فصل: تفسير الآيات (29- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (29- 30):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)}.
التفسير:
هذه دعوة من اللّه إلى عباده، ومطلوب من مطلوباته إليهم، بل قل إرادة يريدها اللّه منهم.. وتلك الإرادة، هي ألا يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل!.
وإذ كان المال هو مبتغى الناس، ورغيبتهم، فيه يتنافسون، وله يعملون ويكدحون، ومن أجله، وفى سبيله تتصادم رغباتهم، ويقع الشرّ والعدوان بينهم، فيبغى بعضهم على بعض، ويغمط بعضهم حقّ بعض، في صور وأشكال مختلفة.. من السرقة والاغتصاب، والاحتيال، والغش والخداع، والاحتكار، إلى غير ذلك مما هو واقع في معترك الحياة بين الناس- إذ كان ذلك كذلك فقد كثرت وصايا الإسلام إلى الناس في المال وفى رسم الحدود التي تمسك به في دائرة النفع العام والخاص، ليؤدى وظيفته كنعمة من أجلّ النعم التي أنعم اللّه بها على عباده.
ولم تقف نظرة الإسلام إلى المال عند أفق واحد.. بل امتدت نظرته إليه فشملت جميع الآفاق التي يكون للمال مكان فيها.. في كسب المال وفى إنفاقه.. في يد من يملك ومن لا يملك.. في الميراث والورثة.. في ملك اليتامى والسفهاء، وفى يد الأولياء والأوصياء عليهم.. إلى غير ذلك من الوجوه التي يرى فيها المال واقعا في يد فرد أو جماعة.
وفى قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} إشارة إلى أن المال مائدة ممدودة من اللّه سبحانه لعباده، يأكلون منها، وأن لكل إنسان حظّه من هذا المال، وأن من وقع إلى يده قدر منه على حين خلت أيدى الجماعة التي حوله، أو قصرت عن أن تنال شيئا منه، كان واجبا عليه أن يعطى مما في يده لمن حوله، إذ من غير المستساغ أن يأكل والناس المشتركون معه على المائدة، لا يأكلون.
وفى كلمة {أموالكم} المضافة إلى المؤمنين جميعا، وكلمة {بينكم} الظرف المكانىّ الجامع لهم جميعا في هذا ما يشير إلى وحدة الملكية للمال، ووحدة الاجتماع في المكان.. وفى هذا وذاك ما يجعل الوحدة الشعورية بالتكافل بين هذه الجماعة، أمرا واجبا، إن لم تقض به شريعة السماء، ولم يدع إليه دين اللّه، قضت به المروءة، ودعت إليه!.
وهذا هو البرّ الذي دعا إليه القرآن.. فقال تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [92: آل عمران].. وقال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ} [177: البقرة] ومن تدبير القرآن الكريم في هذا، أنه لم يجعل هذه المائدة المشاعة بين الناس قائمة على قانون مادىّ قهرى، إذ لا سبيل إلى قانون يحمى بنصوصه ومواده، العدوان والبغي، وتسلط الأقوياء على الضعفاء، وإلا كان عليه أن يقيم وازعا من سلطانه على رأس كل إنسان.. يمسك بيده، ويدفع بغيه وعدوانه، وذلك أمر محال، وإنما جعل الإسلام ذلك إلى مشاعر الجماعة ووجدانها، بما أيقظ فيها من نوازع الخير، ودوافع الإحسان، وبما غذّاها به من فضله وإحسانه، وبما وعدها من حسن المثوبة، وعظيم الجزاء، في الدنيا، وفى الآخرة جميعا.. {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [39: الروم].
فتلك المشاعر الحيّة، وهذه الوجدانات المتفتحة لرحمة اللّه، الراغبة في حسن الجزاء عنده، هي الحارس الذي لا يغفل، وهى الوازع الذي يقوم حجازا بين ظلم الناس للناس، وبغى الناس على الناس.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} هو استثناء متصل، وليس استثناء منفصلا كما ذهب إلى ذلك الزمخشري، وأكثر المفسّرين.
فالتجارة: هي من تلك المائدة الممدودة بين الناس {أموالكم}، بل هي الوجه الواضح من هذه المائدة، إذ كانت أكثر الأموال دائرة في فلك التجارة، متداولة بين أيدى الناس عن طريقها.
وفى عمليات التجارة، ربح وخسارة.
وفى جانب الربح قد يحصل كثير من الناس على أموال طائلة..!
وهذه الأموال التي ربحها الرابحون هي خسارة قد خسرها آخرون! والصورة في جانب الرّبح تبدو وكأنها أكل لأموال الناس بالباطل، ذلك الأكل الذي ورد صدر الآية الكريمة بالنهى عنه! فهل هذا المال- مال الربح في التجارة أيا كان من الكثرة- هل هو داخل في هذا المال المنهي عن أكله بالباطل؟ وهل يتناوله الحكم الواقع عليه؟
هذا ما استثناه اللّه تعالى في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}.
فهذا المال ليس من الباطل في شيء.. هو مال حلال، إذ جاء عن عمليات بيع وشراء، لا قهر فيها، ولا تدليس أو غشّ، بين البائعين والمشترين.
وفى قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً} دعوة إلى صيانة الأنفس وحفظها، بعد الدعوة إلى صيانة الأموال وحفظها.
وقدمت الدعوة إلى صيانة المال على الدعوة إلى صيانة الأنفس، لأن المال هو قوام الحياة للأنفس، ولا حياة لها بغيره، فكانت صيانته مقدمة على صيانتها! ويقع قتل النفس على صور كثيرة.
فقد يقتل الإنسان نفسه بنفسه.
وذلك بأن يعرضها للتهلكة عن عمد في غير إحقاق حق أو إبطال باطل.
أو بأن يصرفها عن الإيمان إلى الكفر. ويحارب اللّه ورسوله والمؤمنين.
أو بأن يعتدى على حرمات الغير، ويستبيح أموالهم ويأكلها بالباطل، أو يستبيح دماءهم، ويزهق أرواحهم بغير حق.
فكل هذه من بعض الوجوه التي يقتل بها الإنسان نفسه.
وقد توعّد اللّه سبحانه من يرتكب هذا الفعل المنكر بالعذاب الأليم في قوله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} فما جزاء هذا العدوان وذلك الظلم إلا هذا العقاب الأليم، فإن من لا يرحم نفسه، ولا يرحم الناس، لا تناله رحمة اللّه، الذي أطمعنا في رحمته، وبسط لنا يده بها.. {إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً}.

.تفسير الآية رقم (31):

{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)}.
التفسير:
هذا تعقيب على مطلوبات اللّه من عباده، وما دعاهم إليه أو نهاهم عنه في الآيات السابقة، في شأن اليتامى، والنساء، وفى حفظ الأموال والدماء.
وفى هذا التعقيب رحمة واسعة من رحمات اللّه بالناس، وفضل كبير من أفضاله على عباده.. ففى النّاس ضعف يعلمه اللّه الذي خلقهم، وقليل منهم أولئك الذين يستقيم خطوهم على طريق اللّه استقامة كاملة، لا يضطرب فيها خطوه، أو تزل فيها قدمه! ولو يأخذ اللّه النّاس على كلّ انحرافة ينحرفونها، أو زلة يزلّونها لما نجا منهم أحد، ولا دخل عند اللّه مداخل الإحسان والرضوان.. إنسان.
وقد جاء هذا التعقيب الكريم، من ربّ كريم، ليفتح لعباده أبواب إحسانه ورضوانه، فيدخلوا في سعة من رحمته ورضوانه، إذا هم اجتنبوا الكبائر، وعصموا أنفسهم منها، وخافوا اللّه فيها.
والكبائر أولها الكفر باللّه، والشرك به.
ثم يتبع ذلك أعمال الجوارح، كالقتل، والزنا، وشرب الخمر.
فإذا تجنب العبد هذه الكبائر، ثم كانت منه زلة أو سقطة فيما وراءها، كانت رحمة اللّه قريبة منه، تمحو ما ارتكب من صغائر، بما اجتنب من كبائر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً}.
وهذا ما أشار إليه سبحانه في قوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [32: النجم] فما أوسع رحمة اللّه وما أعظم فضله.

.تفسير الآية رقم (32):

{وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)}.
التفسير:
فى الآية قبل السابقة، دعا اللّه سبحانه وتعالى إلى صيانة الأموال، وإلى قتل الأهواء، التي تنزع بالنّاس إلى أكل أموال بعضهم بعضا بالباطل.
وإذ كان المال- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- هو القوة المحركة، للناس، كما أنه هو القوة الدافعة إلى عدوان بعضهم على بعض، فإن الإسلام قد أولى المال عناية خاصة، وحرسه وحرس الناس، من دواعى الفساد التي تدبّ إليه وإليهم، فينقلب هو إلى نقمة بعد أن كان نعمة، ويتحول الناس إلى وحوش ضاربة، بعد أن كانوا بشرا سويا، أرادهم اللّه لعمران الحياة، وخلافته على هذه الأرض.
وفى هذه الآية وجه آخر من الوجوه التي يكشفها الإسلام للمال، ويكشف منه الداء الذي لو لم يتنبه الناس إليه، لأفسد حياتهم، واغتال أمنهم واستقرارهم.
وهذا الوجه هو تفاوت الناس فيما يقع لأيديهم من مال، هذا التفاوت الذي قد تبعد مسافاته من بين يملك القناطير منه، ومن لا يملك شيئا.. فيكون في الناس الغنىّ الواسع الغنى، الذي يكاد يموت كظّة وتخمة، والفقير الذي يوشك أن يموت جوعا ومسغبة.
ولا شك أن هذا وضع من شأنه أن يثير في النفوس- نفوس الفقراء والمحرومين- مشاعر الحسرة والألم، ونوازع الضغينة والحسد، على أولئك الذين يملكون ولا يعطون، ويموتون تخمة ويضنون بلقيمات تمسك رمق أولئك الذين يموتون جوعا- الأمر الذي إذا استشرى في الجماعة، وتسلط على تفكيرها وشعورها، أثار فيها عواصف الفرقة، التي قد تصل إلى التناحر والقتال! وقد جاء الإسلام إلى الأغنياء بوصاياه التي تجعل من أموالهم التي في أيديهم حقوقا لإخوانهم الفقراء، إن قصّروا عن الوفاء بها كانوا بمعرض من نقمته وبلائه في الدنيا، وعذابه الأليم لهم في الآخرة.. وكان من نقم اللّه عليهم في الدنيا أن يسلط عليهم الفقراء، فيفسدوا حياتهم، ولا يقيموهم فيها على جناح أمن وطمأنينة! ثم جاء الإسلام من جهة أخرى إلى الفقراء، فكانت وصاته لهم ألّا ينفسوا على الأغنياء ما في أيديهم، وألا يحسدوهم على هذا الذي نالوه من حظوظ الدنيا، وأن يروّضوا أنفسهم على الصبر على ما قسم اللّه لهم، بعد أن يعملوا في كل وجه متاح لهم من وجوه العمل، وأن يأخذا بما دعا اللّه عباده إليه من السّعي والجدّ لتحصيل الرزق: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [15 الملك].
فإذا أخذ الأغنياء بما وصّاهم اللّه به من رعاية حقوق الفقراء، وأخذ الفقراء، بما دعاهم اللّه إليه من غض أبصارهم عما في أيدى غيرهم، مما لم تنله أيديهم- إذا أخذ هؤلاء وهؤلاء بما وصاهم اللّه به، التقوا جميعا لقاء الأخوة، لقاء المودة والحبّ، وصلح أمرهم جميعا، فلا يذهب الغنىّ بغناه، ولا يستبدّ به، ولا ينطوى الفقير مع فقره، ويموت به! هذا هو الوجه الذي نفهم عليه قوله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ}.
وإن كان للآية وجوه أخرى كثيرة بعيدة عن جوّ الآية، قد فهمها عليه أكثر المفسرين.
وفى قوله تعالى: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ما يكمل الصورة التي فهمنا عليها صدر الآية.. ففى قول اللّه: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} هذا، دعوة إلى الكسب، وإلى السعى الجادّ في وجوه الرزق. دعوة للرجال وللنساء معا.
فالعمل، والعمل وحده، هو وسيلة الرزق الطبيعية، ومن لا يعمل، فقد تمنّى على اللّه الأمانى، وفرض على الناس أن يعملوا، وهو متدثر بثوب الكسل والخمول، لينال من ثمرة عملهم، ويعيش من عرق جبينهم، وهذا عدوان على المجتمع، كما هو عدوان على نفسه وظلم لها، إذ رضى أن يكون عالة على الناس، وكائنا غريبا يعيش فيهم، كما تعيش الحشرات.. وفى ذلك إهدار لآدميته، وتضييع لكرامته!! وليس أبرّ بالإنسانية، وأرعى لكرامتها، من دعوة الإسلام تلك، إلى العمل والكسب، حتى المرأة، لم يعفها الإسلام من العمل إذا لم يكن من ورائها زوج، أو ولد، أو أخ.. يقوم بمطالبها، ويسد حاجتها.
وفى قوله تعالى: {وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} تأكيد للدعوة إلى العمل، والسعى في طلب الرزق، والأخذ بأسبابه من وجوهه المشروعة، فإذا كان ذلك، كان للإنسان أن يسأل اللّه العون والتوفيق، فما الرزق الذي يرزقه العاملون إلّا من فضل اللّه.. أما أن ينصرف الإنسان عن العمل، ولا يأخذ بأسباب الرزق، ثم يدعو اللّه أن يرزقه، فقد ضلّ الطريق إلى اللّه، وقطع بينه وبين ربّه الأسباب.
ولمحة مشرقة نلمحها في قوله تعالى: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} وهذه اللمحة تكشف لنا عما في كلمة {نصيب} من معطيات، تملأ القلب جلالا وروعة.
فقد جاءت كلمة {نصيب} مخالفة لما نتوقع في هذا المقام.. حيث يأخذ الإنسان كلّ ما اكسب، لا نصيبا مما اكسب، إذ أنه كسبه كله ليده.
فكيف تجيء كلمة {نصيب} هنا؟ وما حكمة مجيئها؟
والجواب، وهو بعض ما نستلهمه منها.. هو:
أولا: أنه إذا كان العامل يأخذه ليده كل ثمرة عمله، فذلك هو حقّه.
ولكن إذا صار هذا الحق ملكا له، فإن ملكيته له غير خالصة، إذ أن في هذه الثمرة، أو في هذا المال حقوقا للغير.. لذوى القربى، واليتامى، والمساكين وابن السبيل.. ثم قبل هذا كلّه حق اللّه، وهو الزكاة! فما يكسبه المرء من عمله ليس خالصا له، وإنما له نصيب فيه، كما للّه ولعباد اللّه نصيب فيه أيضا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [24- 25: المعارج] وهذا ما ينبغى أن يقع في شعور صاحب المال، وأن يتصرف في ماله بمقتضى هذا الشعور.. وإلا كان معتديا على حقّ اللّه، وحق عباد اللّه.
وثانيا: أنه إذا أدى صاحب المال حق اللّه وحق الفقراء والمساكين في ما له، كان له الحق في أن ينفرد بنصيبه هو، وأن ينال به ما أحل اللّه من طيبات.
وهذا شعور ينبغى أن يستشعره الفقراء حيال الأغنياء، الذين يؤدون ما في أموالهم من حقوق، وعلى هذا، يجب ألا ينظر الفقراء إلى الأغنياء، وما ينالون من نعم اللّه، نظرة حسد، أو حنق.. وإلا كانوا ظالمين معتدين!! فإن من حق العامل أن يذوق ثمرة عمله، وألا يحول بينه وبينها من لا ثمرة لهم، ممن لا يعملون، واللّه سبحانه يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
وما العلم إلا ثمرة من ثمار العمل.
ذلك هو حكم اللّه في عباده، يأخذهم به في الدنيا، وينزلهم عليه في الآخرة!.

.تفسير الآية رقم (33):

{وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)}.
التفسير:
بيّن اللّه سبحانه وتعالى في الآية السابقة: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} ما للعامل من حق في أن يجنى ثمرة عمله، وأن ينعم بنصيبه منها، بعد أن يؤدى ما للّه وما للعباد عليها من حقوق، وذلك ليستحثّ الذين لا يعملون على العمل، وعلى ألّا ينظروا إلى ما في يد العاملين من ثمرات أعمالهم.
ولم يقف القرآن الكريم عند هذا، من إقرار حق العامل في ثمرة عمله، بل جعل لقرابة هذا العامل، وذوى رحمه، متعلّقا بهذه الثمرة، يرثونها بعد موته.
فهم أولى الناس به، وهو أحرص الناس على نفعهم، وسوق الخير إليهم.
ولهذا جاء قوله تعالى في هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ} مقررا هذا الحق للورثة في قريبهم الذي ترك خيرا من بعده.
والمعنى: ولكل من الرجال والنساء الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}.
لكل من هؤلاء الرجال والنساء جعلنا لهم موالى- أي ورثة- يرثونهم، فيما خلّفوا وراءهم من مال ومتاع، وهذا ما أشار إليه سبحانه في آيات المواريث أول هذه السورة: {لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً}.
والمولى يطلق على معان كثيرة، منها: القريب، والناصر، والمعين، والسيد، والعبد.. والمراد به هنا أقارب المرء وعصبته الذين يرثونه.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ} إشارة إلى من تربطهم بالمرء رابطة غير رابطة القرابة والدم، ممن يتبناهم الإنسان، أو يدخلهم في حياته مدخل الأهل والأقارب، إذ شدّ يمينه بهم، واحتسبهم بعضا منه في خيره وشرّه- هؤلاء قد يرون أن لهم حقّا فيما ترك المورّث، الذي كانوا منه، وكان منهم، وقد جاء صدر الآية الكريمة قاصرا ما ترك المورّث على قرابته، وهم مواليه:
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ} وفى هذا ما يصدم مشاعرهم، ويفجعهم في آمالهم، التي كانوا يعيشون بها مع هذا الذي عقدت أيمانهم معه.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} وما نصيبهم وقد ذهب الورثة بالميراث كلّه؟
وإنهم لابد أن يكون لهم نصيب فيما ترك صاحبهم.. وتقدير هذا النصيب متروك للورثة، يؤدونه لهم، على أي وجه، وعلى أية صورة! ليكن مالا يطيبون به خاطرهم.
أو ليكن مودّة، وحبّا، ومخالطة.
أو ليكن مناصرة، ومعاونة في الشدائد.
أو غير ذلك مما كان الميت يعاشرهم عليه ويؤثرهم به.
ولهذا جاء قوله تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} خطابا للموالى، الذي ورثوا مال مورثهم، بأن يعطوا هؤلاء الذين أضافهم مورّثهم إليه- شيئا مما كان يعود عليهم به هذا المورث، من مال، أو مودة، أو نحو هذا.
ولنا في هذا المقام أن نستحضر قوله تعالى: {وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً} [8: النساء]، ففى هذا تطييب لتلك النفوس التي حضرت القسمة.. وهؤلاء الذين خالطهم المورث واختلط بهم، هم ممن حضروا القسمة، فإن لم يحسبوا في حساب الورثة، فليكونوا في حساب ذوى القربى ممن لا ميراث لهم.
هذا ما أجمع عليه المفسّرون في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ} ولكن الفهم الذي أستريح إليه، هو أن المراد بالذين عقدت أيمانكم، هم الأزواج والزوجات، إذ كان لهم نصيب مفروض في الميراث، مثل ما فرض لموالى الإنسان وعصبته، ولكن كلمة الموالي لم تشملهن، فكان قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} بيانا لحقّ الزوجين في ميراث كل منهما لصاحبه.. وليس هناك عقد يمين أوثق من العقد الذي عقده اللّه بين الزوجين.