فصل: تفسير الآيات (51- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (51- 57):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)}.
التفسير:
فضيحة أخرى من فضائح اليهود، ومخزاة إلى ما عرف من مخازيهم، التي يرى منها الناس ما يثير العجب والدّهش، وما يحمل على السخط عليهم، واللعنة لهم.
إنهم وهم أهل كتاب، إن يكن قد فاتهم الخير الكثير الذي كان في هذا الكتاب، فإن بين أيديهم أثارة منه، تجعلهم أقرب إلى المؤمنين، وأعرف بما جاء به محمد من عند ربّه، وأنه إذا أنكره المشركون وكذبوا به، لم يكن لليهود- أهل الكتاب- أن يقفوا هذا الموقف اللئيم منه! والعجب هنا، أن اليهود لم يقفوا عند هذا الحدّ من الضلال، والعناد، والمكابرة في وجه الحق، بل انحدروا إلى حضيض السفاهات والضلالات، فآمنوا بالجبت والطاغوت، واتبعوا ما تمليه عليهم أهواؤهم من أباطيل وخرافات.
والجبت: هو الهوى الذي يفيض من عقل مظلم ووجدان سقيم.
والطاغوت: هو الهوى الذي يمليه ذكاء خبيث، وشيطان مريد.
فالقوم عبدة هذا الهوى، الجامع بين تلك الأخلاط. من البلادة والذكاء، البلادة الحيوانية، والذكاء الشيطاني.. فهم حيوانات بهيمية، يعيش فيها شيطان رجيم.
وفى قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} إشارة إلى فعلة من أفعالهم اللئيمة، وجريمة من جرائمهم المنكرة.. ذلك أنهم يرون في الكافرين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين.
ولهذا كانوا حلفا مع مشركى قريش على النبيّ وأصحابه!.. وهكذا يقتل الحسد من نفوسهم كل واردة من واردات الخير، حين.. بعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، فيرون الحق باطلا، والباطل حقّا.. {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [41: المائدة] وفى عطف القول ومقوله، على إيمانهم بالجبت والطاغوت، تغليظ لهذا القول الذي قالوه، وتجريم له، وجعله هو وعبادة الجبت والطاغوت على درجة سواء، من الكفر والضلال! وفى إسناد القول للذين كفروا، ثم الإشارة بمقول القول إليهم- ما يسأل عنه:
إذ كيف يقولون للذين كفروا، ثم يشيرون إلى هؤلاء الذين كفروا بمقول القول هذا، وهم يخاطبونهم، ويتجهون بالقول إليهم؟ إن الذي يقتضيه النظم أن يكون مقول القول للكافرين.. هكذا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا! فكيف هذا؟
والجواب- واللّه أعلم- أن اليهود- لم يتجهوا بهذا القول إلى جميع الكافرين.. وإنما كانت مقولتهم تلك لرءوس الكافرين، وأصحاب الرأى فيهم، ثم كانت الإشارة إلى الكافرين في عمومهم.
وفى هذا ما فيه من مبالغة في كفر القوم، وضلالهم، حتى إنهم لا يرون المؤمنين في درجة تسمح بالمفاضلة بينهم وبين كبار الكافرين وسادتهم، وإنما الذي يمكن أن يسمح به في المفاضلة بين المؤمنين والمشركين، هو هذا المستوي الذي عليه عامة الكافرين، لا خاصتهم.
فاليهود إذ يتحدثون إلى رءوس الكافرين لا يقولون لهم أنتم أهدى سبيلا من المؤمنين، بل يشيرون إلى عامة الكافرين، خارج هذه المجموعة، ويقولون لهم: {هؤلاء} أي جماعتكم جميعا.. {أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} أما أنتم، فشتان ما بينكم وبينهم! وإذ استباح القوم الزور، واستمرءوا الحياة معه.. فهيهات أن يقف بهم عند حدّ! وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.
هو إشارة لليهود الذين شهدوا تلك الشهادة الباطلة، ونطقوا بها زورا وبهتانا، وهو في مقابل مقولة اليهود عن الكافرين: {هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} حيث أشاروا إلى الكافرين، وحكموا لهم بهذا الحكم المبنىّ على الزور والبهتان.. فأشار اللّه إليهم، بهذا الحكم القائم على العدل والردع، لهذا الجرم الذي اقترفوه، وهذا الضلال الذي غرقوا فيه، وأغرقوا غيرهم معه.. {أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}.
واللعنة دائما حيث كانت، فهى لليهود، وعلى اليهود..!
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} هو إعلان عن هذا الطبع اللئيم الذي يغلب على اليهود، وهذا الداء الخبيث الذي يغتال كل معالم الإنسانية فيهم.
فالشحّ هو الطبع الغالب عليهم، لا تندّ من أيديهم ذرة خير لأحد، لما انطوت عليه نفوسهم من كراهية للناس جميعا.. حيث يجدون الراحة والرضا فيما ينزل بالناس من كوارث ومحن، فكيف يكون منهم عمل يخفف عن الناس لما، أو يسوق إليهم عافية؟
إنهم لو كان إلى أيديهم شيء من رحمة اللّه وفضله، لحرموا الناس أن ينالوا ذرة من هذه الرحمة وذلك الفضل! والنقير هو النقرة في ظهر النواة.. وهو شيء غاية في الصغر والضآلة، ومثله الفتيل والقطمير.
وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} هو إعلان عن ذلك الداء الذي يولّده الشحّ الذي طبع عليه القوم، وهو داء الحسد.. فالقوم تتّقد في قلوبهم نار الحسد والكمد، إذا رأوا نعمة من نعم اللّه تصيب عبدا من عباد اللّه! فهم يتحرقون غيظا وكمدا أن ساق اللّه إلى محمد هذا الفضل العظيم، ووضع في يده تلك النعمة السابغة، حين اصطفاه لرسالته، وأنزل عليه كتابه الكريم.
فما لهم- قاتلهم اللّه- يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله، وقد وسّع اللّه عليهم وآتاهم من فضله، وأنزل عليهم من نعمه، ما لو استقاموا عليه، وانتفعوا به لسعدوا، وأسعدوا الناس معهم؟ {فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} فمن آل إبراهيم كان أنبياء بنى إسرائيل: إسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى.
فما أكثر الخير الذي ساقه اللّه إليهم على يد أنبيائه ورسله، ولكن القوم استقبلوا هذا الخير بالجحود والكفران: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} وقليل منهم أولئك الذين آمنوا، وكثير منهم أولئك الذين كفروا وجحدوا.. {وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} فهى الجزاء العادل لمن مكر بآيات اللّه، وبدل نعمة اللّه كفرا.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً}.
ففى جهنم التي هي مثوى هؤلاء المكذبين بآيات اللّه، ألوان من العذاب لا تنتهى.. {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها} ليعيشوا هكذا في عذاب دائم.
والجلد هو حاسة الإحساس في الإنسان، ولذا كان العذاب الأخروىّ واقعا عليه، وكانت النار التي تتصل به أشبه بثوب من النار ذاتها، كلما بلى هذا الثوب، تجدّد لأصحاب النار ثوب آخر مكانه!.
وفى مقابل هذا العذاب الذي يصلاه الكافرون، تقوم الجنّة التي ينعم فيها المؤمنون، بما أعد اللّه لهم، من نعيم مقيم، لا ينفد أبدا.
وفى مواجهة أصحاب الجحيم لأهل النعيم وما يلقون من كرامة وتكريم، وفى اطلاع أهل النعيم على أهوال الجحيم، وما يلقى المعذبون في نار جهنم، من نكال وبلاء- في هذا ما يضاعف لأهل النار ما هم فيه من محن وأهوال! كما يضاعف لأهل الجنة ما هم فيه من نعيم ورضوان.

.تفسير الآيات (58- 59):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)}.
التفسير:
الأمانات التي يأمر اللّه سبحانه وتعالى بأدائها إلى أهلها، كثيرة، متنوعة، وأهلها كثيرون مختلفون! فهناك أمانة عامة حملها أبناء آدم جميعا، هي أمانة التكليف، التي أبت عوالم السماء والأرض أن تحملها، وأشفقت من حملها، والقدرة على الوفاء بها.
وأمانة التكليف هذه، هي التي أفردت الإنسان عن سائر المخلوقات، بالعقل، الذي به أصبح الإنسان سيد نفسه، بما له من قوى التفكير، والتقدير، والإرادة.. فإن شاء تقدم، وإن شاء تأخر، حسب ما يرى ويقدّر! ولهذا كان عالم الناس مجموعة عوالم، بعدد أفراد الناس، فردا، فردا.
فكل إنسان عالم وحده، في تفكيره، وتقديره، وعواطفه، ومنازعه، وسلوكه، حتى لا يكاد يتساوى إنسان وإنسان بحال أبدا.. على خلاف الكائنات الأخرى، علويّها وسفليّها.. كل عالم منها ينتظم جميع أفراده، التي لا يختلف.
فيها واحد عن آخر، حتى لكأنها عدد مكرر من أعداد الحساب! وهذا التفرد الذي كان للإنسان، هو طموح جامح، منّته به نفسه الغرور، فارتفع إلى المستوي الرفيع الذي إن زلّت به قدمه فيه، سقط من علو شاهق، وهوى إلى أسفل سافلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [4- 5- 6: التين] فالإنسان إذ حمل هذه الأمانة- أمانة التكليف- أصبح سيّد الكائنات كلها، لا سيّد فوقه إلا اللّه سبحانه وتعالى، فهو بهذا الخلق القويم الكريم ظلّ اللّه في هذا الوجود، تتخايل فيه لمحات من علم اللّه، وقدرته، وإرادته، وكثير من صفاته، سبحانه وتعالى علوّا كبيرا عن الشبيه والمثيل!
وعلى هذا يمكن أن يفهم ما تحدّث به التوراة عن اللّه تعالى: وقال اللّه: نعمل الإنسان على صورتنا، كشبهنا.. فخلق اللّه الإنسان على صورته. على صورة اللّه خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم اللّه.
وإذ حمل الإنسان هذه الأمانة، وتحدّى الموجودات كلها، التي أشفقت من حملها، فإنّ من البر بنفسه، والكرامة لإنسانيته، أن يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، وأن يرعى هذه الأمانة حق رعايتها، وأن يؤديها إلى أهلها، وهو اللّه سبحانه وتعالى، وذلك بالتعرف على اللّه والإيمان به أولا، ثم الاستقامة على طريق الحق والخير على ما شرعه اللّه ورسمه.
وأداء هذه الأمانة على وجهها، هو ضمان وثيق لأداء الأمانات كلها، لأن كل أمانة بعد هذا هي بعض من تلك الأمانة الكبرى، وأثر من آثارها.. فما بين الناس والناس من أمانات ماديّة، وعقود، وعهود.
هو مما يندرج تحت هذه الأمانة وينضوى إليها.
وقوله تعالى: {وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} هو استنجاز لأداء بعض الأمانة التي حملها الناس.. وهى الحكم بالعدل بين الناس.. لأن العدل صفة من صفات اللّه، وفى الإنسان لمحة من هذه الصفة.
وفى خروجه عن العدل، خيانة للأمانة التي حملها، وجناية على نفسه، وردّة لها إلى أسفل سافلين.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} تحريض قوي على امتثال هذا الأمر الكريم، وتلك الموعظة الحسنة، لأنها دعوة من اللّه إلى خير، ولا يدعو اللّه إلا إلى الخير ولا يأمر إلا بالخير.
ونعمّا هي فعل مدح، أصله نعم وما التي هي نكرة بمعنى شيء، ليفيد هذا التنكير التعميم والشمول.. فكل ما يعظنا به اللّه، ويدعونا إليه هو خير، وخير مطلق.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} هو استنجاز آخر لأداء بعض ما يتعلق بالأمانة الكبرى التي حملها الإنسان، وهو طاعة اللّه والرسول، وأولى الأمر.
فالانقياد للّه هو المظهر العملىّ الواضح لأداء هذه الأمانة، وغير هذا الانقياد هو التضييع للأمانة، والعدوان عليها.
والانقياد للّه يتبعه الانقياد لرسول اللّه.. إذ كان هو السفير بين اللّه وبين عباده، وهو الحامل لكلمة اللّه إليهم، والمؤذّن بها فيهم.. فلا انقياد للّه لمن لا ينقاد لرسول اللّه.
وأولو الأمر.. هم من يلون أمر الإنسان، ويقومون على رعاية مصالحه، من آباء، وقادة، وحكام.. وغيرهم، ممن لهم على الإنسان سلطان أدبى أو مادىّ.
والانقياد لأولى الأمر ليس انقيادا مطلقا، بل هو انقياد محكوم بحدود العدل، والخير، والإحسان.
ولهذا كانت طاعة الوالدين- وهما في المقام الأول من أولى الأمر- قائمة على سنن المعروف، فإن دعوا إلى منكر، فلا طاعة لهما، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً} [15: لقمان].
فالولاية إذا لم تكن ولاية راشدة حكيمة، مستقيمة مع العدل والإحسان كان لمن تحت ولايتها أن يراجعوها، وأن ينصحوا لها، وأن يعملوا على تبصرتها بالطريق القويم، الذي فيه خير الجماعة كلها.
فإن كان خلاف بين أولى الأمر، وبين من في ولايتهم، ولم يلتقوا عنده على كلمة سواء.. كان الحكم بينهم في هذا، كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه، فذلك هو الميزان العدل، الذي توزن به الأمور، وما يقضى به هنا كان هو الحق والخير، وكان التزامة أمرا واجبا.. من أباه، وخرج عليه، كان متعديّا حدود اللّه، آثما ظالما.. تجرى عليه أحكام الآثمين الظالمين.
وفى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ما يشير إلى احتمالات النزاع المتوقعة بين أولى الأمر ومن في ولايتهم، وأن ذلك أمر غير مستبعد، بين الناس والناس.
فإذا وقع نزاع في أمر ما، كان ردّه إلى حكم اللّه ورسوله أمرا واجبا على المؤمنين، وكان اللّه سبحانه وتعالى هو وليّهم جميعا، وكانت شريعته لهم، هي الدستور الواجب اتباعه، والاحتكام إليه فيما يقع بينهم من خلاف.
فمن كان مؤمنا باللّه واليوم الآخر، استقام على شرع اللّه، ووقف عند حدوده، وخضع لحكمه.
وفى قوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} إشارة إلى أن الرجوع عند الخلاف إلى ما قضى به كتاب اللّه وسنة رسوله، هو الطريق المأمون، الذي يسلم المختلفين إلى يد الوفاق والسلام، حيث كان احتكامهم إلى أحكم الحاكمين، الذي يحكم بين عباده بالحق، فلا ميل مع هوى، ولا محاباة لكبير أو عظيم، لأن الخلق خلقه، والناس عبيده، لا تفاضل بينهم عنده إلا بالتقوى!

.تفسير الآيات (60- 63):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)}.
التفسير:
ما تكاد الآيات القرآنية الكريمة ترفع يدها الآخذة بمخانق اليهود، وما يكاد اليهود يلتقطون أنفاسهم اللاهثة من تلك المطاردة العنيفة التي تلهب فيها آيات الكتاب الكريم ظهورهم بسياط ملتهبة من الفضيحة والخزي- ما كان ذلك يحدث حتى تعود إليهم الآيات الكريمة مرة أخرى، فتعيد معهم سيرتها الأولى، حتى تتقطع أنفاسهم.. إنها تلقاهم بعذاب أشبه بعذاب الآخرة، الذي يتبدل فيه المعذّبون جلودهم بجلود غيرها، كلما نضجت.. كما يقول اللّه تعالى: {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ}.
وهنا في هذه الآيات، يفضح اللّه اليهود ونفاقهم، إذ يجيئون إلى النبيّ في صورة المؤمنين به، كما أنهم مؤمنون بما في أيديهم من الكتب السماوية.
ثم هم مع هذا لا يرضون بالاحتكام إلى القرآن أو التوراة والإنجيل، وإنما يحتكمون إلى ما عندهم من ضلالات ومفتريات.. {يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} وهو مجمع الباطل والضلال.. {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} إذ لا يجتمع إيمان باللّه وبكتبه، مع الاطمئنان إلى الطاغوت والولاء له..!
إن هؤلاء المنافقين إنما يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.. وإنه إذا كانت أفواههم تردد كلمات الإيمان باللّه، والولاء لرسوله، فإن قلوبهم منطوية على إيمان غير هذا الإيمان، وسرائرهم منعقدة على ولاء غير هذا الولاء.. إيمان بالجبت، وولاء للطاغوت: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} حيث يتصادم ظاهرهم مع باطنهم، ويغلب نفاقهم على إيمانهم، فيفرون من بين يدى هذه الدعوة التي يدعون فيها إلى الاحتكام إلى ما أنزل اللّه، وإلى ما يقضى به الرسول.
وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً} تنديم لهؤلاء المنافقين بما يجرّ عليهم النفاق من شر وشؤم. وأن عاقبة هذا الالتواء الذي تجرى عليه حياتهم إنما هو الخزي والخذلان.. وأنهم حين يحيق بهم مكرهم السيء، واحتكامهم إلى غير كتاب اللّه ورسول اللّه، يفزعون إلى الرسول بوجوه وقاح لا حياء فيها، ويحلفون- كذبا- ما أردنا فيما فعلنا من الاحتكام إلى غيرك إلّا معالجة الأمر على الوجه الذي نبغى به حسم الخلاف، والصلح بين المتخاصمين! وهذا عذر غير مقبول منهم، لأنهم لم يأخذوا طريقهم الذي سلكوه عن اجتهاد، وإنما كان عن خلاف متعمّد للرسول، ومنابذة له.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ}.
إشارة فاضحة لهؤلاء المنافقين، ممسكة بهم وهم متلبسون بنفاقهم.. وهذه الإشارة تكاد تكون يدا آخذة بناصية كل منافق من هؤلاء المنافقين، يجد كل منافق مسّها، ويستشعر اشتمالها على وجوده.
وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} دعوة للنبى الكريم بالإغضاء عنهم، وترك مماراتهم والجدل معهم.. وذلك هو سبيل النبيّ في موقفه من أهل الجدل والمراء، في كل حال يلتقى فيها مع أصحاب النفوس المريضة، والطبائع السقيمة، حيث ينصح له اللّه سبحانه بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [199: الأعراف].
وقوله تعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً} استيفاء لرسالة الرسول، واستكمال لكمالها.. حيث لا تترك هؤلاء المرضى الذين يأبون أن يستطيّوا لدائهم، وأن يتناولوا ما يقدم لهم من دواء، بل إن واجب الرسالة أن تبالغ في النصح لهم، وألا يحجزها هذا الضلال الذي يتخبطون فيه عن أن تسمعهم كلمات اللّه، وأن تشقّ طريقها إليهم من خلال هذا الضباب الكثيف المنعقد على بصائرهم، وبهذا تقوم الحجة عليهم، وتنقطع أسباب معاذيرهم.. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [42: الأنفال] وفى هذا ما فيه من رحمة اللّه، وما تحمل رسالة الإسلام من خير عميم للناس، تسوقه إليهم من كل وجه، وتلقاهم به في كل سبيل، حتى ولو كانوا على طريق الضالين، المعاندين.. إنها رحمة اللّه، تتلمس طريقها إلى كل قلب، وترسل شعاعها إلى كل إنسان.. {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها} [104: الأنعام].