فصل: تفسير الآيات (44- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (44- 46):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)}.
التفسير:
الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود. والمراد بالنصيب من الكتاب، بعضه، أي بعض التوراة، التي جاءهم بها موسى عليه السلام.
فكيف يكون اليهود قد أوتوا نصيبا من الكتاب مع أن الكتاب كله بين أيديهم؟ واللّه سبحانه وتعالى يقول فيهم: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ} [20: الأنعام]، (146: البقرة)؟
ويقول سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [121: البقرة].
كيف يكون هذا؟
والجواب:
أولا: أن الكتاب- وهو التوراة- الذي بين أيدى اليهود، قد حرّف وبدّل، بما أحدثوا فيه من منكرات، وبما ألقوا إليه من أهواءهم، ومختلقاتهم.. فالذى بقي في أيديهم من التوراة، هو بعض التوراة، لا التوراة كما أنزلت عليهم.
وثانيا: أن ما بقي في أيديهم من التوراة لم يستقيموا عليه، فما صادف من أحكامها هوى في أنفسهم أخذوا به، وما كان على غير ما يحبّون تأوّلوا له، وحرفوه عن وجهه إلى الوجه الذي يريدون.. وقد نعى اللّه ذلك عليهم بقوله سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [58: البقرة].
فالذى يمسك به اليهود من التوراة هو بعض التوراة، لا التوراة.. وفى التعبير بلفظ {أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ} بدلا من {آتيناهم الكتاب} إبعاد لهم عن هذا المقام الكريم، مقام الخطاب من اللّه رب العالمين، لأنهم- وقد فعلوا ما فعلوا من منكرات- ليسوا أهلا لأن يوجّه إليهم خطاب من اللّه رب العالمين.. فوجّه إليهم الخطاب مجهول الجهة التي تخاطبهم، حتى لكأنهم في مواجهة الوجود كلّه، يطلع عليهم من كل أفق منه من يستنكر ما هم فيه من ضلال، ويحمّق موقفهم من رسل اللّه وكتبه.. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}.
فكأنّ ألسنة الخلق كلّها تتنادى مشيرة إلى هذا الضلال والسّفه الذي يركب هؤلاء الحمقى السفهاء من الناس، إذ يشترون الضلالة بالهدى، والباطل بالحق، والشر بالخير.. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ} [28: إبراهيم] وفى قوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} خطاب للمسلمين، بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبيّ الكريم، وفى هذا، تكريم للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- ورفع لمقامه الكريم، من أن يكون لهؤلاء الضالين، ومفترياتهم، أثر في سلامة دينه، وصحة معتقدة، ووثاقة إيمانه بربّه، وإن كان في ذلك ما يخشى منه على المسلمين، في التشويش عليهم، والوسوسة بالباطل لهم.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً} فضح لليهود، ولما في قلوبهم من بغضة وشنآن للمسلمين، وأنهم هم العدوّ، الذين يكيدون لدين اللّه، ولرسول اللّه، وللمؤمنين باللّه.. وفيهم يقول اللّه سبحانه: {وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [4: المنافقون].. وفيهم يقول سبحانه أيضا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [82: المائدة].
وفى قوله تعالى: {وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً} حماية ربّانية وحراسة رحمانية للمؤمنين، مما يكيد لهم اليهود، وما يدبرّون من سوء.. فاللّه سبحانه وتعالى، هو ولىّ المؤمنين، يدفع عنهم هذا الكيد، ويفسده.. {وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً} وإن اللّه سبحانه ليتولّى المؤمنين وينصرهم، إذا هم أخذوا حذرهم، وتنبهوا إلى عدوّهم، وتحصنوا من كيده ومكره، بإيمانهم باللّه، واحترازهم من عدوّهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}!
وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} يكشف عن تلبيسات اليهود، وموارد نفاقهم.. إنهم ينافقون بالكلمة وبالعمل معا، تلتوى ألسنتهم بالكلمات فتزيلها عن معانيها التي لها، وتعبث أيديهم بالعمل فتموّهه وتزيفه، وتجعل ظاهره غير باطنه، كما يطلى المعدن الخسيس بسراب خادع من معدن كريم.
يقولون للنبىّ بأفواههم: {سمعنا} ويقولون بقلوبهم: {وعصينا}، ويقولون {اسمع} بصوت مسموع، ويتبعون ذلك بصوت خافت: {غير مسمع} يدعون على النبيّ بالصم.. ويقولون: {راعنا} أي انظر إلينا.
يقولونها في تخابث تضطرب به ألسنتهم فتخرج الكلمة مشوّهة، عليها شبهة الضلال الذي يجده السامع لكلمة {راعنا} بالتنوين، صفة من الرعونة والطيش.. وهكذا يلقون النبي والمسلمين بتلك الكلمات المنافقة، التي تلبس أثوابا من الزيف والخداع! {وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ}! خيرا يصيبونه في أنفسهم، إذ يستقيم بهم على طريق الخير، ويهديهم إلى سواء السبيل.. ولكن طبيعة القوم لا تعطى غير هذا الباطل، ولا تنضح إلا بهذا الزّيف المنكر من القول.. إذ {لعنهم اللّه بكفرهم}.
{وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يستنقذه من هذا الضلال الذي يتخبط فيه، ويلقى به في لجج الهلاك، وسوء المصير.
وفى قوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.
ما يفضح هذا الإيمان الذي هم عليه.. فهم أهل كتاب.. ومن شأن أهل الكتاب أن يكونوا مؤمنين.
وهم مؤمنون، ولكن إيمانهم مشوب بالضلال، متلبّس بالكفر، فهم مؤمنون وكافرون، ولا يجتمع الإيمان والكفر إلا في قلب منافق.
فالنفاق هو الوصف الذي هو أولى بهم، وهم أحقّ به.. ولهذا كان النفاق والمنافقون، من الصفات والسمات التي غلبت عليهم، فيما تحدث به القرآن عن هذا الحق اللئيم وأهله.
وفى القرآن الكريم يوصف اليهود بأنهم كافرون.. هكذا، وصفا مطلقا.
كما يقول سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [1: البينة] وكما يقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ} [6: البيّنة] وفى القرآن الكريم آيات تصف اليهود بأنهم مؤمنون، ولكنّ هذا الوصف يقيّد دائما بأنه إيمان سطحى، لا يمسك من بالإيمان إلا بظاهره، كما يقول سبحانه في هذه الآية: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.
وكما يقول سبحانه: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [155: النساء].
فهم كافرون كفرا قاطعا، وهم مؤمنون إيمانا ظاهرا.. وذلك هو النفاق في أسوأ صورة وأبشعها.

.تفسير الآيات (47- 48):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)}.
التفسير:
بعد أن فضح اللّه اليهود، الذين أوتو الكتاب، فمكروا بآيات اللّه، بما حرّفوا وبدّلوا فيه- دعاهم اللّه إلى ترك ما هم فيه من ضلال وزيغ.
وأن يؤمنوا باللّه وبالكتاب الذي في أيديهم إيمانا خالصا، فإنهم إن فعلوا ذلك لم يكن بينهم وبين الإيمان بالكتاب الذي نزله اللّه على محمد حجاز يفصل بينهم وبين الإيمان بهذا الكتاب.. لأنه من عند اللّه، كما أن كتابهم من عند اللّه، وهو مصدق لما معهم فيما جاء به من شرائع وأحكام.
فإذا آمنوا بكتابهم، ولم يؤمنوا بالكتاب الذي نزل على محمد، فهم غير مؤمنين، لأن الكتابين في حكم كتاب واحد.. والإيمان بأحد الكتابين والكفر بالآخر ينقض هذا الإيمان.. وقد أنكر اللّه عليهم دعوى الإيمان التي يدّعونها، حين يقولون، إنهم على كتابهم الذي في أيديهم.. فقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ} [85: البقرة].
وقال سبحانه وتعالى فيهم أيضا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً} [150- 151: النساء] وفيهم يقول سبحانه وتعالى أيضا: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [91: البقرة] وفى قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ} وعيد لليهود، ونذير راصد لهم باللعنة من عند اللّه، إن لم يؤمنوا بمحمد، وبما أنزل اللّه عليه.
وهذه اللعنة حين تقع عليهم، فإنها لا تبقى على شيء من آدميتهم.. بل إنها ستقلب كيانهم البشرى، وتحيلهم خلقا آخر، يكون مثلة، بين المخلوقات، فإذا كان كل مخلوق له وجه وظهر، فهؤلاء سيكون وجههم وظهرهم سواء! وانظر إلى إنسان استدارت رأسه، فكان الوجه من خلف، والقفا من أمام!! كيف تبدو صورته؟ وكيف يستقيم حاله؟ وكيف يمشى إذا أراد المشي؟
وكيف يأكل إذا أراد الأكل؟ بل كيف ينام إذا أراد أن ينام؟ ما أشقى مثل هذا الكائن الذي تخالفت أعضاؤه، وتضاربت جوارحه! وهذه العقوبة هي الجزاء الوفاق لما ارتكبوا من جرائم وآثام. إنهم أعطوا الناس وجها، وعاشوا فيما بينهم وبين أنفسهم بوجه.. والوجه الذي تعاملوا به مع الناس هو هذا الوجه الظاهر الذي يراهم الناس عليه، أما الوجه الآخر، فقد أخفوا أمره عن الناس، وحجبوه عن أن يواجهوهم به- فكان أن توعدهم اللّه بكشف هذا الوجه المنافق، وفضحه للناس، فلا يبقى لهم إلا هذا الوجه الذي جعلوه وراءهم، في هذا الوضع المقلوب! هذا هو الجزاء الذي ينتظرهم، إن لم يستقيموا على طريق الحق، ويؤمنوا كما آمن الناس، إيمانا خالصا من النفاق! فإن لم يكن في هذا الجزاء ما يردعهم، ويردّ إليهم شارد عقولهم.. فهناك جزاء آخر أقسى وأشد.. وإنه لجزاء يعرفونه في آبائهم وأجدادهم، الذين اعتدوا في السبت، فمسخهم اللّه، وجعلهم قردة في أجساد بشر! أو بشرا في طباع قردة! وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [65: البقرة].
وقوله تعالى: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ} هو نذير بالعقوبة الثانية، بعد النذير بالعقوبة الأولى.
وما أصاب أصحاب السبت معروف لهم! فماذا ينتظرون بعد هذا؟
أيظنون أن اللّه مخلف وعيده لهم.. لأنهم- كما زعموا- أبناء اللّه وأحباؤه؟ وكيف وقد وقع هذا العقاب بآبائهم، وأخذهم اللّه به؟
أم يظنون أن اللّه إذا أراد أمرا بهم، وساق شرا إليهم- أهناك من يدفع ما أراده اللّه بهم؟
فلينتظروا، وسوف يرون ما اللّه فاعل بهم.. {وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}.
ما يسأل عنه.. وهو: هل أهل الكتاب هؤلاء مشركون، حتى تجيء هذه الآية في سياق الحديث عنهم، وفضح نفاقهم؟
إنهم- كما وصفهم، القرآن في كثير من آياته- كافرون، ومنافقون، ومؤمنون.. يجمعون بين الإيمان والكفر.
أما الشرك فهو الصفة الغالبة التي أطلقها القرآن على كفار قريش، الذين لم ينكروا وجود اللّه، ولكنهم عبدوا أصناما لهم من دون اللّه، وقالوا:
{ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى} [3: الزمر] ومع هذا، فإن بين الكافرين من أهل الكتاب، والمشركين من العرب صلة جامعة، هي الخروج عن سواء السبيل، والتنكّب عن طريق الحق! وإذ جرى ذكر الكافرين المنافقين من أهل الكتاب، وما توعدهم اللّه به إن لم يؤمنوا، إيمانا كاملا- حسن أن يجرى ذكر قرنائهم من مشركى العرب، وأن يلتقى بعضهم ببعض، ويواجه بعضهم بعضا، بهذه الوجوه المنكرة وما بأيديهم من آثام.. وفى ذلك ما فيه من إثارة الذعر والفزع، فيما يرى كل واحد من الفريقين في وجه صاحبه، من وبال ونكال.. إنها حال أشبه بتلك الحال التي يثيرها اجتماع المجرمين- على اختلاف جرائمهم- في ساحة العدل والقصاص، من صور الإيلام، والأسى، والفزع، التي تشتمل على أصحاب هذا الموقف جميعا! والشرك عدوان على اللّه، وإنزال بقدره، حين يسوّى بينه وبين المعبودين، من جماد، وحيوان، وإنسان! ولهذا كان الشرك أعظم من الكفر، إذ الكافر- مع إنكاره للّه- حين يتعرف على اللّه لا يراه على تلك الصورة التي يراه عليها المشرك، ولا ينزل بقدره إلى هذا المستوي المهين! {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
فالشرك كبيرة الكبائر، لا يغفر اللّه لمرتكيها، ولا يدخله مدخل عباده، الداخلين في رحمته ومغفرته {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً} [48: النساء] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [72: المائدة].

.تفسير الآيات (49- 50):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)}.
التفسير:
عادت الآيات مرة أخرى، لتفضح اليهود، فضيحة بعد فضيحة، فما أكثر مآثمهم، وما أوسع دائرة مخازيهم.
وهنا جريمة أخرى من جرائمهم.. إنهم غارقون في الضلال إلى أذقانهم، ومع هذا فإنهم يرون في أنفسهم أنهم أولى الناس باللّه، وأقربهم إليه، وأحقهم بفضله ورحمته، فقالوا فيما كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}.
وقالوا: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ}.
لقد زكّوا أنفسهم بغير حق ورفعوا منزلتهم إلى مكان ليسوا أهلا له.
وهذا تألّ على اللّه، وافتراء عليه.. وإنه ليس لاحد أن يتخيرّ عند اللّه المكان الذي يمليه عليه هواه.. فذلك أمر إلى اللّه وحده، ينزل عباده منازلهم، حسب علمه بهم، وبما هم أهل له.. دون أن يظلم أحدا شيئا.
وقوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً} شجب لمدّعيات هؤلاء القوم، وتكذيب لمفترياتهم، وفضح لهم على رؤوس الأشهاد، ودعوة للناس جميعا أن ينظروا إليهم وهم في هذا الثوب الكاذب المفضوح!!