فصل: تفسير الآية رقم (187):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (187):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)}.
التفسير:
الذين أوتوا الكتاب هنا، هم اليهود.
وهؤلاء اليهود كان جديرا بهم أن يكونوا في عداد المؤمنين، بما في أيديهم من كلمات اللّه، الداعية إلى الحق، الهادية إلى صراط مستقيم.
ولكنهم لم يصبروا ولم يتّقوا.. الأمر الذي لا يستمسك بدونه إيمان، ولا يبقى بغيره المؤمن في المؤمنين! لقد نقضوا الميثاق الذي واثقهم اللّه به، بأن يبيّنوا للنّاس ما في الكتاب الذي معهم من حق وخير، وألا يكتموا من هذا الحقّ والخير شيئا.
وليتهم إذ أمسكوا هذا الذي معهم من حق وخير، ومنعوه النّاس، وحجبوه عنهم- ليتهم وقفوا عند هذا، فكان لهم في أنفسهم منه خير.
ولكنهم أفسدوا هذا الخير على أنفسهم وعلى الناس، فغيّروا وبدلوا، وقلبوا وجه الحق باطلا، وأحالوا عذبه ملحا أجاجا، فضلّوا وأضلوا.
إنهم- والأمر كذلك- أشبه بمن كان في صحراء، لا شيء فيها من ماء أو طعام، وفى يديه شيء من ماء وطعام، ومعه رفقة مسافرة، لا شيء معها، وكان في هذا ما يبلغ به وبها الغاية إلى حيث الماء والطعام، لو أنّه أظهره لها، وأشاعه فيها.. ولكن كزازة طبعه، وشحّ نفسه، وخبث طويته- كل أولئك سوّل له أن يخفى هذا الزاد بل، وأن يفسده، حتى لا ينتفع به أحد.
فهلك، وأهلك الرفقة المسافرة معه! هكذا كان شأن اليهود مع كتاب اللّه الذي في أيديهم.. كتموا الحق الذي فيه، وأفسدوا الخير الذي ينطوى عليه، وقالوا للكافرين والمشركين الكذب على رسول اللّه، وعلى الكتاب الذي بين يديه، لقاء عرض زائل يعيشون فيه، ودنيا فانية يمسكون بها.. فهلكوا وأهلكوا، وضلّوا وأضلّوا.
وفيهم يقول اللّه تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [51- 52: النساء].

.تفسير الآية رقم (188):

{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)}.
التفسير:
هذه الآية أيضا تعريض باليهود، وفضح لمساويهم، ووعيد بالخزي وسوء المصير لهم.
فقد ذكر في الآيات السابقة قولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ} وأنهم بهذا يمسكون المال، ويحادّون اللّه به.
وهنا- في هذه الآية- يعرضون في معرض الفرحين بما أتوا، وهذا الذي أتوه، ليس مما يحمد ويقبل، حتى يفرحوا به.. ولكن الذي فعلوه هو المنكر كلّه، وهو الشرّ كلّه.. إنهم إنما فعلوا الافتراء على اللّه، ونقض الميثاق الذي واثقهم به، أن يبينوا للناس ما معهم من كلمات اللّه، وما فيها من هدى ونور، ولم يقفوا عند هذا الحدّ من البخل والشح، فبدّلوا في كلمات اللّه وغيروا، لتستجيب لمطالبهم الخسيسة، ودواعيهم الخبيثة.
هذا هو الذي فعلوه، وفرحوا به، وحسبوا أنهم بهذه المنكرات التي أفسدوا بها دينهم وأضلوا بها غيرهم- قد استطاعوا أن يفسدوا على محمد دعوته، وأن يغروا المشركين به، ويصرفوهم عنه! {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ} [26: الأنعام] ولم يقف أمرهم عند هذا المنكر، من تحريفهم لكلمات اللّه، بل لقد لبسوا النفاق، وظهروا به في الناس، يظهرون لهم المودة والحب، ويضمرون العداوة والبغضاء، ويرجون لهم النصر بألسنتهم، ويتمنون لهم الهزيمة من قلوبهم.
إنهم يريدون أن ينالوا الحمد والثناء، بما لم يفعلوا مما يستحق الحمد، ويستوجب الثناء.. إنها مجرد كلمات معسولة خادعة، إن انطوت على شيء، فإنما تنطوى على الشر والسوء والفساد.
وقوله تعالى {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ} هو بدل من قوله سبحانه: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا} وإعادة الفعل {تحسبن} هنا لتوكيد الحكم الواقع عليهم وتقريره، وإلصاقه بهم، بعد أن طال الفصل بالمفعول الأول ومتعلقاته، بين الفعل حسب ومفعوله الثاني، حيث كان مقتضى النظم أن يجيء هكذا: {ولا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب}.
فالذين يفرحون هو المفعول الأول، وبمفازة من العذاب هو المفعول الثاني.
ولكن النظم القرآنى وحده هو الذي يحقّق المعنى الذي أشرنا إليه من قبل، وهو توكيد الحكم الواقع على اليهود وتقريره وإلصاقه بهم.
{فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ} الأمر الذي لا تجده متمكنا على تلك الصورة في النظم الذي تمثلناه وطرحناه بين يدى النظم القرآنى.
وفى قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} توكيد للحكم الذي أشار إليه قوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ}.
إذ أن الفعل حسب فيه معنى الظنّ، الذي يقع من جهة من ينظر إلى اليهود، فيرى أنهم أصحاب دين وأهل كتاب، وأنهم في الوقت نفسه منحرفون في دينهم وكتابهم، وهم من أجل هذا أقرب إلى العطب منهم إلى السلامة، وأدنى إلى النار منهم إلى الجنة.
هذا هو الحكم الذي يقع في ظن من يراهم ويطلع على أحوالهم، وهو ظنّ أقرب إلى اليقين.. ولكنّه مع هذا حكم غير قاطع، إذ لا يملك هذا الحكم القاطع في مصائر الناس إلا مالك الملك، وصاحب الأمر.. اللّه ربّ العالمين.. وقد جاء حكم اللّه فيهم، لتصدق ظنون الناس بهم.. {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} وليس العذاب وحده هو المصير الذي يصيرون إليه، ولكنه العذاب الأليم.

.تفسير الآيات (189- 195):

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)}.
التفسير:
فى الآيات السابقة التي بدأت بالحديث عن أحد، والأحداث التي جرت فيها، وما تكشّف في تلك الأحداث من وجوه المنافقين، وصبر المؤمنين، وكيد الكافرين- في هذه الآيات طال وقوف المسلمين في دخان هذه المعركة.. وفى التطلع إلى جوه شهدائهم الذين مثّلت بهم قريش بعد قتلهم، تشفّيا وانتقاما لقتلاهم في بدر، كما طال الوقوف أيضا في مواجهة الكافرين والمشركين والمنافقين، الذين عرضهم القرآن الكريم وفضحهم.
وفى هذا الجوّ كانت تهبّ من اللّه نفحة رحمة وعزاء للمسلمين، فتلقاهم بين الفينة والفينة، وهم في هذه المسيرة الطويلة مع أحد وأحداثها- فتهدأ أنفسهم وتطيب خواطرهم، وتتجه قلوبهم، وتشخص أبصارهم إلى اللّه، بالحمد والشكران، لما منّ اللّه عليهم به من الإيمان، وهداهم إليه، ولكن سرعان ما تنقلهم الآيات القرآنية إلى المعركة وجوّها، فتهتز مشاعرهم تلك المتجهة إلى اللّه، ثم يعودون إليها بعد أن تلقاهم آية رحمة وعزاء.. وهكذا تظل أنظار المسلمين تتقلب بين الأرض والسماء.. بين معركة أحد وأرضها، وبين رحمة اللّه ورضوانه.
فكان من تمام رحمة اللّه بالمسلمين، ورضوانه عليهم، أن ختم هذا الموقف، وأنهى تلك الأحداث، بهذه الآيات التي تتيح للمسلمين لقاء خالصا مع اللّه، في آفاق سماوية عالية، بعيدة عن تراب هذه الأرض ودخانها.
ولقاء هنا مع اللّه، والنفوس مهتاجة، والقلوب مضطربة، من شأنه أن يحدث أثرا مضاعفا في الاتصال باللّه، وملء القلب، والنفس، ولاء وخشية لجلاله وعظمته.. وبهذا يزداد المؤمنون إيمانا باللّه، ويقينا بحكمته، ورضى بحكمه، وولاء لأمره ونهيه.
وفى هذه الآيات الكريمة يتحقق هذا اللقاء، الذي يخلص منه إلى نفوس المسلمين وقلوبهم ما أراد اللّه بهم من خير، أشرنا إلى بعضه، الذي هو قليل من كثير!!.
ففى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} مواجهة مشرقة بين المسلمين، وبين ملكوت السموات والأرض.. هذا الملكوت الذي هو بعض ما خلق اللّه، وإشارة إلى بعض مما أبدع وصور!.
وفى هذه المواجهة المطلقة، تنطلق مشاعر المؤمنين، وتتفتح قلوبهم وعقولهم، لترتوى من موارد هذا الملكوت الرحيب، وتنغب من رحيقه العذب الكريم!.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ} نداء رفيق، ينبعث من الأفق الأعلى، ليقود المؤمنين الذين شخصت قلوبهم وعقولهم إلى ما للّه في السموات والأرض، لترتاد مواقع الحق والخير، فتجد في هذا النداء الرفيق هاديا يهديها، ورفيقا يؤنسها، ويكشف لها معالم الطريق.. ففى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، آيات مبصرة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.. وإنه لكى يكون للعقل أثره وثمرته في هذا المجال، ينبغى أن ينصرف بكل وجوده إلى هذا الملكوت، وأن يعيش فيه وله. فذلك هو الذي يفتح له مغالق الخير فيه، ويطلعه على مطالع الحق منه.. وهذا ما يتفق لأولئك {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} حيث يكون ذكر اللّه، واستحضار عظمته وجلاله. هو دأبهم، وحيث يكون النظر في ملكوت السموات والأرض، ومطالعة آيات الخالق، واستجلاء روائع حكمته، هو شغلهم.. في قيامهم وقعودهم، وفى حركتهم وسكونهم، وفى كل لمحة أو نظرة، وفى كل غدوة أو روحة.. حيث هم أبدا في ملك اللّه، وحيثما كانوا أو اتجهوا فهم بين يدى ملكوت اللّه.. وعندئذ يطلع عليهم من آفاق الوجود هذا اللحن الموسيقى الشجىّ الذي يردّده كل موجود. {رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا} فيتناغمون معه، بنبضات قلوبهم، وزغردة أرواحهم {رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا} {سبحانك} ما أعظم عظمتك، وما أقدر قدرتك، وما أحكم حكمتك، وما أسعد من ينعم بنعيمك، وما أهنأ من يحظى برضاك {فَقِنا عَذابَ النَّارِ} حتى لا تنزعج قلوبنا عن موارد ملكوتك ولا تطيش ألبابنا من النظر في آيات قدرتك، وروائع حكمتك!
وإنه حين يشهد المؤمنون ما يشهدون من جلال ملك اللّه، وكمال قدرته، وسعة علمه، وروعة حكمته، يتمنّون على اللّه أن يقيمهم على هذا المورد، لا يتحولون عنه أبدا، فهذا هو النعيم الخالد، الذي ينعم به المؤمنون في الدنيا والآخرة.
ولجهنم أهلها، الذين يحرمون هذا النعيم، ويلقون بدله عذابا ونكالا وشقاء.. وهذا خاطر إذا خطر بقلوب المؤمنين أزعجهم وأكربهم، وزحزح عنهم هذه اللحظات المسعدة التي يعيشون فيها مع اللّه، ويهنئوون بالنظر فيها إلى ملكوته.. وهنا يتجسد لهم هذا المشهد الكئيب، الذي ينتظم أهل النّار في النار، فيناجون اللّه، ويطلبون غوثه: {رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} فإنه ليس خزى بعد هذا الخزي، ولا خذلان فوق هذا الخذلان.. حيث موارد النعيم دانية، ومنازل الرضوان مفتّحة، ثم هم يذادون عن هذا النعيم، وذلك الرضوان، ثم يساقون إلى جهنّم وعذاب السعير.
وفى قلوب واجفة، وأنفاس مبهورة مختنقة، يفرّ المؤمنون من هذه المواجهة لجهنم وأهلها، إلى حيث يلقون اللّه برحمته ورضوانه: {رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ}.
فهذا كل ما بين أيديهم أن يقدموه بين يدى رحمة اللّه ومغفرته، لينالوا الخلاص من هذا الهول الذي يطبق على المنافقين والكافرين، وليكونوا في أصحاب الجنّة التي وعد المتقون.. إنهم حين سمعوا منادى اللّه ينادى بالإيمان ويدعوهم إليه، استجابوا للّه، وآمنوا به، وبرسوله.. وهم بهذا الإيمان يطمعون في رحمته، ويرجون أن تغفر ذنوبهم، وأن تكفّر عنهم سيئاتهم، وأن يموتوا حين يموتون على البر والتقوى، وأن يحشروا مع الأبرار والأتقياء.. فهم على وعد من اللّه، وعدوا به على لسان رسله: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [97: النحل].. وهم يحيون أنفسهم وينعشونها بالحديث عن هذا الموعد الكريم: {رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ}.
ومعاذ اللّه.. إن اللّه لا يخلف وعده.
{فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ} وفى قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} إشارة صريحة إلى أن المرأة والرجل على سواء عند اللّه، في الجزاء، ثوابا أو عقابا، وأنها ليست في منزلة دون منزلة الرجل، بل هما على درجة واحدة من الأهلية واحتمال التّبعة، وحمل الأمانة.. وكيف لا يكون هذا وهما- المرأة والرجل- من خلق واحد.
فالمرأة تلد الذكر والأنثى.. والرجل يولد له الذكر والأنثى.. والذكر ولد الأنثى، والأنثى بنت الرجل.. فكيف يكون لأحدهما فضل على الآخر قائما على أصل الخلقة؟ فإن كان ثمة فضل فهو فيما يتفاضل فيه الناس، بالعمل في مجال الخير والإحسان.
وفى قوله تعالى: {ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزونه، هو فضل عليهم من اللّه سبحانه وتعالى، إذ هداهم إلى الإيمان، ووفقهم للعمل الصالح، الذي أنزلهم منازل الرضا والقبول عند اللّه.

.تفسير الآيات (196- 197):

{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)}.
التفسير:
فى هذه المناجاة التي كانت تسبح فيها أرواح المؤمنين في رحاب اللّه، وترفّ بها على مشارف الملأ الأعلى، يؤذّن فيهم بالعودة إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، العالم الأرضى، إذ كان لابد من العودة بعد هذه الرحلة المسعدة في عالم الروح، والحق، والنور، لأن الحياة تدعوهم إليها، ليكونوا مع النّاس، وليعيشوا في الناس! ومع ما معهم من زاد طيب تزوّدوا به في تلك الرحلة المسعدة، فإن ما على الأرض من مفاسد وشرور، وما في النّاس من مفسدين وأشرار، جدير به أن يغتال هذا الزاد الطيب، وأن يحرم أصحابه منه إذا لم يحذروا.
ولهذا فقد تلقّاهم اللّه سبحانه وتعالى بتلك اللفتة الكريمة- تلقاهم وهم يهبطون إلى هذا العالم الأرضى، ليأخذوا حذرهم من العدوّ الراصد لهم بما في يديه من مفاتن ومفاسد، وليظلوا هكذا محتفظين بما وقع لأيديهم من خير، في تطوافهم بالعالم العلوي، وسبحهم فيه.
وكان قوله تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ} هو اليد القويّة الرّحيمة، التي تمسك على المؤمنين إيمانهم، وتثبت على طريق الحق والخير خطوهم، فلا يغريهم ما يغدو فيه الكافرون وما يروحون، من متاع الحياة وزخرفها، وما يحصّلون فيها من مال، وما يقع لأيديهم من جاه وسلطان، فذلك كله {مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ}.
وفى خطاب النبيّ الكريم بهذا النهى ومواجهته بالتحذير مما فيه.
ما يلقى إلى المؤمنين أن يكونوا على حذر دائم، وإشفاق متصل.. إذ كان النبيّ الكريم، وهو ما هو في صلته بربه وخشيته منه، وفى رعاية اللّه له، وعصمته من الزلل- يواجه بهذا التحذير، ويلفت إلى مراقبة نفسه، وحراستها، فإن غير النبيّ من المؤمنين أولى بأن يحذر ويخشى العدوّ المتربص به، إن أراد النجاة والسلامة.