فصل: تفسير الآية رقم (62):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (62):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}.
التفسير:
فى تعداد هذه النعم التي تفضل اللّه بها على بنى إسرائيل ما يوحى بأن فضل اللّه مقصور على جماعة بعينها من خلقه، بل ربما أثار ذلك في بنى إسرائيل شعورا بالتعالي على الناس، كما سوّلت لهم بذلك أنفسهم، وانطبع به سلوكهم في الحياة!.
وتلك ضلالة وافتراء عظيم على اللّه، فالخلق جميعا خلق اللّه، والناس كلهم عباده، خلقهم جميعا من نفس واحدة، فكيف يكون بينهم تفاضل عنده، بغير ما يستوجب الفضل، ولا فضل إلا بالعمل الذي تختلف به موازين الناس. وتتباين به منازلهم عند اللّه؟
فالذين آمنوا، أي الذين سبقوا بالإيمان ليس لهم أن يستأثروا برحمة اللّه، وأن يحجبوها عن عباده الذين لم يؤمنوا بعد- بل رحمة اللّه واسعة، وسعت كل شيء، وباب القبول للدخول في رحابه مفتوح لكل قاصد!.
فأى إنسان- على أية ملّة، وعلى أي دين- هو مدعوّ إلى رحاب اللّه، فإن استجاب، وآمن باللّه واليوم الآخر، وعمل صالحا، فله أجره عند اللّه، يوفّاه كاملا، كما يوفّاه المؤمنون جميعا، من كل أمة، ومن كل جنس! وهؤلاء المؤمنون جميعا- سابقهم ولاحقهم- لا خوف عليهم مما ينتظرهم من جزاء في الآخرة، ولا حزن لما فاتهم من طاعات حين لم يسبقوا إلى الإيمان، فالإيمان يجبّ ما قبله!. وفى هذا ما فيه من رحمة واسعة من اللّه على عباده، واستنقاذ لمن قصّروا وفرطوا، ثم أرادوا أن يلحقوا أو يسبقوا.

.تفسير الآيات (63- 66):

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}.
التفسير:
نعم ما أعظمها، وما أولاها بالتلقى بالشكر والولاء للمنعم.
ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وللصمّ أن يسمعوا؟.
طلبوا إلى موسى آية يرون اللّه فيها، فجاءتهم الآية منذرة مفزعة.
رأوا الجبل الذي بين أيديهم يتحول إلى سقف مرفوع فوق رءوسهم، لا يمسكه شيء وظنوا أنه واقع عليهم، ففزعوا إلى موسى يطلبون الخلاص والرجوع إلى اللّه، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} [17: الأعراف].
وفى قوله تعالى بعد ذلك: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} دعوة مجدّدة، بعد هذه الآية المجدّدة، إلى أن يقبلوا على اللّه، وأن يشدّوا قلوبهم إلى الكتاب الذي أنزل إليهم، وأن يذكروا ما فيه، فلعلّ ذلك يحيد بهم عن طريق الضلال الهائمين فيه، ويقيمهم على طريق الهدى الذي طالت غربتهم عنه.
ولعل هنا الدالة على الترجّى، إنما يتوجه بها إلى المخاطبين، وإلى ما عندهم من استعداد لهذا الخطاب، فهم على رجاء من القبول، أو التوقف، أو النكوص على الأعقاب.. وهكذا كل صيغة رجاء واردة في القرآن الكريم، إنما هي للمخاطبين ولموقفهم من فحوى ما خوطبوا به وليس لهذا الترجّى متوجّه إلى اللّه، الذي يرجى ولا يرجو.
والقوم هنا لم يستجيبوا لتلك الدعوة، بل تولّوا ونكصوا على أعقابهم، ولكن اللّه أمهلهم، ولم يعجّل لهم العقاب، كما وقع لأسلاف لهم من قبل.. خالفوا أمر اللّه واعتدوا في السّبت، فمسخهم اللّه قردة، وأنزلهم من مرتبة الإنسان إلى مرتبة الحيوان، فما أبشع تلك صورة وأخسّها، يعيشون في صور القرود بمشاعر الإنسان، وإدراك الإنسان، وذلك هو العذاب، ولعذاب الآخرة أخزى وأوجع!.
ولنا أن نذكر هنا، أن تحوّل هؤلاء الممسوخين من الإنسان إلى القرد يمكن أن يستأنس به في بحثنا الذي عرضناه من قبل، في خلق الإنسان وفى تطوره في الخلق، وأن الإنسان كما انتقل صاعدا من قرد إلى إنسان، كذلك ردّ نازلا من إنسان إلى قرد!.
ولعلّ في قوله تعالى: {خاسِئِينَ} ما يقوّى هذا الرأى الذي ذهبنا إليه.
إذ يقال في اللغة: خسأ الكلب يخسأه خسأ: طرده، وخسأ البصر يخسأ خسوءا: كلّ وأعيا، وخسئ الكلب يخسأ وانخسأ: انزجر وبعد، والخاسئ من الخنازير والكلاب: المبعد المطرود.
ومعنى {خاسئين} مبعدين، مطرودين من عالم الإنسان، مردودين إلى عالم الحيوان، وإلى فصيلة القردة منه، التي هي أعلى مراتب الحيوان وأول مراتب الإنسان الحيوان!.

.تفسير الآيات (67- 74):

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}.
التفسير:
وهذا موقف آخر من مواقف العنت والعناد، من هؤلاء القوم مع اللّه، ومع آيات اللّه، حيث لا تزيدهم الآيات إلا كفرا، ولا يزيدهم النور إلا عمى.
لقد قتل في القوم قتيل فادّارءوا فيه: أي اختلفوا في التعرف على قاتله، إذ رمى بعضهم بعضا به، ودفع بعضهم بعضا إلى موقف الاتهام فيه.
ولجأ القوم إلى موسى يسألونه آية تنطق القتيل باسم قاتله، وهم يريدون بهذا أولا وقبل كل شيء، امتحانا لموسى، واستيقانا من دعواه أنه رسول اللّه، وكليم اللّه!.
وتجيء آية اللّه من وراء ما يقدّر القوم، فتدور لها رءوسهم، وتضطرب لها عقولهم.
يقول لهم موسى ما أمره اللّه به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}! ويذهل القوم ويدهشون! ما للقتيل والتعرف على قاتله وهذه البقرة التي يؤمرون بذبحها؟ المسافة كما تبدو في ظاهر الأمر.. بعيدة جدا، بين السؤال وجوابه، وبين المطلوب والأسباب الموصلة إليه! ثم إنهم طلبوا آية، فهل في أن تذبح بقرة من البقر آية؟.
ويرى القوم كأن موسى يعبث بهم، فيقولون له: {أَتَتَّخِذُنا هُزُواً}؟
فيجيبهم: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} إن العبث لا يكون إلا عن جهل، ولا يقع إلا من جهّال، وهو نبى معصوم، توجهه السماء، فلا يضل ولا يهزل!! ولا يجد القوم في هذا مقنعا، ويذهب بهم جهلهم وحمقهم إلى أن البقرة المطلوبة ليست مجرد بقرة، وإنما هي على أوصاف نادرة لا تتحقق إلا فيها، حتى يمكن أن تتخلّق منها الآية التي طلبوها.. هكذا فكروا وقدّروا.
{قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} لقد جمعوا بين الجهل والسفاهة، فأبوا أن يقولوا {ادع لنا ربنا} وقالوا: {ادْعُ لَنا رَبَّكَ} وكأنه ربّ موسى وليس ربا لهم! ومع هذا فقد أجابهم اللّه إلى ما طلبوا: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ} أي هي من أواسط البقر في سنها، ليست كبيرة ولا صغيرة.. والفارض هي التي ولدت مرات كثيرة، والبكر، التي لم تلد بعد.. فهى وسط بين هذين الطرفين.
وفى قوله تعالى: {فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ} تنبيه لهم.. إن كانوا يعقلون.
أن ينتهوا عند هذا، وألا يطلبوا وراء هذه الصفات صفات أخرى.
ولكن يأبى القوم إلا أن يلبسوا بقرتهم أثوابا لا ترى على كثير من البقر.
فعادوا إلى موسى يسألونه: {ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها} وفى كل مرة يقولون {ربّك} ولا يقولون {ربّنا} ويجيبهم الرحمن الرحيم إلى ما طلبوا: {إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ولم يدعهم في هذه المرة إلى أن يفعلوا ما يؤمرون، بل تركهم وما تختار لهم أنفسهم من ركوب هذا المركب الخشن، حتى تحفى أقدامهم وتنهدّ قواهم! ويعودون إلى موسى مرة أخرى: {ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا}!! والبقر هو البقر.. يشبه بعضه بعضا، ولكنهم يريدونها بقرة لا شبيه لها.. بقرة خلقها الخالق لهذا المطلب، ولم يخلق مثلها..!
ويجيئهم أمر اللّه: {إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها} أي إنها بقرة لم يذللها العمل، بل هي بقرة بريّة مرسلة، لم تستخدم في حرث الأرض، ولا في سقى ما يحرث من الأرض، ثم هي بريئة من كل عيب يدخل عليها في أعضائها، أو في لونها: {مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها}.
وهنا يجد القوم أن بقرتهم قد لبست أوصافا لا تكاد تقع إلا في القليل النادر، فيجدّون في البحث عنها، وهم سعداء بهذا الجري اللاهث وراءها.
ويلقون إلى موسى بتلك الفرحة التي ملأت صدورهم، قبل أن يعثروا عليها {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ}!! الآن فقط! كأنه إنما كان في كل ما جاءهم به من قبل عن هذه البقرة وغيرها، ليس مما هو حق، بل باطل وعبث! {فذبحوها وما كادوا يفعلون} أي أنهم لم يكادوا يجدون بقرة على تلك الصفة، أو أنهم حين وجدوها صغرت في أعينهم، فكادوا ينصرفون عنها، ويطلبون أوصافا أخرى لبقرة غيرها! فانظر كيف يستبدّ بهم اللجاج والعناد، وكيف يوردهم لجاجهم وعنادهم موارد التّيه والضلال، ولو أنهم امتثلوا ما أمروا به من أول الأمر، وعمدوا إلى أية بقرة من البقر لكانوا قد أدوا ما أمروا به، وكفوا أنفسهم مئونة هذا العناء.
وإذ يذبحون البقرة يفتحون أعينهم وأفواههم إلى موسى قائلين له: ماذا بعد ذلك؟ ويجيئهم الجواب: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
ويضرب الميت ببعض لحم البقرة، فتعود إليه الحياة، وينطق باسم قاتله، ثم يعود إلى عالم الموتى، إلى يوم يبعثون! بقدرة اللّه قام هذا الميت، وليس للبقرة ولا لذبحها وضربه ببعض لحمها علاقة بهذه الحياة التي عادت إليه، فقدرة اللّه فوق الأسباب جميعها، ولكن مطلوب من الناس أن يعملوا، وأن يتحركوا إلى الغايات التي ينشدونها، وأن يعلموا أن الأسباب الظاهرة التي يتخذونها طريقا إلى المسببات، ليست هي العاملة في النتائج التي يحصلون عليها، فقد يقدّر المرء أسبابا يراها منتجة لثمرة بعينها، فيقع الأمر على خلاف ما قدر.. فالتلازم بين الأسباب والمسببات مرهون بإرادة اللّه، وبقدرة اللّه.
والملاحظ في هذه القصة- قصة البقرة- أن النظم القرآنى لها، قد قلب أحداثها، فقدّم ما حقه التأخير، وأخر ما من شأنه أن يقدم.. إذ أمر القوم بذبح البقرة بعد أن وقع حادث القتل، وبعد أن تراموا بالتهم فيه، ولكن- وكما يبدو من سياق النظم- أمروا بذبح البقرة أمرا يبدو كأنه لا لغاية يقصد لها، ثم أخذوا في اللجاج والتخبط إلى أن عثروا على البقرة التي استكثروا من أوصافها، وذبحوها.. وهنا، ولأول مرة- تتضح الصلة بين ذبح البقرة وهذا القتيل الذي يؤمرون بضربه ببعضها! وهذا لون من ألوان النكال بالقوم، عقابا لعنادهم وكفرهم بآيات اللّه، إذ يرمون بهذا التيه، حتى وهم في آية من آيات اللّه، لأنهم سيمكرون بها كما مكروا بغيرها مما سبقها، أو مما سيلحق بها، وهذا ما أخبر اللّه سبحانه وتعالى عنه، بعد تلك القصة مباشرة: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} إنها قلوب لا تلتقى مع الخير أبدا، ولا تنتفع به إذا هو طاف بها وطرق بابها!!

.تفسير الآيات (75- 77):

{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77)}.
التفسير:
فيما عرض اللّه سبحانه وتعالى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل، ما قد يدخل منه على الشعور بأن القوم أهل لهذه النعم، وأن اللّه قد اصطفاهم دون عباده، إذ ساق إليهم تلك النعم وغمرهم بها، ولكن الأمر على خلاف هذا، فإنه ما ذكر القرآن نعمة أنعمها اللّه على بنى إسرائيل إلّا جاء بعدها التنديد بهم والوعيد لهم، واللعنة عليهم، بسبب مكرهم بآيات اللّه، وكفرهم بنعمه، وما زالت نعم اللّه تتوالى عليهم، وما زالت نقمه تنصبّ عليهم، حتى خرجوا من عالم الإنسان إلى عالم القردة والخنازير.. وهكذا، على قدر النعم يكون الابتلاء، فمن حفظها حفظه اللّه، ومن ضيعها ضيعه اللّه!! وفى أعقاب قصة البقرة ذكر اللّه ما في قلوبهم من قسوة دونها قسوة الحجارة وبلادتها، وإنها لقسوة وبلادة أصبحت جبلّة وطبيعة فيهم، بحيث تنقلت في أجيالهم إلى أن التقت بعض ذراريهم بالدعوة الإسلامية، وبصاحب الدعوة، النبيّ الأمىّ، الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.. وإذا هؤلاء الأبناء ليسوا خيرا من آبائهم، وإنه لا مطمع في استجابتهم للدعوة الإسلامية، ولا رجاء في انتفاعهم بها.. إنهم يمكرون بآيات اللّه كما مكر آباؤهم بها.
يسمعون كلام اللّه، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، أي إنهم يحرفون عن عمد ويضلون على علم، وتلك هي قاصمة الظهر، فلو أنهم حرّفوا عن سهو أو أخطأوا عن جهل، لكان لهم وجه من العذر، ولكنهم عن عمد حرفوا، وعلى علم ضلّوا وأضلوا.
ثم إن لهم مكرا آخر مع الدعوة الإسلامية، عدا التحريف فيها، والتشويش عليها.. إنهم يلقون المؤمنين بوجه المنافقين، يقولون لهم آمنا بما تؤمنون به، وذلك منهم على سبيل الاستهزاء المتستر وراء نفاقهم المفضوح، ثم إن لهم مكرا غير هذا المكر أيضا، حين يخيل إليهم جهلهم أن دعوة الإسلام قائمة على خواء، وأنها تتلمس من خارج محيطها القوى التي تسندها وتشدّها، ولهذا فهم يتناجون ويتناصحون: ألا يتحدثوا إلى المسلمين بما عندهم من علم التوراة وأخبارها، حتى لا يتخذ المسلمون من ذلك حججا يقيمونها في وجه اليهود! وكذبوا وضلوا، فما قامت الدعوة الإسلامية إلا على الحق، فمن الحق منزلها، وبالحق نزلت، رحمة وهدى للناس!

.تفسير الآيات (78- 79):

{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}.
التفسير:
والقوم فريقان: عامة، وخاصة، أو أميون، وعلماء.. والأميون- شأنهم في كل أمة- مقودون لمقولات العلماء وأصحاب الفتيا فيهم، فإن ضلّ العلماء أو انحرف المفتون، عظم البلاء، وعمّ الخطب، فشمل الأمة كلها، ولهذا أخذ اللّه الميثاق على العلماء أن يؤدّوا أمانة ما حملوا من علم، فيفتحوا للناس طرق الهداية، ويكشفوا لهم سبل الرشاد: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ (87 آل عمران)} وعلماء بنى إسرائيل هم دعاة غواية وضلال فيهم، لا يؤدّون أمانة العلماء بينهم، بل يجيئون إليهم بالحق متلبّسا بالباطل، وبالهدى مختلطا بالضلال. {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}.