فصل: تفسير الآيات (176- 178):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (176- 178):

{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} عزاء ومواساة للنبى الكريم، لما كان يجد في نفسه من الحزن والألم، حين يرى بعض من دخلوا في الإيمان، وحسبوا في المؤمنين، وظنّ بهم أن خرجوا من ظلام الكفر وضلال الجاهلية إلى نور الإيمان وهدى الإسلام- فإذا بهم وقد عادوا إلى المنحدر، وأزلهم الشيطان عن هذا المقام الكريم.
والرسول الكريم يعلم أن ليس عليه إلا البلاغ، ولكنّ حرصه على هداية الناس، ورغبته الشديدة في استنقاذهم من الضلال في الدنيا، والنار في في الآخرة، يجعله يفرض على نفسه أن يبالغ في النصح لقومه، وتعهدهم بتوجيهه وإرشاده، كما يتعهد الأب صغاره.. ولهذا كان صلوات اللّه وسلامه عليه، يأسى أشد الأسى، إذ يرى هذا العناد الذي يملأ الرءوس من قومه، ويمسكهم على شفير الهاوية، التي تهوى بهم إلى عذاب السعير.. ولهذا أيضا كانت كلمات اللّه تتنزل عليه حينا بعد حين، تدعوه إلى الرفق بنفسه، وألا يحمله حبّه للخير الذي يريد غرسه في قلوب الناس إلى ما هو فيه همّ وحسرة وقلق.. {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [56: القصص] {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ} [8: فاطر].
فهؤلاء الذين يسارعون في الكفر هم الخاسرون، قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، ولن يضرّوا اللّه شيئا.
وفى التعبير بالظرف {فى} في قوله تعالى: {يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} بدلا من {يسارعون إلى الكفر} ما يشير إلى أنهم قد دخلوا في حوزة الكفر فعلا، حتى لقد صار الكفر ظرفا يحتويهم ويشتمل عليهم، وهم يتحركون في داخله، ليبلغوا الغاية في الكفر والضلال.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} تهوين لشأنهم وأنه لم يكن لينتفع بهم المسلمون لو كانوا معهم، لما في قلوبهم من مرض، وما في كيانهم من فساد، كما أنهم وقد تحوّلوا إلى الجبهة المعادية للمسلمين فإنّهم لن يكون لهم أثر في مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى انطلاقها إلى المدى الذي أراده اللّه لها، والخسران في هذه الصفقة واقع عليهم وحدهم.. {ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ} [33: المائدة].
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} في نسبة الإرادة إلى اللّه هنا إغاظة لهم، بسلب إرادتهم، وسوقهم سوقا إلى الكفر الذي هم أهل له وأنه لا مصير لهم إلا هذا المصير المشئوم.
فتعطيل إرادتهم هنا يحرمهم هذا السلطان الذي يجده المرء في نفسه، ويعتزّ به، حتى وهو يركب مراكب الهلاك.. إذ أنه هنا يجد كلمة أنا حرّ التي يجد فيها وجوده، ويردّ بها على من ينصح أو يلوم.
وهؤلاء الذين دخلوا في الكفر، دخلوه وكأنهم مكرهون، بلا إرادة، ولا حرية، ولا اختيار.. إنهم ليسوا آدميين، حتى تكون لهم إرادة، وتكون لهم حرية واختيار.
وفى قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ} وفى تعليق الفعل بالمستقبل، وقد أراده اللّه ووقع فعلا- في هذا ما يقيمهم أبدا بهذا الوضع الذي هم، بلا إرادة ولا اختيار، لأن إرادة فوق إرادتهم قائمة عليهم أبدا.. فليس لهم- والأمر كذلك- أن ينتظروا يوما تعود إليهم فيه حريتهم وإرادتهم، أو أن يكونوا يوما في وضع الإنسان الحر المريد! قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} تأكيد لضالة شأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان، واستحبّوا العمى على الهدى.. وقد توعّدهم اللّه- سبحانه- في الآية السابقة بالعذاب العظيم، وتوعدهم في هذه الآية بالعذاب الأليم، كما توعدهم في الآية التالية بالعذاب المهين، فجمع لهم أشنع صور العذاب.. العذاب العظيم.. الأليم.
المهين.. العظيم في صورته، الأليم في آثاره الحسيّة، المهين في آلامه النفسية.
وقوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.
فيه تكدير لهؤلاء الكافرين، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين. وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يقدّم للحيوان من طعام، كى يكبر، ويكثر لحمه، ثم يذبح!، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [12، محمد].
فاللّه سبحانه إنما يملى لأعدائه من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، ويمدهم بنعمة وأفضاله، ليقيم الحجة عليهم، ولتحسب عليهم هذه النعم، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها، فاتخذوها أدوات لحرب اللّه، وحرب أولياء اللّه، فكانت عليهم بلاءا ووبالا.. {أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [55- 56:
المؤمنون].
هذا، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون، وتكشف فيه أحوالهم، إنما يراد به أولا وقبل كل شيء، العبرة والعظة للمؤمنين، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها.. وفى هذا ما يثبت إيمانهم، ويقوّى صلتهم باللّه، ويزيد في حمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان، وسلك بهم مسالك المؤمنين.
أما الكافرون فقد يستمع مستمعهم إلى آيات اللّه تلك، التي تعرض الكفر وأهله في هذا العرض المخيف، ويرى منه المصير الذي ينتظره، فيرجع إلى نفسه، ويعدل عن موقفه، ويصالح ربّه بالإيمان به، والموالاة لأوليائه.

.تفسير الآية رقم (179):

{ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}.
التفسير:
قضت حكمة اللّه أن يجعل هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار للناس، يذوق فيها بعضهم بأس بعض، وفى هذا الاحتكاك الواقع بينهم، تظهر أحوالهم وتنكشف أمورهم، وتعرف معادنهم، ولولا ذلك لكانوا شيئا واحدا.
لا مؤمن ولا كافر، ولا طيب ولا خبيث، ولا محسن ولا مسيء وقوله تعالى: {ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} هو من مقتضيات هذه الحكمة التي كان من آثارها هذا الاحتكاك الذي يدور بين المسلمين والكافرين، والذي ابتلى فيه المؤمنون بما أصيبوا في أنفسهم وأهليهم.. فليس الإسلام هو كلمة يقولها الإنسان ليكون مسلما، وإنما هو كلمة وراءها عمل، ووراء العمل تبعات كثيرة، وأعباء ثقال، ولولا ذلك لكان مدخل الإيمان سهلا، لا ثمن له، يستوى فيه من يعمل ومن لا يعمل.. بل إنه لا يجد أحد ما يدفعه إلى العمل وبذل الجهد، إذ كان الأمر على تلك الصفة.
وفى قوله تعالى: {عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ} التفات للمؤمنين واستحضار لهم، ليكونوا في مواجهة هذا الحكم، وليؤخذ إقرارهم به، وما عليه المؤمنون هو العافية التي كانوا فيها قبل أن يبتلوا بلقاء الكافرين وجهادهم.
وقوله تعالى: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي حتى يقع هذا الصدام بين المؤمنين والكافرين، وحتى تنكشف أحوالهم، ويعرف الصابرون وغير الصابرين، ومن كان إيمانهم باللّه خالصا صادقا، ومن كان إيمانهم على نفاق ودخل.. وعلم اللّه سبحانه- علم شامل، محيط بما وقع وما لم يقع، في جميع صوره وأحواله.. وعلمه هنا، الذي يميز به الخبيث من الطيب ليس علما مستحدثا، وإنما هو علم قديم يندرج تحته هذا الحال الذي يكون عليه المؤمنون وهم في هذا الامتحان الذي يؤدونه بين يدى اللّه.
وعلى هذا ينبغى أن يفسّر ويفهم ما ورد في القرآن من علم اللّه الذي يبدو وكأنه معلق بوقوع الأحداث.. مثل قوله تعالى: {وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا} [65- 66: آل عمران] ومثل قوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [142: آل عمران].. ونحو هذا.
فعلم اللّه محيط بكل شيء.
وكل ما هو في علم واقع تحت هذا العلم، في جميع أحواله المتلبس بها.. فاللّه سبحانه يعلم أزلا أن هذا الإنسان- مثلا- سيولد من أبوين، هما فلان وفلان.. في بلد كذا، في زمن كذا.. وقبل أن يولد هذا الإنسان هو في علم اللّه، وبعد أن ولد هو في علم اللّه.. ولكن علم اللّه به قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن يولد في المكان والزمان الواقعين في علم اللّه- يكون المعلوم فيه على صور خاصة وصفات خاصة، فإذا ولد، كان المعلوم في علم اللّه على صورة غير الصورة السابقة، وعلى صفات غير تلك الصفات التي كان عليها قبل أن يولد!.. وهكذا تتغير ذوات المعلومات وصفاتها، وعلم اللّه محيط بها في جميع أشكالها وأحوالها، فلا يتغيّر ولا يتبدّل.
قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} معطوف على قوله تعالى: {ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ}.
والربط بين الحكمين لازم، لأن عدم اطلاع المؤمنين على الغيب، وما أراد اللّه لهم وكتب عليهم، يقتضى أن يؤمروا وأن ينهوا وأن يدعوا إلى الامتحان والابتلاء والجهاد في سبيل اللّه.
ولو كان الغيب مكشوفا للناس لما كان ثمّة داعية إلى أمر أو نهى، فكلّ يعرف مصيره الذي هو صائر إليه.. ولو عرف الناس مصائرهم مقدما، وانكشف لهم مستقبلهم خطوة خطوة، لما احتملت طبيعتهم البشرية هذا الموقف الذي يرى فيه الإنسان وجوده كله من مبدئه إلى نهايته، ولكانت فتنة في الأرض وفساد كبير.
ففى حجب المستقبل عنّا رحمة بنا، وإحسان إلينا، واستدعاء لوجودنا كلّه لمواجهة المجهول، ومحاولة كشفه واستخراج ما في أطوائه، من خير وشر، وحلو ومرّ.. فهو على أي حال ثمرة مجهود، وحصاد معركة!! وانظر.. لو أن إنسانا ما عرف عن يقين من سجّل القدر أنه في يوم كذا، في ساعة كذا، ستصدمه سيارة تقضى عليه، أو تشبّ فيه نار فتلتهمه، أو أن أحد أبنائه سيحدث له حادث أليم.. ما ذا تكون حالة هذا الإنسان، منذ أن يطلع على هذا الغيب إلى أن يقع؟ هل يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب، أو يهدأ له قلب أو يستريح له بال؟ إنه في همّ دائم، وكرب كارب، وعذاب أليم؟!
وأكثر من هذا.. لو أن هذا الإنسان اطلع الغيب فرأى- وهو الفقير المعدم- أنه بعد كذا من السنين سينال الغنى الواسع والثراء العريض، وأنه سيشبع من جوع، ويكتسى من عرى، وينال ما يشتهى من متع الدنيا، بعد هذا الحرمان الطويل.. ماذا تراه في يومه هذا، وهو ينتظر ذلك اليوم الموعود؟
إنه يعيش تلك السنين الفاصلة بينه وبين هذا اليوم، في عذاب، دونه كل عذاب.. إنه يعدّ الأيام لحظة لحظة، ويدفع مسيرة، الزمن بكل ما في كيانه من قوى ظاهرة وباطنه.. والزمن قائم في وجهه، جاثم على صدره، كأنه جبال الدنيا كلها مجتمعة عليه.. إنه يودّ أن ينام نومة أهل الكهف فلا يستيقظ إلا على يومه الموعود.. ولكن أنّى له ذلك، وهو مشدود إلى الحياة، مقيد بقيود الزمن الثقيلة العاتية؟
من رحمة اللّه علينا إذن كان هذا الذي صنعه اللّه بنا، فحجب عنّا ما أراده لنا، وما قضاه علينا، فنعمل بإرادة، ونمضى بعزم، ونعيش مع أمل.
فقوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} دعوة للمؤمنين إلى العمل حسب ما يأمرهم اللّه به، وبين تلك الأوامر الجهاد في سبيل اللّه، والثبات في وجه العدوّ، والعمل على انتزاع النصر منه.. ذلك هو المطلوب من المؤمنين في مثل هذا الموقف.. أما ما يؤول إليه الأمر، وما يسفر عنه القتال، فذلك علمه عند اللّه.. وعلى المؤمنين أن يرضوا بما يقع، أيّا كان، بعد أن امتثلوا أمر اللّه، وأعطوه كل جهدهم.
يقول جعفر الصادق رضى اللّه عنه لزرارة: يا زرارة.. أعطيك جملة في القضاء والقدر؟ قال: نعم، جعلت فداك، قال: إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه الخلائق، سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم.
وهذه كلمة فيها مقطع القول في القضاء والقدر، وعلى من يحتجون بالقضاء والقدر.. إنهم مطالبون بما كلّفوا به، وغير مطالبين بما قدّره اللّه عليهم.
وقوله تعالى: {وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ} استدراك فيه معنى الاستثناء من الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}.
إذ أن رسل اللّه الذين يصطفيهم اللّه لحمل رسالاته إلى عباده، هم ممن أظهرهم اللّه على بعض ما في الغيب، وأطلعهم على لمحات منه، ليروا على ضوئها طريقهم الذين يقودون فيه عباد اللّه إلى الهدى والخير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [26- 27: الجن] ومن جهة أخرى.. فإن الرّسول- وإن لم يطلع على شيء من الغيب.
فإنه أشبه بمن اطلع على الغيب فيما يتعلق بالدعوة التي يحملها، والرسالة التي يقوم بتبليغها.. إنها دعوة خير، ورسالة نور وهدى.. وإن السعادة في الدنيا والآخرة لمن استجاب لدعوته وعمل بها، وإن النّصر والتأييد من اللّه لمن آمن باللّه وجاهد في سبيله.. هذه حقائق لا تقبل الشك، ووعود محققة كأنها واقعة وإن لم تكن قد وقعت، فهى في مضمونها من أبناء الغيب، يراها رسل اللّه والمؤمنون باللّه، رأى العين، ويستيقنونها يقين الواقع في أيديهم.
ففى قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [21: المجادلة] وفى قوله: {وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [47: الروم] وفى قوله سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ} [51: غافر].
وفى قوله سبحانه: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [124: آل عمران].
وفى قوله جل شأنه: {قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [15: التوبة] في هذه الآيات وكثير غيرها يرى رسول اللّه ويرى المؤمنون معه واقع هذه الوعود ماثلا بين أيديهم، وكأنهم قد اطلعوا الغيب وعاينوا ما سيكون قبل أن يكون! لما نزل قوله تعالى {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [45: القمر] استيقن المسلمون أن جمع الكافرين سيهزم بأيديهم وسيولّى الدبر.. هذا ما لم يكن يشكّ فيه مؤمن، حتى لكأنه يراه رأى العين، ولكن الرؤية لم تكن كاملة، حيث لم ينكشف للمسلمين هذا اليوم الذي سيتحقق فيه هذا الوعد الذي وعدهم اللّه إياه.. فلما كان يوم بدر انكشف ما كان مستورا، ورأى المسلمون الجمع المنهزم، وفى هذا كان يقول عمر بن الخطاب: ما كنت أدرى أي جمع هذا الذي سيهزم حتى رأيت جمع قريش يوم بدر، وهم منهزمون يولّون الأدبار.
وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} دعوة يستجيب لها كل ذى عقل ووعى، حيث كانت تلك الدعوة من عند اللّه، وكان حاملوها رسلا من عند اللّه، وكانت مضامينها حقّا مطلقا، ووعودها واقعا محققا، لأنها من أبناء الغيب وقد أطلع اللّه عليها رسله والمؤمنين به، فيما حملت آياته إليهم من أمر ونهى، ومن خبر او وعد!
وليس الإيمان وحده مجردا من العمل هو الذي يعطى الثمرة المرجوة من الإيمان.. إذ لابد من أن يصحب الإيمان عمل يدعو إليه الإيمان، ويرسم حدوده، وثمرة هذا العمل هي التقوى، التي يحقق بها المؤمن حقيقة الإيمان.
وبهذا يدرج في سلك المؤمنين، ويحظى من اللّه بالجزاء الأوفى، والأجر العظيم.