فصل: تفسير الآيات (40- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (40- 43):

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}.
التفسير:
بعد أن دعا اللّه عباده جميعا إلى الإيمان به، وأنكر على الكافرين كفرهم مع قيام الآيات الشاهدة على قدرة اللّه، وعلى سوابغ نعمه على الناس، وعلى خلقهم من تراب، وإخراجهم على تلك الصورة الكريمة من بين المخلوقات- بعد هذا خصّ بنى إسرائيل بالذكر مرة أخرى، لأنهم أهل كتاب، ولأنهم شهود بأن ما نزل على محمد هو من عند اللّه، وأن محمدا هو النبيّ العربي المنتظر، كما يعرفون ذلك من التوراة، عن يقين.
ولكن اليهود مكروا بآيات اللّه، وكتموا الحق الذي يعلمونه، كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [146: البقرة].
والنعمة التي أنعم اللّه بها على بنى إسرائيل، هي بعث الرسل إليهم، يحملون الهدى والنور، ولكن القوم في عمى وضلال، وفى شغل بالدنيا لإشباع أطماع قاتلة مسلطة عليهم، فكتموا ما أنزل اللّه، لقاء عرض زائل منّتهم به أنفسهم، من وراء تلك الشهادات المزوّرة التي يدفعون بها إلى كفار قريش، فيما يسألونهم عنه من أمر محمد باعتبار أنهم أهل كتاب، وأهل علم، كما قال اللّه تعالى عنهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [51- 52 النساء].
والعهد الذي دعا اللّه بنى إسرائيل إلى الوفاء به، هو ما أخذه اللّه على أهل الكتاب، وأهل العلم منهم خاصة- وهو أن يؤدوا هذه الأمانة- أمانة العلم- التي حملوها إلى الناس، وألا يكتموا منها شيئا، أو يحرفوها على غير الوجه الذي جاءت عليه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ} [187: آل عمران] وكما يشير إليه أيضا قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [81: آل عمران] والمراد بالنبيين هنا النبيون وأتباعهم، فقد أخذ اللّه هذا الميثاق على النبيين ثم أخذه النبيّون على أتباعهم، وبذلك يتناصر المؤمنون، ويجتمعون على كلمة الحق، وتحت راية الحق، وإن تباعدت أوطانهم، واختلفت أجناسهم.

.تفسير الآية رقم (44):

{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)}.
التفسير:
والخطاب هنا خاص لبنى إسرائيل، ولا تمنع خصوصيته من عموميته، وبهذا يكون الخطاب لكل من يحسن القول، ولا يحسن العمل، ويندب الناس إلى الخير، ويأمرهم به، ولا ينظر إلى نفسه، ولا يحملها على أخذ حظها من هذا الخير الذي يدعو إليه.. وفى ذلك ظلم للنفس، وخسران مبين.
وقد ذمّ اللّه سبحانه من يسلك هذا المسلك المتناقض، من الناس، فقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ} والقول المراد هنا هو ما كان على طريق الحق والخير، أما ما كان على غير هذا الطريق فالنكول عنه هو الخير والبر.

.تفسير الآيات (45- 46):

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)}.
التفسير:
وهذه دعوة إلى المؤمنين، الذين استجابوا اللّه والرسول، من أهل الكتاب وغيرهم- أن يستعينوا على التزام الصراط المستقيم بالصبر والصلاة، إذ أن هذين الأمرين- الصبر والصلاة- يمدّان المؤمن بالقوة التي تعينه على احتمال تكاليف العبادة، ومشقة الجهاد ومدافعة شهوات النفس وأهوائها.
وقدّم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوبها الذي يعين عليها، وعلى أدائها في أوقاتها.. وفى هذا يقول اللّه تعالى مخاطبا النبي الكريم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} [32: طه] وخصّت الصلاة وحدها هنا بالذكر، من بين العبادات، لأنها رأس العبادات جميعها، وملاك الطاعات كلها، فمن أداها كاملة، في جلالها وخشوعها، سلكت به مسالك الخير والهدى، وحادت به عن طرق الضلال والآثام، إذ يقول الحق سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} [44: العنكبوت] وقوله تعالى: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ} الضمير هنا يعود على الصلاة، وإنها لكبيرة- أي ثقيلة- إلا على ذوى القلوب المتفتحة للخير، المتقبلة له، أما ذوو القلوب القاسية المتحجرة، التي لا تنضح بخير، فأمرها ثقيل عليهم، لا يأتونها- إن أتوها- إلا في تكاسل، وفتور، أو في تكرّه وتبرّم! والذي يفيض على القلب الخشية والخشوع، هو الإيمان باللّه، وبلقاء اللّه يوم الجزاء في الآخرة، فذلك هو الذي يثبّت خطو المؤمن على طريق الإيمان، ويعينه على أداء الطاعات والعبادات! وفى قوله تعالى: {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} في هذا التعبير بالظن هنا، إشارة دقيقة إلى أن الإيمان بالبعث وبلقاء اللّه إنما هو إيمان بالغيب، لا يستند إلى مدرك حسّىّ، ومن ثمّ كان الإيمان به واقعا في دائرة الظن المستيقن، أو اليقين المحفوف بالظن- ذلك هو أول درجات الإيمان- فإذا ما درج المؤمن في طريق الإيمان، مستعينا بالصبر والصلاة اطمأن قلبه، وجلت عنه وساوس الظنون، كما يقول سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [28: الرعد].
والعطف بالواو بين الإيمان باللّه واطمئنان القلوب، يبدو هنا وكأنه عطف بثمّ، كما يبدو ذلك من نظم الآية، ومن النّبرة الموسيقية لواو العطف بعد الواو في الفعل {آمنوا}.
حيث يقوم فاصل زمنى بين النطق بواو العطف، والتاء في الفعل {تطمئن}.
هكذا: {آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}.

.تفسير الآيات (47- 48):

{يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}.
التفسير:
هذه النداءات المكررة من ربّ العزة إلى هذا القطيع الشارد، من بنى إسرائيل- إنما تشير إلى ما في نفوس هؤلاء القوم من كنود، وما في طباعهم من جفاء وجماح، وما ضمّ عليه كيانهم من جحود للإحسان، وكفران بالنعم وليست هذه النداءات المتكررة إلا لإقامة الحجة عليهم، ومظاهرة النذر لهم، حتى إذا أخذوا بعنادهم وجماحهم كان أخذهم شديدا أليما.. ومن أجل هذا أخذهم اللّه بالبأساء والضراء، وأوقع عليهم اللعنة، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، فقال تعالى في بنى إسرائيل: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} [13: المائدة] ويقول سبحانه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ} [112: آل عمران].
وأما قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ} فالمراد بالعالمين هم أهل زمانهم المعروفون لهم من الأمم المجاورة، إذ كانوا هم أهل كتاب، وفيهم الرسل والأنبياء، على حين كان جيرانهم وثنيين، على كفر وشرك وضلال.
وممّا يشهد لهذا أن موسى عليه السلام وهو رأس بنى إسرائيل في الكرامة والفضل عند اللّه- كان بمنزلة تلميذ، يتلقى العلم والمعرفة على يد عبد من عباد اللّه، كما في قوله تعالى: {فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [65- 66: الكهف] ويشهد لهذا أيضا شهادة قاطعة، قوله تعالى عن أمة الإسلام: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [110: آل عمران].. فهذا حكم قاطع بالخيرية المطلقة لهذه الأمة- في مقام الهداية، وصدق الإيمان باللّه- على سائر الأديان، وجميع الملل!

.تفسير الآيات (49- 61):

{وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61)}.
التفسير:
فى هذه الآيات الكريمات تفصيل لتلك النعم، التي أنعم اللّه بها على بنى إسرائيل، والتي جاء إجمالها في قوله تعالى: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ}.
ومع تتابع هذه النعم السابغة، وتوالى هذه الآلاء الكريمة، فإن القوم لم يلقوا هذا الإحسان إلا بالكفران، واللجاج في العناد، والمحادّة للّه ورسوله.
ينجيهم اللّه من فرعون، وما رهقهم به من محن، وما رماهم به من بلاء، حيث كان يذبّح أبناءهم، ويستحيى نساءهم بما يدخل عليهم من جنده من استخفاف بحرماتهن، وهتك لأستارهن، مما يجرح حياء المرأة، ويغرق وجه الحرة بماء الخجل! ويكرم اللّه نبيهم موسى، فينزله في رحاب ضيافته أربعين ليلة، يناجيه فيها، ويوحى إليه بآياته وكلماته... {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} والكتاب هو التوراة، والفرقان من عطف الصفات، فهو كتاب وهو فرقان، يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وما للّه وما لخلق اللّه! ولكن تأبى طباعهم النكدة أن تعلو إلى مشارف هذا النور، بل هي رابضة على التراب، ترعى مع البهائم، وتهيم في أودية الضلال.. فيتخذون من العجل إلها معبودا من دون اللّه! ويتلقّى هؤلاء المناكيد العقاب الطبيعي من اللّه، فيأمرهم أن يقتلوا أنفسهم، فتلك نفوس لا حرمة لها، بعد أن نزلت إلى هذا المستوي الحيواني، بل ونزلت عن هذا المستوي، فوضعت جباهها تحت أقدام الحيوان، تعفّر جبينها بالتراب عابدة ساجدة له.
ويتسلط القوم بعضهم على بعض، ويضرب بعضهم رءوس بعض، كما تتناطح الوعول، أو كما تتناهش العقارب والحيات!
ولا تنفع في القوم هذه المثلات، ولا تقوم لهم منها شواهد العبر والعظات، وإذا الذين رحمهم اللّه منهم من هذه المحنة ونجاه من القتل لا يزالون في ريبة من ربّهم، وفى شك من معبودهم، فيجيئون إلى موسى بهذا الطلب العجيب: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} وهم بهذا يكشفون عن بلادة حسّهم، وطفولة مداركهم، بحيث لا يتعاملون مع الحياة إلا بما يلامس حواسّهم، ويجبه أبصارهم، أمّا ما يستشفه الوجدان، ويتمثله الحدس والخيال فليس لهم حظ منه، ولا تجاوب معه.. إنهم لم يستطيعوا أن يروا اللّه في آياته التي تبدو في ظاهر الموجودات وباطنها، أو أن يشهدوه فيما يجريه اللّه تعالى على يد موسى عليه السلام، من معجزات ناطقة بقدرة اللّه، وبسلطانه المتمكن في كل ذرة من ذرات الوجود، حتى لقد آمن سحرة فرعون بين يدى موسى من غير دعوة إلى الإيمان، وهم منه في وجه خصومة بادية وعداوة متحدية، بل لقد اضطر فرعون إزاء سطوة المعجزة أن يقول: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل}.
ولكن القوم رجال في مساليخ أطفال، لا يكادون يخطون على طريق الهدى خطوة أو بضع خطوات حتى يتعثروا ويسقطوا في التراب والوحل! وكان من إعناتهم لنبيهم موسى، وإلحاحهم عليه، في ثرثرة كثرثرة الصبيان، ولهفة كلهفة الأطفال- أن طلب موسى من ربّه أن يراه حتى يراه معه هؤلاء الأغبياء، كما جاء في قوله تعالى على لسان موسى: {وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً} [143: الأعراف].
وكذلك صعق القوم الّذين كانوا معه، وكانت عدتهم سبعين، وقع عليهم الاختيار، ليكونوا شهودا عند القوم بأنهم رأوا اللّه جهرة! وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} [155: الأعراف] وقد كاد يكون إجماع المفسرين على أن البعث في قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هو إحياؤهم بعد أن أخذتهم الصاعقة، وأن كلمتى البعث والموت هنا مجازيتان في مقابل اليقظة والنوم، كما في قوله تعالى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} [42: الزمر] والأولى- عندى- أن يحمل المعنى على ظاهر اللفظ، فيكون الموت موتا حقيقيا، والبعث بعثا حقيقيا أيضا، أي بعث الآخرة! ويشهد لهذا الوجه، العطف بثم، في هذه الآية {ثم بعثناكم من بعد موتكم} كما يقوّيه أيضا ما جاء لسان موسى في قوله تعالى مخاطبا ربّه: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ}! فلو أنهم عادوا إلى الحياة مرة أخرى، لما كان لموسى أن يسأل ربه ما سأل.
وأحسب أن الذي حمل المفسّرين على القول بإحياء القوم بعد أن أخذتهم الرجفة، حتى أعيدوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى- هو قوله تعالى في خاتمة الآية: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كأنّ استحقاق الشكر لا يكون إلا عن البعث الدنيوي، وكأن البعث الأخروى ليس بالنعمة المستأهلة للحمد والشكر، وهذا غير صحيح، فالحياة على أية حال من الأحوال خير من العدم واللّه سبحانه وتعالى يقول: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [52: الإسراء] والمراد بالدعوة هنا الدعوة إلى الحشر، التي يستجيب لها الأموات جميعا بالحمد للّه رب العالمين.
ثم إن مجيء الآيات بعد هذا خطابا عاما لبنى إسرائيل، معدّدة النعم التي أنعم اللّه بها عليهم، مذكرة بالبعث بين عرض هذا النعم- فيه إيقاظ للشعور بيوم الجزاء، والعمل له، وتغليظ للمنكرات التي يقترفها القوم، في مواجهة هذه النعم الجليلة المتتابعة عليهم.
وفى قوله تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
عرض لبعض هذه النعم.. ففى التّيه الذي رماهم اللّه به في الصحراء، وكتبه عليهم أربعين سنة، لم تتخلّ عنهم رحمة اللّه، فساق إليهم الغمام ليظلّهم من وقدة الشمس، ولفح الهجير، وأرسل عليهم المنّ والسلوى، طعاما لا يتكلفون له عملا، فالمنّ مادة عسلية تفرزها بعض الأشجار، والسلوى طيور طيبة الطعام هي السّمانى.
ولكن هذه الألطاف الرحمانية، وهذا الطعام الطيب المسوق بقدرة اللّه، المحفوف برحمته لم تستسغه هذه النفوس الحيوانية، فعافته وتنكرت له، وطلبت ما يملأ معدة الحيوان.. من بقل وقثاء، وحنطة وعدس وبصل!، فكان أن أجابهم اللّه إلى ما طلبوا، وساقهم سوق الحيوان إلى المرعى الذي يجدون فيه الطعام الذي اشتهوا!!
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}.
والقرية التي دعوا إلى دخولها، ليأكلوا منها حيث شاءت لهم أنفسهم، هي قرية لم يذكر القرآن اسمها، وإنما أشار إليها بقوله: {هذِهِ الْقَرْيَةَ} فهى معروفة للقوم، ولعلها بيت المقدس، كما يرى ذلك أكثر المفسرين، ولعل مما يقوّى هذا الرأى أنهم أمروا بدخولها على صفة خاصة، وبمراسيم محددة تؤدّى لها.. {ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ}.
هكذا ينبغى أن يكون دخولهم هذه القرية.. أن يدخلوا الباب ساجدين، وأن يقولوا عند دخولهم: حطة لذنوبنا، أي مغفرة لها.
ومما يقوى الرأى بأن القرية المشار إليها هنا هي بيت المقدس، أن بابها المأمور بدخوله في هذه الآية قد ورد في قوله تعالى: {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ} [23: المائدة].
وفى قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ}.
ما يكشف عما في طبيعة القوم من عناد، وإنه عناد الأطفال.. يأبون إلا ركوب رءوسهم، والاتجاه إلى غير ما يوجّهون إليه، ولو كان في ذلك تلفهم وهلاكهم.
فهذه كلمات علوية سماوية من ربّ العزة، جاءتهم على لسان نبى كريم: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}.
ومع هذا فقد سوّلت لهم أنفسهم الخبيثة أن يغيّروا ويبدلوا من صور هذه الكلمات، لا لشيء إلا لإرضاء نزعة العناد الصبيانى فيهم، وإشباع غريزة التخريب الطّفلى عندهم.. {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} إنهم لم يستطيعوا أن يحملوا أمانة الكلمة، فكيف بأمانة العمل؟ ولهذا كانت الصفة الغالبة عليهم: نقض المواثيق، والتحلل من العهود والعقود.
وكان ذلك هو الوصف الملازم لهم في القرآن الكريم: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} [12 المائدة] {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ}: (27: البقرة).
وقوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
تلك آية من آيات اللّه البينة، ونعمة من نعمه الجليلة، على هؤلاء القوم الشاردين عن موارد الحق والهدى.. تتحرق أكبادهم عطشا في هجير الصحراء، فتطلع عليهم رحمة اللّه، فيما يتلقى موسى من أمر ربه: {اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ} فيتدفق الماء عذبا زلالا، من اثنتي عشرة عينا، بعدد قبائلهم.
وانظر كيف أبت عليهم نفوسهم المتبلدة الضيقة أن تتآلف جماعاتهم في وجه تلك المحن التي يلاقونها في هذا التّيه، فتعيش كل جماعة منهم في محيطها.. اثنتي عشرة جماعة!!
هكذا قطّعوا أمما وهم في هذا التيه، وهكذا هم يقطّعون أمما في الأرض، ويتيهون في الأمم والشعوب إلى يوم الدين.
وفى قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً} إشارة إلى تدفق الماء بقوة وغزارة أكثر مما في قوله تعالى في سورة الأعراف {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً}.
فالانبجاس دون الانفجار، قوة وأثرا.
وهذا الاختلاف في التعبير إنما هو لاختلاف الحال، فحين ضرب موسى الحجر كان الانبجاس أولا، ثم تلاه الانفجار.. فكل من الانبجاس والانفجار وصف لحال من أحوال ضربة العصا، وأثر من آثارها.. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز، في التكرار الوارد على الأحداث، في القصص القرآنى، كما سنعرض له، بعد، إن شاء اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}.
حكم قاطع على هذه الجماعة الشاردة المعربدة، بأن تشتمل عليها الذلة والمسكنة باطنا وظاهرا، أي في كيانها الذاتي، وفى واقع الحياة المسلطة عليها، فقد كان العقاب الطبيعي لهذا الغرور المستولى عليهم أن يقتل اللّه فيهم معانى الإنسانية الكريمة، وأن يميت في نفوسهم كل معالم القوة والرجولة، ثم يسلّط عليهم- مع هذا- من خارج أنفسهم قوى تسيمهم الخسف والهوان، كما يقول تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ} [167: الأعراف].. وهذا هو معنى ضرب الذلة والمسكنة عليهم، فالضرب بالشيء على الشيء، هو إحاطته به واشتماله عليه، كما تضرب الخيمة على من تحتها! وفى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ}.
بيان لجرائمهم التي استحقوا عليها هذا العقاب الأليم.. فقد كفروا بآيات اللّه، وجحدوا النعم التي غمرهم اللّه بها، وغيّروا وبدّلوا في كلمات اللّه، حسب ما أملت عليهم أهواؤهم، وسوّلت لهم أنفسهم، ثم تمادوا في كفرهم وضلالهم فمدوا أيديهم بالأذى إلى رسل اللّه، الذين حملوا إليهم ما حملوا من نعم اللّه، وبلغ بهم الأمر في هذا إلى أن استباحوا دم بعض هؤلاء الأنبياء!.
وفى قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ما يكشف عن طبعهم اللئيم، الذي يرى الحق رأى العين، فيكتمه وينكره، ويقيم الباطل مقامه.
فهم إذ يقتلون من قتلوا من الأنبياء، يعلمون عن يقين أنّ هؤلاء الذين مدّوا إليهم أيديهم بالقتل، هم أنبياء اللّه، ولكن جاءوهم بما لا تشتهى أنفسهم، وعلى غير ما كانت تراودهم به أحلامهم.. فالمسيح- مثلا- الذي وقفوا منه هذا الموقف اللئيم، والذي دبروا له القتل صلبا، إنّما أنكروه وأنكروا آياته المشرقة إشراق الشمس في يوم صحو، لأنه جاءهم بغير ما كانوا يحلمون به، من مسيح بعيد إليهم ملك سليمان، ودولته، ويمكّن لهم في الأرض على رقاب النّاس، إذ جاءهم بالدعوة إلى التخلص من هذا الداء المتمكن فيهم، وهو حبّ الحياة، والاستكثار من متاعها.. فرفضوه، ثم أنكروه، ثم مكروا به ليصلبوه، ولم تسترح أنفسهم إلا بعد أن أيقنوا أنهم صلبوه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [87: البقرة].
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} أي إلا بما يوجب قتلها، كأن تقتل نفسا عمدا، أو تحادّ اللّه ورسوله والمؤمنين.. ورسل اللّه لا يكون ذلك منهم أبدا، وأنهم إذا أنكر عليهم أحد أنّهم أنبياء، فذلك أمره إليه، ووزره واقع عليه، ولكن إذا ذهب به هذا الإنكار إلى حدّ الاعتداء على النبيّ وقتله، فإنه حينئذ يكون معتديا، إذ قتل نفسا بغير الحق، لأنها لم ترتكب ما يوجب القتل!.