فصل: تفسير الآيات (40- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (40- 42):

{إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)}.
التفسير:
هذا حكم اللّه بين عباده، لا يظلمهم مثقال ذرة، بل يوفّون حسابهم عليها، فإن كانت سيئة حوسبوا بقدرها، وإن كانت حسنة جوزوا بأضعافها.. فهذا من فضل اللّه ورحمته بعباده، السيئة سيئة، والحسنة حسنات.
عشرة أو عشرات، أو مئات.. واللّه يضاعف لمن يشاء: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}.
وفى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} عرض ليوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، جزاء ما عملوا من خير أو شر.
والشهيد: هو الشاهد الذي تطلب شهادته في أمر هو عليم به.
والأنبياء هم شهداء على أقوامهم، فيما كان منهم من قبول أو إعراض- والنبي الكريم هو شهيد على أمته.. يؤدى الشهادة فيهم بين يدى اللّه، ثم يكون حكم اللّه فيهم، بمقتضى ما شهد به النبيّ، والذي لا يشهد إلا بالحق الذي يعلمه اللّه.
وفى هذا اليوم، الذي يدعى فيه الشهداء، وتسمع فيه شهادتهم.. يخزى الكافرون، ويبلسون، بما قدمت أيديهم، ويودّون لو كانوا ترابا في التراب.. ولكن لا مفر لهم، وقد أحاطت بهم خطيئاتهم، وجاءت شهادة الرسل مسجلة عليهم آثامهم، ثم استنطقهم اللّه فنطقوا، وشهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.

.تفسير الآية رقم (43):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)}.
التفسير:
الصلاة وشارب الخمر:
يكاد يجمع المفسّرون والفقهاء، على أن قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} من المنسوخ، وأن بقية الآية محكم لم ينسخ! ونحن على رأينا من أنه ليس في القرآن نسخ، وأن كلّ آية متلوّة فيه، عاملة غير معطلة.
ولكن ماذا يقول القائلون بالنسخ في آية متماسكة النظم، متلاحمة البناء كهذه الآية: ينسخ بعضها، ويبقى بعضها من غير نسخ؟
ثم ماذا يقولون في فعل مسلط على أمرين بحكم واحد، ثم يسقط أحد الأمرين ويبقى الآخر؟ فأية قوة خارقة تدخل على هذا الفعل، فتفلت من سلطانه أحد الأمرين وتستبقى الآخر..؟
استمع إلى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}.
فإن النهى عن مقاربة الصلاة تسلّط على حالين، حال السكر، وحال الجنابة.. وقد نصب قوله تعالى: {وَلا جُنُباً} بالعطف على قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ سُكارى} الذي هو جملة حالية في محل نصب.
فكيف ينسخ النهى عن مقاربة الصلاة حال السكر، ولا ينسخ النهى عن مقاربتها حال الجنابة، والفعل مسلط عليهما معا؟
وندع هذا، ففيه مجال للقول والجدل.
ونسأل: هل إذا أمر المسلمون بأمر إلهى، استجابوا له، واستقاموا عليه والتزموه؟.
المفروض هو هذا، والمطلوب هو هذا أيضا.
ولكن المفروض شيء، والواقع شيء.. والمطلوب شيء، والوفاء به شيء آخر.
إن من شأن الناس ألا يكونوا على حال واحدة أبدا.. ففيهم المطيع، وفيهم العاصي، ومنهم المستقيم، وكثير منهم المعوجّ.. {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].
{وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [103: يوسف].
هكذا هم الناس.. بل هكذا هو الإنسان.. يستقيم وينحرف، ويطيع ويعصى. ومن أجل هذا قام شرع اللّه، وقامت حدود اللّه، وكان الثواب، وكان العقاب! فالمسلمون إذا نهوا عن الخمر، مثلا، كان واجبا عليهم أن يمتثلوا أمر اللّه، وأن ينتهوا عما نهوا عنه.. ولكن الواجب- كما قلنا- شيء، والوفاء به شيء آخر.
وقد شرب كثير من المسلمين الخمر، حتى في الصدر الأول للإسلام، وفى عهد الخلافة الراشدة.. وقصة أبى محجن الثقفي المجاهد في جيش سعد بن أبى وقاص معروفة.. فقد ضبط متلبسا بشربها، وأقام عليه سعد الحدّ أكثر من مرة.. ثم حبسه، ووضع القيد في رجله.. ثم التحم المسلمون مع الروم في معركة كاد يهزم فيها المسلمون، وعند ما رأى أبو محجن من محبسه أن الدائرة ستدور على المسلمين، احتال حتى خرج من محبسه وفك من قيوده، وركب فرس سعد، وقاتل قتالا مستبسلا عرفه له كل من شهد المعركة، وإن لم يعرف شخصه.. وانتهت الموقعة بانتصار المسلمين، كما انتهت بانتهاء أبى محجن عن شرب الخمر!! والأمر لا يحتاج في هذا إلى شواهد.. فإن هذا المنكر- أي الخمر- لم يعتزله المسلمون جميعا، بل كان منهم في كل عصر، وفى كل بلد، من يشرب الخمر وتأخذه سكرتها، ويغشاه خمارها، حتى لا يكاد يفيق! ونعم، الخمر كبيرة، بل وكبيرة الكبائر.. آثم من يلمّ بها، أو يعاقرها! هذا حكم لا خلاف فيه بين المسلمين.
ولكن ما حكم من يشرب الخمر من المسلمين، ثم يريد أن يؤدّى الصلاة؟
أتحرم عليه الصلاة، ويحال بينه وبينها!
إن القول بنسخ الآية- أو صدر الآية- لا يسقط عنه فريضة الصلاة، ولا يحول بينه وبينها.
فالآية الناسخة لهذه الآية هي قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [90- 91: المائدة]- هذا النسخ للآية السابقة- إذا أخذ به- لا يحول بين المسلم الذي شرب الخمر وبين أن يؤدى الصلاة.
فالخمر جريمة، والصلاة قربة للّه.. تلك سيئة، وهذه حسنة، ولا يمنع اقتراف السيئات من فعل الحسنات، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ} [114: هود].
وكيف يحال بين المسلم العاصي، وبين أن يفعل القربات، التي تكفّر سيئاته، وتصحح إيمانه؟
وكيف بالصلاة، وهى عماد الإسلام وملاك أمره؟
وأنّى للمسلم العاصي أن يدخل مداخل الطاعة، ويحسب في الطائعين، بغير الصلاة، التي يقول اللّه سبحانه وتعالى فيها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} [45: العنكبوت]؟
وإذ ننظر في قوله سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} نجد أنه دعوة عامة للمسلمين جميعا أن يقيموا الصلاة. وأن حظ المسيئين منها أكثر من حظ المحسنين.. إذ كان المحسنون بإحسانهم، على الصحة والسلامة، لا تزيدهم الصلاة إلا إيمانا على إيمان، وهدى إلى هدى.. أما المسيئون.. فهم مرضى.. أصحاب آفات وعلل، ومرتكبو فواحش وآثام.
فهم أشد الناس حاجة إلى الدواء الذي يذهب بدائهم هذا، ويطهرهم من الآثام التي أحاطت بهم.. وليس غير الصلاة، مطهرة للآثام، مغفرة للذنوب، مدعاة إلى الاستقامة والتقوى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ}.
إن الآية الناسخة إذن لا تنهى المسلم العاصي عن إتيان الصلاة، إذا كان مبتلى بشرب الخمر.
ولكن كيف يؤدّى الصلاة وهو معاقر الخمر، مصاب بخمارها لا يدرى ما يقول؟
هنا يأتى قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} وهنا تعطى الآية حكمها في هذه الحال.. وبهذا تكون عاملة غير منسوخة، فإن القول بنسخها- حكما لا تلاوة- يدعو إلى القول بأن شارب الخمر لا يصلى أبدا، سواء أكان يدرى ما يقول، أم لا يدرى.. وهذا مالا يقول به أحد! ونسأل:
ما داعية القول بنسخ هذه الآية؟ وما الحكمة في ضرب بعض القرآن ببعض؟ خاصة إذا كانت الآية تعطى حكما مطلوبا، لا نجده في الآية التي يقال إنها ناسخة لها؟
إذن فإن ذلك القول بالنسخ هنا لا مفهوم له أبدا.. بل إنه ليبدو لنا أشبه بالقتل العمد لنفس حرم اللّه قتلها!! فالمسلم.. الذي يتأثّم بشرب الخمر.. منهى عن إتيان الصلاة حتى يفيق إفاقة تامة من السكر، ليعلم ما يقول، ولينتفع بهذا الموقف الذي يقفه بين يدى اللّه.
وهذا الانتقال السريع من الإثم إلى الطاعة، والانخلاع من متابعة الشيطان إلى ملاقاة اللّه- هذا الانتقال من شأنه أن يحدث في النفس هزّة مزلزلة، وأن يثير في كيان الإنسان انقلابا عاصفا، حين يرى تلك المفارقة العجيبة البعيدة بين الموقفين اللذين وقفهما، والذي لا يبعد أحدهما عن الآخر غير خطوة.. إنه في هذا الموقف- أكثر من غيره- يدرك فرق ما بين الضلال والهدى، والظلام والنور، ومتابعة الشيطان، ولقاء وجه الرحمن.
إن هذا الموقف جدير به أن يحمل الإنسان- في قوة- على مخالفة هواه، والرجوع إلى اللّه، رجوعا لا يلتفت بعده إلى وراء أبدا!! قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} هو عطف على قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} وهما- أي المتعاطفان- واقعان تحت حكم النهى في قوله تعالى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ}.
فكما لا يقرب شارب الخمر الصلاة حتى يفيق ويعلم ما يقول، كذلك لا يقرب الجنب الصلاة حتى يتطهر بالاغتسال..! أي لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا.
إن شأن الصلاة عظيم، وأمرها جليل، وإذ كان هذا شأنها وذلك أمرها، فإنه يجب ألا يدخل حماها، ولا يتلبّس بها إلّا من كان أهلا لأن يلقاها، وبأنس بها، ويتجاوب معها، ويستشعر جلال اللّه على سنا أضوائها.. والمخمور غير أهل لهذا اللقاء.. حتى يفيق ويتخلص خماره، ويعود إليه عازب عقله ويستردّ إنسانيته التي افتقدها مع سكرته- والجنب غير أهل هذا اللقاء أيضا.. حتى يغتسل ويتطهر، وينزع عنه بهذا الاغتسال ما تلبّس به من مشاعر الحيوانية، ليعود إنسانا، كما كان من قبل أن يتلبس بما تلبس به! والجنب، والجنابة: كناية عن مباشرة النساء.
وقوله تعالى: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} هو استثناء من الحكم الوارد على الجنب بألا يقرب الصّلاة حتى يغتسل.. فإن كان عابر سبيل، لا يجد ماء.
فله حكم غير هذا الحكم، ستشير إليه الآية فيما بعد.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
هذا استثناء من حكم عام، وهو الوضوء للصلاة قبل الدخول في الصلاة.
والمستثنون من هذا الحكم هم أصحاب معاذير: افتضت رحمة اللّه بهم التخفيف عنهم، وأخذهم بحكم خاص، غير هذا الحكم العام الذي يجرى على من لا عذر لهم.
وأصحاب المعاذير هنا هم:
1- من كان مريضا.. أي المريض الذي يعجزه مرضه عن استعمال الماء.
2- أو من كان على سفر.. سواء أكان السفر طويلا أم قصيرا، مادام قد بعد عن أهله وبلده.
3- من انتقض وضوؤه، بخروج شيء من أحد السبيلين.. ولو كان صحيحا سليما- إذا لم يجد الماء، أو وجده وأضرّ به استعماله، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}.
والغائط هو المكان المنخفض، وهو كناية عن قضاء الحاجة، حيث تقضى في مكان لا يقع تحت أعين الناس.
4- من كان جنبا.. ولو كان سليما معافى لا يضره استعمال الماء، ولكنه لا يجده.
فهؤلاء.. إذا لم يجدوا الماء أو وجدوه وأضرّ بهم استعماله، كان التيمم بديلا لهم من الماء، في أداء الصلاة.
فالمريض، الذي يمنعه مرضه من استعمال الماء، له التيمم مع وجود الماء، وكذلك شأن المسافر، إذا كان معه من الماء مالا يفيض عن حاجته في طعامه وشرابه.
والتيمم معناه القصد، والاتجاه، والصعيد ما ارتفع من الأرض، وصعد.
والمراد بقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} اختيار مكان طاهر من الأرض، ليمسح منه على الوجه واليدين، قبل الدخول في الصلاة.
والإشارة إلى الصعيد، لمظنّة أنه بمنأى من الخبث والقذر، حيث يعلو عن استعمال الناس، والتلوث بالقذارات.
فليس المراد مجرّد العلوّ لاختيار المكان الذي يمسح منه، وإنما القصد أن يكون طيبا طاهرا، ولهذا جاء قوله تعالى: {صَعِيداً طَيِّباً} قيدا للصفة التي يكون عليها هذا الصعيد، وهو أن يكون طيبا، إذ قد يكون صعيدا، ولكنه ملوث بالخبث والقذر.
وهنا أمر نحبّ أن يشير إليه، وهو ما في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} حيث أطلق الجنابة، ولم يقيدها. إن كانت عن حلال أو حرام! وهذا يعنى أن الزاني جنب، وأنه حين يريد الصلاة ينبغى أن يتطهر بالاغتسال، أو التيمم، حسب الحكم الذي يقتضيه حاله، شأنه في ذلك شأن الجنب الذي واقع زوجه! أما جريمة الزنا التي اقترفها، فلها حكمها الخاص بها.. ولا متعلق لها بفريضة الصلاة المفروضة عليه.
نقول هذا، لنشير به إلى ما سبق أن قررناه في شأن شارب الخمر، الذي إذا أراد أن يؤدى فريضة الصلاة، فإن له أن يؤديها، ولكن بعد أن. يفيق من سكره ويعلم ما يقول.. تماما، كما يغتسل الزاني ويتطهر من الجنابة قبل الدخول في الصلاة.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً} نجد دعوة كريمة، من رب كريم، عفوّ غفور، يدعو هؤلاء المذنبين إليه.. من شاربى خمر، أو زناة، ليدخلوا في رحابه، وليرفعوا وجوههم إليه وليخبتوا له، ساجدين راكعين.
عسى اللّه أن يتوب عليهم، ويغفر لهم {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً}.
وما أوسع رحمة اللّه، وما أعظم فضله، إذ بسط يده بالعفو وبالمغفرة، قبل أن يسعى إليها الساعون، ويطلبها العصاة المذنبون.
هذا، ونودّ أن نلتقى بالآية الكريمة لقاء خاصّا، نستشفّ منه بعض أسرارها التي تلوّح بها من بعيد، ليكون فيها تبصرة وذكرى لأولى الألباب! ففى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ما يسأل عنه، وهو هذا القيد الوارد على إباحة التيمم، عند عدم وجود الماء- هل هو منسحب إلى جميع أصحاب هذه الأعذار.. وهم المرضى، ومن كان على سفر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء؟
وكلّا.. فإن المريض سواء وجد الماء أو لم يجده، قد رخّص له في التيمم، وقام مرضه في دفع الحرج عنه مقام عدم وجود الماء.. وإلا لما كان لذكره هنا وجه.. فإن عدم وجود الماء هو عذر للصحيح أيضا، فلا وضوء عليه الصلاة، بل يجزيه التيمم، الذي هو طهارة له، والتي هي شرط للدخول في الصلاة.
وسؤال آخر، وهو: أيلحق المسافر في الحكم بالمريض، فيباح له التيمم، سواء وجد الماء أم لم يجده، أم أنه يلحق بمن ذكر بعده، وهو من جاء من الغائط أو لامس النساء.. حيث لا يباح لهما التيمم إلا عند فقدان الماء؟ هنا يطالعنا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، نلمحه في ترتيب أصحاب هذه الأعذار المبيحة للتيمم، حيث بدأ بالأقوى عذرا، فمن دونه، وهكذا.
فالمريض.. صاحب عذر واضح في إباحة التيمم له، بحيث لا ينتقض هذا العذر بوجود الماء.
أما المسافر.. فهو على حال دون المريض، ولكنه شبيه بالمريض في بعض ما يحيط به من أحوال.. فهو ضعيف لانقطاعه عن أهله، ولسوء تغذيته، ولمكابدته مشاق السفر.. فهو- والحال كذلك- في حكم المريض، وإن لم يكن مريضا، ولهذا جاء تاليا للمريض في ترتيبه بين أصحاب الأعذار.
وعلى هذا، فإن له أن يأخذ بحكم المريض، فينتفع برخصة التيمم، مع وجود الماء، وهذا هو سرّ ذكره بين أصحاب الأعذار، ليكون السفر عذرا له، كما يكون فقدان الماء عذرا لغير المسافر.. كمن جاء من الغائط أو لامس النساء.
هذا، ولا نستطيع أن نرفع أبصارنا عن هذه الآية الكريمة دون أن نملا العين من هذا النظم العجيب الذي جاءت عليه، وهى تقرر أحكاما، وتصدر تشريعا.. الأمر الذي لا يلتفت معه كثيرا إلى الصياغة البلاغية، التي كثيرا ما تجوز على التحديد والتقنين المطلوبين لتقرير الأحكام.. ولكنه القرآن الكريم، وكلام ربّ العالمين، يجمع الحسن كلّه، ويستوفى الكمال جميعه.
والذي شدّ أبصارنا وبصائرنا من نظم هذه الآية الكريمة هوقوله تعالى: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} فقد جاء هذا المقطع من الآية الكريمة مخالفا لنسق النظم الذي جاءت عليه الآية، فيما سبقه، أو لحقه منها- فالآية تخاطب المؤمنين في صيغة الجمع.. {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}.
وينفرد هذا المقطع: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} بأنه حديث عن الغائب المفرد.. ولو جاء على نسق النظم في الآية كلها لجاء هكذا: أو جئتم من الغائط.
فما سرّ هذا؟
وأكاد أنصرف عن بيان هذا السرّ، الذي يكاد لا يكون سرّا، بعد أن يواجهه المقطع المعدول عنه، والذي كان من المتوقع أن يحلّ محلّه.. هكذا: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} أو جئتم من الغائط.
ولكن لا بأس من أن نكشف هذا السرّ بعد أن انكشف، إذ لا تزال وراءه أسرار كثيرة لم تنكشف لنا، ولعلها تنكشف لمن يطلبها ويمعن النظر فيها.
ففى قوله تعالى: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ} تنكير وإخفاء وستر لهذا الذي جاء من الغائط، بعد أن كان عريانا، يباشر عملا يحبّ أن يستره ولا يطلع أحد عليه.
ثم هو من جهة أخرى احترام لحياء المخاطبين، حتى لكأنهم لا يفعلون هذا الفعل الذي هو ضرورة ملزمة لكل حىّ.. والذي هو عمل يأتيه كلّ إنسان.. ولكنه أدب الحديث، الذي يؤدّبنا اللّه سبحانه وتعالى به، ويطلعنا من كلماته على ما لم تعرف الحياة في أعلى مستوياتها من أدب كهذا الأدب السماوي الكريم!