمنين موقفهم من الكافرين، فيحذّرهم من أن يستمعوا إلى ما يتخرّصون به، وما يلقون إلى أسماع الناس من تعليقات خبيثة على معركة أحد، وما أصاب المسلمين فيها.. فإن الاستماع إلى هذه المقولات، والاطمئنان إلى قائليها يوهن إيمان المؤمنين، ويفسد عليهم أمرهم، فلا يلقون إلا الخذلان والخسران! ثم إذا استجاب المسلمون إلى ما دعاهم اللّه إليه من تجنب الكافرين والحذر منهم.. لفثهم اللّه سبحانه إليه، ودعاهم إلى الاعتصام به، والاعتزاز بالاعتماد عليه والثقة في نصره: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}.
وفى قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} دعوة من اللّه إلى المؤمنين أن يلوذوا به، فإنه سبحانه لم يؤاخذهم بما كسبوا، ولم يبعدهم عن حظيرة محبّته ورضوانه، فهو مولاهم، وهو الذي يثبّت أقدامهم، ويمنحهم النصر على عدوهم {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ}.
أما هؤلاء المشركون، الذين خيل إليهم أنهم كسبوا المعركة، وفرغوا من أمر الإسلام والمسلمين- فإن لهم يوما تتنكس فيه راية الشرك إلى الأبد، فيذلّ المشركون في هذه الدنيا، والنار مثوى لهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
فهؤلاء المشركون، سيملأ اللّه قلوبهم رعبا، بما حملوا من شرك، وبما عبدوا من ضلالات.. إذ أن الشرك بقتل في صاحبه كل معانى الإنسانية، ويقيمه في هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، لا يجد ما يستند إليه عند الشدائد والمحن.
وما ظنّك بإنسان- إذا كربه الكرب، ونزلت به النوازل- فزع إلى حجر يعبده؟ أو إلى حيوان يسجد بين يديه؟
وأين هذا ممن يمدّ يده إلى مالك الملك، ويفزع إلى من بيده ملكوت السموات والأرض؟
وشتّان بين هذا وذاك.. فالمشرك يدعو من لا يملك ضرّا ولا نفعا، ويهتف بمن لا يستجيب له إلى يوم القيامة.. أما المؤمن فيدعو ربّ الأرباب، ومدبّر الأكوان، والآخذ بناصية كل كائن، والقائم على كل موجود.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}.
التفسير:
فى أولى الآيات التي استفتح اللّه بها ذكر تلك المعركة- معركة أحد- جاء قوله تعالى: {بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}.
وكان هذا وعدا من اللّه المؤمنين بالمدد العلوىّ، الذي يحمل معه النصر لهم. وقد جاء هذا الوعد مشروطا وأنه لن يحققه اللّه لهم إلا إذا وفوا بهذا الشرط، وهو أن يصبروا ويتقوا.
وقد صبر المسلمون في أول القتال، وأعطوا أنفسهم كلها للمعركة.
فصدقهم اللّه وعده، وأراهم بشائر النصر.. فإنه منذ الساعات الأولى من القتال استولى المسلمون على زمام المعركة، وبدأت طلائع بدر تطل عليهم، فقتلوا مقتلة عظيمة في المشركين، وأدخلوا في صفوفهم الخلل والاضطراب، حتى همّوا بالهزيمة والفرار، وأخلوا أيديهم مما معهم من متاع.. وإذ ذاك امتدت أبصار كثير من المسلمين إلى هذا المتاع الذي تخلّى عنه أهله، وكان الأولى بهم أن يلتفتوا إلى رءوس المشركين أولا، فيزيلوها عن مكانها، فهذا هو الأمر الذي ندبهم اللّه له، وانتظموا في سبيل المجاهدين من أجله!!
وإذن فقد تخلّى المسلمون عن الشرط الذي اشترطه اللّه عليهم ليمنحهم نصره.. فكان أن تخلّى عنهم النصر، واستقبلتهم الهزيمة..!!
وفى قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} إشارة إلى ما فعل المسلمون بالمشركين أول الأمر، وأنهم حصدوهم حصدا.. فالحسّ معناه: القتل الذّريع الكثير.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ} يشير إلى ما كان من جماعة الرّماة التي جعلها الرسول الكريم من وراء جيش المسلمين، تحمى ظهورهم من أن يأخذهم كمين من العدو على غرّة، وقد وصّى النبيّ هؤلاء الرماة أن يلزموا أماكنهم، وألا يتحولوا عنها بحال أبدا، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا.
ولكن الذي كان من الرماة غير هذا.. فإنهم ما كادوا يرون الهزيمة في المشركين، ويرون الأسلاب والغنائم وقد تخلّى عنها أصحابها، حتى قال قائل منهم: ما موقفنا هنا، وقد ولّى المشركون وانهزموا؟ وقال آخرون: إن الرسول لم يلزمنا أن نكون حيث نحن إلا لنحمى ظهر المسلمين من العدو.. فأين هذا العدوّ؟ وقال رئيس الجماعة، وهو عبد اللّه بن جبير: يا قوم.. الزموا أماكنكم كما أمرنا رسول اللّه، ولا تتحولوا عنها.. فأبى عليه كثيرون، وتركوه في نفر من أصحابه.. وما هي إلا لحظات حتى رأى خالد بن الوليد،- وكان على فرسان المشركين- رأى موقف الرماة يكاد يكون خلوا فاستدار إليهم بمن معه من فرسان، فاستقبله عبد اللّه بن جبير، ومن معه، مقاتلين، حتى استشهدوا جميعا، رحمهم اللّه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} إشارة إلى أن تحوّل المعركة من جانب المسلمين إلى المشركين كان عن حكمة أرادها اللّه، وهى أن يبتلى المؤمنين بهذا البلاء، وأن يضعهم أمام تجربة يواجهون فيها الشدائد والمحن، ليروا ما عندهم من صبر واحتمال، وليسدّوا الخلل الذي يجدونه في أنفسهم، استعدادا للمعارك المقبلة بينهم وبين المشركين.
وفى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ} إشارة أخرى إلى أن ما كان من المسلمين من تحول عن القتال، وانصراف إلى الغنائم، وإن كان مما كسبته أيديهم- قد عفا اللّه عنه، وتجاوز عن مقترفيه، لأنهم كانوا مقهورين تحت إرادة غالبة للّه، في هذا الذي كان منهم، ليكون لهم فيه درس نافع في لقاء المشركين بعد هذا.. وفى توكيد فعل العفو باللام الموطئة للقسم، وبحرف التحقيق قد- {ولقد} إظهار لسعة رحمة اللّه، وتمام فضله على عباده، المجاهدين في سبيله {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويعيدهم إليه إذا بعدت الطريق بهم عنه.

.تفسير الآيات (153- 154):

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)}.
التفسير:
فى قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ} تذكير للمسلمين بما كان منهم في هذه المعركة- معركة أحد- وغمزة عتاب لهم على أن فرّوا صاعدين الجبل، لا يلوون على أحد، أي غير ملتفتين إلى من وراءهم.. وإن وراءهم إخوانا لهم صمدوا للمشركين، واستقبلوا الموت راضين.. بل وراءهم، نبيّهم يواجه العدوّ وحده في بضعة رجال من أصحابه.. فكيف يفرّون؟ ثم إذا كانت منهم فرّة أفلا كانت منهم لفتة إلى النبيّ وقد أحاط العدوّ به؟ ثم ألا كانت منهم كرّة إلى العدوّ، يدفعون يده الضاغطة على رسول اللّه ومن معه؟ وهل شيء أحبّ إلى المسلم وأعزّ عنده من النبيّ.. ولو كانت نفسه التي بين جنبيه؟ إن ذلك خيانة للنفس ذاتها، وتضييع لها، بسلبها هذا الشرف العظيم، شرف الدفاع عن رسول اللّه، والموت في موطن الدفاع عنه! وفى قوله تعالى: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ} مواجهة صريحة للمسلمين الذين فرّوا صاعدين في الجبل، وأنهم أمعنوا في الفرار، وبعدوا عن ميدان المعركة.. حتى لا يكاد صوت الرسول يبلغ مؤخرتهم وهو يهتف بهم:
إلىّ عباد اللّه!! وقوله تعالى: {فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ}.
الإثابة من الثواب، وهو الجزاء على عمل الإحسان بالإحسان! وفى التعبير بالإثابة عن الغمّ بالغمّ، إثارة لمشاعر الندم عند هؤلاء المسلمين الذين فرّوا، لما فاتهم من الثواب العظيم الذي كان لهم أن يحصلوا عليه في هذا الموطن، لو أنهم صبروا، وثبتوا.
ونعم إنهم أثيبوا.. ولكن لا يكادون يمدون أيديهم إلى هذا الثواب حتى يجدوه غمّا!! فأى ثواب هذا؟ إن ذلك هو ما يمكن أن يجازوا عليه إن كان لهم أن يطلبوا مثوبة على ما كان منهم!! والغم الذي جوزوا عليه بغم.. هو ما كان في فرارهم الذي رآه النبيّ فاغتمّ له.
وأما الغم الذي كان جزاء لهم.. فهو ما وقع في نفوسهم من حسرة وألم، حين انكشف لهم موقفهم، وعاينوا الآثار السيئة التي نجمت عن فعلتهم تلك، والتي نفذ منها المشركون إلى المسلمين، وأوقعوا الهزيمة بهم.
وهذه الحسرة التي ملأت قلوبهم، وذلك الألم الذي استولى على كيانهم، قد غطّيا على كلّ ما أصيبوا به في هذا الموطن.. فلم يبالوا بعد هذا بالغنائم التي أفلتت من أيديهم، ولم يهتمّوا لما أصيبوا به في أنفسهم، وفى إخوانهم، بعد أن استجابوا الرسول، وأقبلوا إليه، يقاتلون معه، ويتلقون عنه، سهام المشركين، وسيوفهم.
ولقد كان هذا الغمّ الذي وجدوه في أنفسهم حاجزا تتحطم عنده كل واردات الهمّ والحزن لما فاتهم، ولما أصابهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ}.
وفى هذا رحمة بهم، وفضل من اللّه عليهم.. بل هو ثواب في مقام العقاب، وجزاء حسن في معرض الحساب والمؤاخذة!
وهكذا يلقى اللّه عباده وأولياءه في كل موطن.. يلقاهم بالخير دائما، وبالفضل والإحسان في كل متّجه، حتى ولو كانوا على غير ما يحبّ اللّه منهم.
فإنه إذّاك يعاقبهم، ولكنه عقاب كلّه رحمة، وكلّه خير، إذ يعالج هموما، ويدفع آلاما.
وأكثر من هذا.
فإن هذا الغمّ الذي {أثاب} اللّه به أولئك المؤمنين يومئذ، لم يكن إلا دواء، وفى الدواء مرارة.. شأن كل دواء.
ومع هذا، فإن رحمة اللّه بهم لم تدع هذه المرارة تسكن في نفوسهم، وتستقر في كيانهم.. فما هي إلا أن يفعل الدواء فعله في تسكين الداء، وفى الذهاب به، حتى تجيء رحمة اللّه فتنتزع تلك المرارة وتذهب بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ} فقد ألقى اللّه على المسلمين وهم في ذروة المعركة خفقة من نعاس، مرّت بهم مرور النسمة العليلة، فملأت قلوبهم سكينة وأمنا، ومسحت على أجسامهم بيد السلامة والعافية!! وعجب أن يطوف النعاس بجفن المحارب، والرّماح تنوشه، والسّهام والسيوف تتعاوره.. ولكنه القلب حين يستخفّ بالموت، والإيمان حين يرتفع بالإنسان فوق هذا التراب الذي تدبّ فوقه قدماه، فإذا هو محلّق في السماء، يعلو فوق كل خطر، ويسمو فوق كل شدّة!! والطائفة التي تشير إليها الآية الكريمة، والتي أفرغ اللّه في قلوبها هذا الأمن، وساق إليها تلك الخفقة من النعاس، هي الطائفة التي ثبتت مع النبي، سواء من كان منها الذي ثبت طوال المعركة كلّها، أو من انهزم أو فرّ، ثم عاد إلى مكانه من القتال.
وهناك طائفة أخرى، ممن كانوا مع المسلمين أول الأمر، وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبىّ بن سلول، فإنهم حين أوشك القتال أن يلتحم بين المسلمين وبين المشركين، انحاز بهم صاحبهم جانبا، متذرّعين بتلك الكلمة المنافقة، التي حكاها القرآن الكريم عنهم. في قوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ} [166: آل عمران] وهم يعلمون يقينا أن القتال وشيك بين المسلمين وبين المشركين. ولكنهم لكى يجدوا لأنفسهم عذرا في النكوص على أعقابهم قالوا تلك القولة الكاذبة التي حكاها القرآن عنهم.
هذه الطائفة لم يكن لها من هذا الأمن الذي سكبه اللّه في قلوب المؤمنين، نصيب، وهى التي أشار اللّه سبحانه وتعالى إليها بقوله: {وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا}.
فهذه الطائفة، طائفة ابن سلول، قد أهمتهم أنفسهم، ولم يكن همّهم الإسلام، ولا الدفاع عنه.. بل طلبوا السلامة لأنفسهم أولا، فتجنبوا المعركة، ووقفوا بعيدا ينتظرون من تدور الدائرة عليه، من الفئتين المقاتلتين.
وفى قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ} اتهام لهؤلاء الذين أهمّتهم أنفسهم، ومواجهة لهم بالجرم الذي ارتكبوه.. إنهم يظنون باللّه ظنّ السّوء، فيكذّبون بما وعدهم اللّه به، وينظرون إلى اللّه تلك النظرة الباردة التي كانوا ينظرون بها إلى آلهتهم من الأصنام التي كانوا يعبدونها، فيجعلون حساب اللّه عندهم كحساب هذه الأصنام، حتى لكأن الإسلام لم يغيّر من حالهم في جاهليتهم شيئا.
وفى قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} كشف لبعض ظنونهم السيئة باللّه.. فهم يسألون في استبعاد واتهام {هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}.
والأمر الذي يسألون أو يتساءلون عنه هو أمر النصر والغلب الذي وعد اللّه به النبيّ والمؤمنين.. وقد أمر اللّه الرسول أن يجيبهم بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}.
فلو كانوا مؤمنين باللّه حقّا لما سألوا هذا السؤال، ولعلموا أن كل شيء بيد اللّه، وليد اللّه.. ولكان عليهم أن يستقيموا على ما دعاهم اللّه إليه من الجهاد، معتصمين بالصبر والتقوى.. ثم ليستقبلوا ما يكون بعد ذلك من نصر أو هزيمة، فإن كان النصر، حمدوا اللّه وشكروا له، وإن كانت الهزيمة أسلموا أمرهم للّه، وصبروا على ما أصابهم.. وقالوا قولة المؤمنين عند لقاء الأمور على وجوهها المختلفة: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [78: النساء] وقوله تعالى: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ} يكشف للنبىّ عن دخيلة هؤلاء الضعاف الإيمان، وأنهم يقولون في أنفسهم، أي فيما بين المرء ونفسه، أو فيما بين بعضهم وبعض- يقولون شيئا غير هذا الذي واجهوا به النبي والمسلمين في قولهم: {هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} فهذا السؤال على ما فيه خبث، وضعف إيمان، يمكن أن يقبل منهم، ويحمل على الجهل وسوء الظن باللّه.
ولكن الذي يدور في أنفسهم، ويجرى فيما بينهم، هو اتهام صريح للّه، وتجديف عليه، يكاد يكون ردّة عن الإسلام.. وهذا ما فضحه اللّه منهم وأعلنه على العالمين، في قوله سبحانه: {يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا}.
إنهم- هنا- يقولونها صريحة، بأن ما وعدهم اللّه لم يكن إلا غرورا.
وأنه لو كان هذا الوعد حقّا، لما كانت هذه الدائرة التي دارت على المسلمين، وذهبت بكثير من النفوس.
وفى قولهم: {ما قُتِلْنا هاهُنا} بإضافة القتل إليهم، مع أنهم لم يقتلوا، بل ولم يقاتلوا- في هذا القول ما يكشف عن مدى إيمانهم بهذا القول المنكر، وأنه هو القول الذي كان ينبغى أن يكون لسان حال المسلمين جميعا، حسب تصويرهم وتقديرهم.
وقد ردّ اللّه عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ} أي أن هذا القتل الذي وقع في المسلمين لم يكن يعصمهم منه عاصم، فما هو إلا أجل قد انقضى، وموت أنهى هذا الأجل عند انقضائه، على الصورة التي قضى اللّه أن ينتهى به عليها.
فهؤلاء الذين استشهدوا في أحد، قد كتب اللّه عليهم أن يقتلوا في هذا الوقت، وفى هذا المكان، وأن يكرموا بالشهادة.. وليس في الوجود قوة تمنع قضاء اللّه أن ينفذ على الوجه الذي أراده، وقضى به.
وقوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ} معطوف على مفهوم من قوله تعالى: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ}.
أي لو لزمتم بيوتكم، وأصررتم على التزامها، لدعا قضاء اللّه الذي قضاه على هؤلاء الذين قتلوا، أن يخرجوا إلى حيث التقوا بالعدوّ، وإلى حيث دارت المعركة، وسقط القتلى، فذلك أمر قضى اللّه به فيمن أراد قتله، وليبتلى ما في قلوبكم أيها المجدفون على اللّه، من ضعف، وليخرج ما في صدوركم من نفاق.. فلولا هذه المحنة وما كان فيها، لما ظهر ضعف إيمانكم، ولما استعان نفاقكم للمؤمنين.. وهذا بعض حكمة الابتلاء الذي يبتلى اللّه به المؤمنين، فيما فرضه عليهم من جهاد الكافرين والمنافقين!
وفى قوله تعالى. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} بيان لسعة علم اللّه، ونفوذه إلى كل خفىّ.. فعلم- سبحانه- لا يقف عند ظواهر الأشياء، ولكنه ينفذ إلى كل ذرة من ذراتها، وإلى كل دقيقة من دقائقها.
وذات الشيء: حقيقته. وكنهه، وما اشتمل عليه من أسرار وخفايا، وذات الصدور، حقيقتها، وما تلبّس بها من خفايا وأسرار.. فالصدور وما تكنّ، والضمائر وما تجنّ، يعلم منها اللّه ما لا يعلم صاحبها.. فسبحانه، سبحانه، وسع كل شيء علما!!