فصل: تفسير الآية رقم (180):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (180):

{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}.
التفسير:
الجهاد في سبيل اللّه امتحان وابتلاء، فيه تضحية وبذل.. تضحية بالنفس، إذا دعت دواعيها، وبذل للمال حين يطلب المال! وقد أعطى المجاهدون الصادقون ما يطلب الجهاد من نفس ومال، على حين ضنّ أناس بأرواحهم، أن يبيعوها للّه في سبيل اللّه، وبخلو بأموالهم أن يقرضوها اللّه في سبيل اللّه.. ثم مع هذا منّتهم أنفسهم أن يكونوا في المؤمنين، ثم أطالوا حبل الأمانىّ فظنوا أنهم في عداد المتقين المجاهدين.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [92: آل عمران].
وفى هذه الآية يكشف اللّه سبحانه عن هذه الأمانىّ الخادعة، التي يعيش فيها أولئك الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله، من قوة أو مال، فلا ينفقون منها في وجوه الحقّ الداعية لها.. وإنّهم لهم الخاسرون في هذا الموقف الذي اتخذوه حيال الحقوق الواجبة عليهم، في أموالهم وأنفسهم.. حياة قصيرة في هذه الدنيا، لأجل محدود، ومتاع قليل بهذا المال الذي استبقوه لاستيفاء حظوظهم من الشهوات واللذات.. ثم ما هي إلا لمحة كلمح البصر، وإذا هم في موقف الحساب والجزاء.. وإذا هم وأنفسهم التي ضنّوا بها، وأموالهم التي أمسكوا عن الإنفاق منها، خصمان يقتتلان، وإذا هذا المال يتحول إلى أداة عذاب ونكال، يطوّق أعناقهم بأطواق ثقال، ثقل ما جمعوا وكنزوا: {سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ}.

.تفسير الآيات (181- 182):

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)}.
التفسير:
فى معرض البخل بالمال والحرص عليه، يمثّل اليهود أسوأ صورة، وأقبح مثل لما يبلغه إنسان في هذا الباب.
فالمال عند اليهود- كل يهودى- هو كل شيء، فاليهودى إذا سلم ماله فلا عليه إذا تلف كل شيء، وضاع منه أي شيء.. من دين أو خلق.
لهذا، جاءت الآية الكريمة- بعد أن كشفت الآية السابقة عن جريمة البخل، والعقوبة التي أعدها اللّه لمرتكبيها- جاءت لتكشف عن درجة من البخل لم يعرفها الناس إلا في هذا الصنف المحسوب من الناس.. إنهم لم يجمعوا المال من وجوه الحرام والسحت وحسب، ولم يضنوا عن الإنفاق منه في سبيل الحق والخير وحسب، بل بلغ بهم السّفه والفجر إلى تحدّى اللّه به، وإعلان الحرب الوقاح عليه، فكانت قولتهم الآثمة تلك، التي حكاها القرآن عنهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ} كانت تلك القولة المنكرة لسان حالهم، في كل مشهد يشهدونه للمسلمين وهم يدعون للبذل الإنفاق في سبيل اللّه، وينادون في الناس بقول اللّه سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [245: البقرة].. ولا يقع إلى آذان اليهود من كلمات اللّه تلك إلا القرض الذي يعرفونه، ويتعاملون به ربا فاحشا، يغتال أموال الناس، ويمتصّ ثمرة جهدهم.. والقرض لا يكون إلا من غنىّ إلى فقير، وإذ كان اللّه يطلب قرضا فهو فقير، وإذ كان اليهود هم أقدر الناس على الإقراض الربوىّ فهم أغنياء.
هكذا منطق المال عند اليهود.. حتى مع اللّه.
وقوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ} وعيد لليهود، ونذير بالعذاب الشديد لهم.. إذ كان ما قالوه تجديفا على اللّه، ومحاربة له.. واللّه سبحانه وتعالى قد سمع هذا القول المنكر منهم.. والمراد أنه سبحانه وتعالى قد علم ما قالوا.. والتعبير عن العلم بالسّمع أبلغ وأقوى في حسابنا وتقديرنا نحن.. أما علم اللّه وسمع اللّه، وما للّه من صفات، فهى جميعا على الكمال المطلق الذي لا يقبل زيادة أو نقصا.
وقوله سبحانه: {سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}.
هو مبالغة في تغليظ هذا الجرم وتهويله، فقد كتبه اللّه عليهم ووثّقه، كما يكتبون هم ما يستدينه الدائنون منهم ويوثّقونه، فلا سبيل إلى الضياع أو الإنكار.
ولم يسجّل سبحانه عليهم هذا القول الشنيع وحده، بل قرنه إلى جرم آخر لا يقلّ عنه شناعة وإثما، وهو قتلهم الأنبياء بغير حقّ، وهنا تبدو قولتهم المنكرة تلك موازية لقتل الأنبياء بغير حق، ومعادلة لها في جرمها وإثمها.
وهنا سؤال:
إن هؤلاء اليهود الذين يخاطبهم القرآن الكريم لم يقتلوا الأنبياء، ولكنّ القتلة هم آباؤهم.. فكيف يكتب القتل عليهم، ويضاف إلى جرائمهم التي أجرموها؟.
والجواب على هذا- واللّه أعلم- أن اليهود طبيعة واحدة، لا يختلف خلفهم عن سلفهم في شيء مما هم عليه من عناد، وكفر بآيات اللّه، ومكر بآلائه ونعمه.. فهؤلاء الأبناء الذين يخاطبهم القرآن الكريم، هم اليهود الذين خاطبهم داود، وأيوب، ويوسف، وموسى، ويحيى، وعيسى، وغيرهم من أنبياء اللّه ورسله، وفيهم كل ما في آبائهم من عناد وكفر، وأنه لو جاءهم نبىّ لهمّوا بقتله، ولو أمكنتهم الفرصة فيه لقتلوه.
فإضافة هذا الجرم إليهم- وهو قتل الأنبياء- هو إضافة لهم إلى آبائهم القتلة، فما مات هؤلاء الآباء، ولا انقطعت من الأرض جرثومة الشرّ التي كانت فيهم، بموتهم، بل هم أحياء في هؤلاء الأبناء، بكل ما عرف عنهم من سوء وفساد.
وقوله وتعالى: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} هو الجزاء المقابل لقولهم {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ}.
فهم قالوا {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ} ونحن- أي اللّه- {نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} فهو قول يقابل قولا.. وشتان بين قول اللّه وقولهم.. هم قالوا زورا وبهتانا، واللّه يقول حقّا وعدلا.. هم قالوا أصواتا ضائعة في الهواء، واللّه يقول نارا تلظّى، وعذابا سعيرا، يأخذهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وقوله تعالى: {ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ردّ عليهم، وردع لهم إن هم أنكروا هذا العذاب الذي يساق إليهم، أو استفظعوه.. فهذا العذاب قد صنعوه هم بأنفسهم لأنفسهم.. إنه صنعة أيديهم، فكيف ينكرونه، أو يردّونه؟.
وفى قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} يجيء التعبير بظلام، في صيغة المبالغة هذه، للتشنيع عليهم، والتعريض بظلمهم الذي جاوز الحدود، في أكلهم أموال الناس بالباطل، وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم إن اللّه فقير ونحن أغنياء، فهم- والأمر كذلك- ليسوا ظلمة وحسب، بل هم ظالمون لعباد اللّه ولأنفسهم، ولو جازاهم اللّه حسب ما يعاملون به الناس من ظلم غليظ لضاعف عقابهم، ولظلمهم كما يظلمون الناس، فكال لهم الكيل بأضعافه، ولكن اللّه لا يظلم الناس، وإنما يحزبهم السيئة بالسيئة، أو يعفو عنها إن شاء، ويجزيهم الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعف ذلك لمن يشاء!.

.تفسير الآية رقم (183):

{الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)}.
التفسير:
الّذين قالوا إن اللّه عهد إلينا ألّا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، هم اليهود، الذين تحدث القرآن عنهم في الآيات السابقة، وأنهم هم {الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ}.
فالذين هنا، هم الذين هم هناك.، وقد سمع اللّه قولهم هذا، وذاك، وسجّله عليهم ليحاسبهم به، ويجزيهم عليه.
وقولهم هنا، هو افتراء من افتراءاتهم، يدفعون به دعوة النبيّ لهم إلى الإيمان به، والتصديق برسالته، على الصفة التي يجدونها في التوراة عنه.. فهم ينكرون هذا الذي في التوراة، ويجيئون بمفتريات من عندهم، ويلقون النبيّ الكريم بقولهم: {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} أي إن آية النبيّ التي يريدون أن يعرضها عليهم- كدليل على صدقه- هو أن يقدّم للّه قربانا، كبقرة، أو شاة، أو نحوها، ثم يدعوهم إلى أن يشهدوا آية للّه في هذا القربان، وأن نارا من السّماء ستنزل وتأكل هذا القربان، وهم يشهدون.. فإذا جاءهم النبيّ على تلك الصفة آمنوا به، وصدقوه.
وإذ كان ما جاء به محمد هو على غير تلك الصفة، فهو ليس بنبىّ، أو ليس- على الأقل- هو النبيّ وعدوا به.
وقد جنّب اللّه النبيّ الكريم أن يلقى هؤلاء القوم بالمراء والجدل، وأن يردّ فريتهم هذه التي افتروها على اللّه، وأن يدخل معهم في أخذ وردّ، فذلك طريق يحبّ أن يسلكه اليهود مع النبيّ، ويودّون أن يستجيب للسير معهم فيه، حيث ينتهى الطريق، ولا محصّل له إلّا ضياع الوقت في المهاترات والسفسطات. الأمر الذي يريد اللّه أن يجنّبه النبيّ، ليسلك بدعوته الطريق القويم إلى من يتقبّل الخير، ويعطى أذنه وقلبه لدعوة الحق، وكلمة الحق.
لقد نأى اللّه بالنبيّ الكريم عن هذا الطريق، ودعاء إلى أن يلقى اليهود بما يقطع حجتهم ويخرس ألسنتهم.
فهم يريدون نبيّا يأتيهم بقربان تأكله النّار، ليصدقوه ويؤمنوا به.
وقد جاءهم أنبياء اللّه بالآيات البينات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكفرق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الحجر الصّلد بها.. فهل آمنوا بهؤلاء الأنبياء واستجابوا لهم؟ وأكثر من هذا.. فقد جاءهم أنبياء بهذا المقترح الذي اقترحوه على النبيّ، وتحدّوه به.. جاءهم من كان يقدّم للّه قربانا فتأكله النار.. فهل آمنوا به وصدّقوه؟
وكلّا، فإنه لم يكن منهم إيمان وتصديق.. بل كان التكذيب والكفران، بل والعدوان. فقتلوا من أنبياء اللّه من جاءوهم بالآيات التي اقترحوها على النبيّ، وبأكثر منها قوة ووضوحا في مجابهة الحسّ.
ولو جاءهم النبيّ بهذا الذي طلبوه.. فهل يصدقونه ويؤمنون به؟؟
ذلك ما لا يكون. فقد كذّبوا رسل اللّه، وقد جاءوهم بهذه الآيات التي كانت مما اقترحوه على الرسل، وتحدّوهم به.. ولكنه التعلل، والتهرب من مواجهة الحق، بهذا المراء الطفولىّ.. واللّه سبحانه وتعالى يقول فيهم:
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ} [96- 97: يونس] ويقول سبحانه: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} [146: الأعراف].

.تفسير الآية رقم (184):

{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)}.
التفسير:
فى هذه الآية الكريمة عزاء كريم من ربّ كريم، لنبىّ كريم.
فهذا شأن أصحاب الرسالات وحملة الهدى. مع السفهاء، أصحاب الطبائع النكدة، والضمائر الفاسدة.. لا يلقون منهم إلا التطاول الأحمق، والسّفه اللئيم.
وخاصة هذا الصنف من الناس (اليهود) الذين انتظم تاريخهم الأسود، سلسلة مترابطة الحلقات من مواقف الفساد والشر، في مواجهة كل خير! فإنه ليست أمة من الأمم بعث اللّه إليها مثل ما بعث في نبى إسرائيل، من أنبياء ومرسلين، وليس رسول من الرسل حمل إلى قومه ما حمل رسل بنى إسرائيل إليهم من آيات تنطق البكم، وتسمع الصمّ.. فلم ينتفعوا بتلك الآيات، ولم يجدوا فيها شفاء لدائهم الخبيث.
وليست كثرة هذه الرسل، ولا توارد هؤلاء الأنبياء، ولا إشراق هذه الآيات التي يحملونها بين أيديهم، إلى هؤلاء القوم- ليست هذه كلها إلّا لأن الداء الذي يكمن فيهم، والمرض المتمكن من عقولهم وقلوبهم، قد استشرى حتى أصبح وباء، فكانت نجدة السماء لهم بهؤلاء الأطباء الأساة، يطلعون عليهم من كل أفق، ويغادونهم ويراوحونهم في كل وقت.. ولكن الداء لا يزداد على الزمن إلا استيلاء عليهم، وفتكا بهم.. {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} [10: البقرة].
{والبيّنات} هي الآيات التي جاءهم بها عيسى عليه السّلام، والتي يشير إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ} [77: البقرة] {والزّبر} جمع زبور، وهو القطعة من الشيء.. والزّبور هنا ما أعطى داود عليه السّلام من كلمات اللّه، التي هي بعض من كتاب اللّه، الذي نزل على الرّسل، كلّ حسب حظه منه، ثم جاء القرآن الكريم، جامعا للكتاب كلّه، وفى هذا يقول اللّه تعالى مخاطبا المؤمنين في مواجهة الذين كفروا من أهل الكتاب: {ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ} [119: آل عمران] وهو القرآن وما سبقه من كتب.
والكتاب المنير هنا. هو القرآن الكريم.. وفيه إشارة إلى موقف اليهود منه، وأنهم كذّبوا بالأنبياء الذين جاءوهم بالبينات- أي عيسى- وبالزبر- أي مجموعات الأنبياء الذين حمل كل منهم بعض كلمات اللّه إليهم، وبالكتاب المنير، وهو القرآن الذي جاء به محمد صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

.تفسير الآية رقم (185):

{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)}.
التفسير:
وهذه الآية الكريمة تحمل أيضا عزاء كريما إلى النبيّ الكريم، بما تهوّن عليه من أمر الدنيا، وما يلقى في تبليغ رسالة ربّه، من عناد وعنت، وما يعرض له نفسه وأصحابه المجاهدين معه من جهد وبلاء، في ملاقاة الموت، والاستشهاد في سبيل اللّه.
فهذا كلّه هيّن في لقاء الجزاء الحسن، الذي أعدّه اللّه لرسوله وللمؤمنين، من رضى ونعيم.
أما أمر الموت، فهو حكم واقع على كل حىّ، ونازل بكل نفس.
{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} وإذا كان ذلك هو الشأن، فالحرص على الحياة، والفرار من مواقف الحق والخير، طلبا للأمن والسلامة- أمر لا يكتب الخلود لأحد، فضلا عن أنه لا يمدّ له لحظة واحدة في أجله المقدور له.
وأما الذي ينبغى الحرص عليه، والبذل من أجله، فهو الآخرة، التي هي دار البقاء والخلود.. وإذا كان هذا شأنها وذلك وزنها وقدرها، فإن العقل يقضى بطلب العمل لها، والسلامة فيها.. {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ}.

.تفسير الآية رقم (186):

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}.
التفسير:
وإذ كانت الحياة الدنيا إلى زوال، وكان متاعها لعبا ولهوا وغرورا، وإذ كان متّجه العقلاء فيها إلى دار خير منها، وإلى متاع أكرم وأهنأ من متاعها- وهى الدار الآخرة- إذ كان ذلك كذلك، فإن للدار الآخرة عملا، وللجزاء الحسن فيها ثمنا.. إنها ليست أمانىّ يتمنّاها النّاس، ولكنها جهد، وبلاء، ومعاناة، فإذا أرادها المريدون وطلبها الطالبون، فليعملوا لها، وليؤدّوا الثمن المطلوب للحصول على نعيمها، ورضوان اللّه فيها! وقد أرادها المؤمنون، وطلبوا ما عند اللّه للمؤمنين فيها.. وإذن فليعملوا لها، وليؤدّوا مطلوبها منهم! إنه ابتلاء في الأموال والأنفس.. الأموال، يبذلونها في سبيل اللّه، والأنفس، يبيعونها ابتغاء مرضاة اللّه.
وإنه تعرّض للأذى في المشاعر والعواطف، بسماع الكلمات المنافقة، والأكاذيب الملفقة، من الذين كفروا ونافقوا من أهل الكتاب، ومن الذين أشركوا وضلوا من قريش وأحلافها.
إنه أذى مادىّ في الأموال وفى الأنفس، وأذى روحىّ في الشعور والوجدان.. أذى يشتمل على المؤمن كلّه، في مادياته ومعنوياته جميعا.
ونعم.. هو أذى بالغ، وألم شديد، وامتحان قاس مرير!
ولكنّ الجزء الحسن أعظم وأشمل، وإنه لأكثر قدرا، وأثقل وزنا.
فى جانب الإحسان والرضوان.
والصبر والتقوى، هما الزاد العتيد الذي يتزود به المؤمنون لاجتياز هذا الامتحان القاسي، واحتمال آلامه وشدائده.. {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
فإن الأمر جدّ ليس بالهزل.