فصل: تفسير الآية رقم (84):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (84):

{فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)}.
التفسير:
وإنه ليس بعد هذا التنديد بالمنافقين، والمرجفين بالناس، وتحذير المؤمنين منهم، وإجلاء هذا الدخان المنعقد في سماء المجتمع من شائعات السوء- إلا أن يأخذ النبي طريقه الذي هو سائر فيه، بعد تلك الوقفة، التي نظّم فيها صفوفه، وعزل عنها هذا المرض المندسّ بينها، من المنافقين والمثبطين.
{فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} فهذا هو طريق النبيّ.
القتال في سبيل اللّه والاتجاه إليه بكل قوته، والعمل فيه جهد طاقته.
ولا عليه أن يتخاذل المتخاذلون، ويبطّئ المبطّئون.. إنه لا يكلّف إلا ما يملك، وهو لا يملك إلّا نفسه.
وقوله تعالى: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ} هو استدعاء سماوىّ للمؤمنين الذين صدقوا إيمانهم أن يكونوا مع النبيّ، وأن يأخذوا طريقه الذي أخذه.. وفى هذا ما فيه من تكريم لهم، ورفع لقدرهم.
وقوله سبحانه: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} هو رجاء يتعلق به النبيّ والمجاهدون معه.. فالنبىّ والمؤمنون الذين يجاهدون معه على رجاء من عون اللّه لهم، ونصرهم على أعدائهم.. وأن هؤلاء الأعداء إن كانوا أولى قوة وأولى بأس شديد، فالنبىّ والمسلمون يشدّون رجاءهم إلى قوة فوق هذه القوة، وإلى بأس أعظم من هذا البأس.. قوة اللّه، وبأس اللّه.. {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}.

.تفسير الآية رقم (85):

{مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)}.
التفسير:
فى الآيات السابقة كان الحديث عن الجماعة الإسلامية، وعن أعراض النفاق التي تظهر في بعض منها، ممن دخلوا في الإسلام، واتخذوه جنّة لهم، وقد كشف اللّه مواقف هؤلاء المنافقين، ورصد حركاتهم، وأرى النبيّ والمسلمين ما كانوا يخفونه فيما بينهم.
وفى هذه الآية يلتقى المؤمنون والمنافقون في موقف الحساب، حيث يواجه بعضهم بعضا، وحيث يذهب كل منهم بما استحق من جزاء.
وقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها} هو عرض لفريق المؤمنين، الذين سيسوّى حسابهم على حسب ما عملوا من خير، وما قدموا من إحسان.
والتعبير عن العمل بالشفاعة هنا للدلالة على أنه عمل من نوع خاص، عمل يتصل بالإنسان وبما يقع بينه وبين غيره من الناس، من تصرفات، حسنة أو سيئة.. فلا يدخل في هذا العمل ما كان خاصا بذات الإنسان، وما يأخذ به نفسه من طاعات وعبادات، محسنا أو مقصّرا، أو بما بينه وبين اللّه من معتقد، صالحا أو فاسدا.
فالشفع في اللغة: الزوج من كل شيء، وفى كل شيء.. وهو يقابل الوتر الذي هو الفرد.
والشفاعة الحسنة، هي الإحسان إلى الغير، بالقول أو بالعمل.
والشفاعة السيئة، هي الإساءة إلى الغير بالقول أو بالعمل.
وصاحب الشفاعة الحسنة له {نصيب منها} أي أنه حين يبذل من نفسه للغير، ما يبذل من خير وإحسان، فإنه له نصيبا من هذا الخير وذلك الإحسان.. فهو وإن يكن ما بذله قد خرج من سلطانه، وصار إلى غيره، فإنه سيعود إليه شيء منه، بصورة ما، من صور الخير والإحسان.. فقد يلقاه صاحبه الذي أحسن إليه بإحسان كإحسانه، وإن اختلف شكلا وقدرا.
فإن حرم المحسن العوض ممن أحسن إليه لم يحرم لذّة الإحسان، التي تشيع في نفسه الرضا، وفى قلبه الفرحة.. فإن حرم هذه اللذة- وهيهات- فإنه لن يحرم أبدا ثواب اللّه الذي أعدّه للمحسنين، إذ يقول سبحانه: {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [56: يوسف].
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ** لا يذهب العرف بين اللّه والنّاس

كذلك صاحب الشفاعة السيئة، له {كفل منها} أي نصيب يعود إليه مما عمل من سوء.. يجيء إليه ممن أساء إليهم، أو من نخسة ضميره، في حال من أحوال صحوه ويقظته.. فإن لم يكن لضميره صحوة أو يقظة- وهيهات- فهناك القصاص العادل، يأخذه اللّه به، يوم الفصل بين العباد.
وقد فرّق القرآن بين عائد الشفاعة الحسنة، وعائد الشفاعة السيئة.. فسمّى عائد الشفاعة الحسنة نصيبا وسمى عائد الشفاعة السيئة كفلا.
فما السرّ في هذا؟
نقول- واللّه أعلم- إن عائد الشفاعة الحسنة هو خير وبركة، يصيب صاحبها، وأنه إذ يقدّمها إحسانا وبرّا، فإن له من هذا البرّ والإحسان نصيبا.
وكذلك صاحب الشفاعة السيئة، إنه إذ يقدم الشرّ والسوء، سيجنى من ثمر ما زرع شرّا وسوءا! والتعبير عن عائد الخير بالنصيب هو التعبير المطلوب لغة وواقعا، لأن النصيب هنا، في اللغة: الحظ والقدر المتاح للإنسان من أي شيء، خيرا، كان أو شرا.
وقد عدل القرآن عن استعمال كلمة النصيب، في عائد الشفاعة السيئة هنا، إلى كلمة كفل التي تأتى بمعنى الضامن، والكفيل، الذي يضمن المدين الغارم، ويكفل الوفاء بالدّين، إذا عجز المدين عنه.
فالشفاعة السيئة دين ثقيل، يستنفد كل ما يملك صاحب هذه الشفاعة من خير، وهو والحال كذلك في حاجة إلى ضامن أو كفيل.. ولا ضامن أو كفيل يجرؤ على كفالة هذا المفلس وضماته.. وإذ كان لابد من ضامن أو كفيل، فكافله وضامنه، هو عائد هذا الشر الذي غرس.. فإذا طولب بقضاء دينه وهو مفلس عاجز عن قضائه، أخذ هذا العائد وفاء لبعض ما عليه، وإذا هو شر إلى شرّ، وبلاء إلى بلاء!!

.تفسير الآية رقم (87):

{وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)}.
التفسير:
التحيّة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، هي مفتاح يفتح مغالق القلوب فيهم، وأشعة دافئة تذيب الثلج وتدفع الضباب الذي بينهم.. ولهذا كانت عرفا ملتزما في مختلف الأمم، والشعوب، على مدى الأزمان.
وهى في الإسلام، خير يتهاداه الناس، وبرّ يلقى به بعضهم بعضا.. من قبض يده عن بذله، أو كفّها عن أخذه، فقد فاته حظه من هذا الخير، وحرم نصيبه من هذا البرّ.
وقد أخذ الإسلام المسلمين بهذا الأدب الإنسانى، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام، وأوجب على من بدأه أحد يتحية، أن يتقبلها بقبول حسن، وأن يردّها بتحية مثلها، أو خير منها.. إذ كان الذي بدأ بالتحية، قد بدأ بفضل وإحسان، ورد التحية بمثلها قضاء لقرض حسن، فلا حمد لمن أدّى ما اقترض.
والحق يقتضيه أن يشكر لمقرضه، ويثنى عليه.. ومن حق البادئ بالتحية أن يردّ عليه بأحسن مما بدأ به.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ}.
ومقابلة الإحسان بالإحسان ليست جزاء له، وإنما هي وفاء له، والجزاء يكون بمقابلة الإحسان بما هو أحسن من هذا الإحسان.
والتحية الطيبة بين المسلمين هي من الشفاعة الحسنة التي أشارت إليها الآية السابقة.. وهى وجه من وجوه تلك الشفاعة.
وتحية الإسلام، هي كلمة: السّلام مشتقة من الإسلام، يلقى بها الإنسان أخاه قائلا: السلام عليكم فيلقاه أخوه بها قائلا: وعليكم السلام ورحمة اللّه.
وفى هذا الجوّ الذي تتردد في جنباته كلمات السلام، تفيء النفوس إلى السّلم، وتهفو إلى العافية، وتستروح روح المودة والإخاء.
وإذ يأخذ المسلمون أنفسهم بهذا الأدب الإسلامى، وإذ تشيع بينهم هذه الكلمة الطيبة الرائعة، وإذ ينطق بها من نطق عن وعى ويقظة، وإذ يتلقاها من تلقّى عن إدراك وفهم، فإنك لن تجد في مجتمع يتخذ هذه الكلمة شعارا ودثارا- قلبا يحمل بغضة، أو صدرا ينطوى على عداوة، وإنه لا شى إلا المودة والحب والسلام.
وإذا كان الإسلام قد آثر كلمة السّلام لما يشعّ منها من المعاني الكريمة الطيبة، التي تقتل جراثيم العداوة والبغضة، فإنه- مع هذا- يتقبل أية تحية طيبة يتبادلها الناس، ويتوسمون فيها سمات الخير والإحسان.. ولهذا جاء قوله تعالى: {وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها} غير مقيد التحية بقيد مخصوص، ولا واقف بها على صورة خاصة، ليتيح للناس من التحايا ما يغذى عواطف الأخوة والمودة بينهم، سواء أكانت تلك التحية لفظة ملفوظة، أو حركة معبّرة، أو إشارة دالة، أو إماءة موحية.. إذ لا يعنى الإسلام من هذا إلا الأثر المترتب عليه، ولا يعنيه شيء ممّا يظهر فيه من صور وأشكال. وإن كانت كلمة السلام هي تحية الإسلام، وشارة المسلمين.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} إشارة إلى أن هذه التحية حق من الحقوق الواجب بذلها، كما أنها حق من الحقوق الواجب أداؤها إلى أصحابها.. وأداؤها يكون بقبولها، وردّها بأحسن منها! وأن اللّه سبحانه حسيب على كل شيء.. يضبطه، ويجازى عليه! ومع أن التحية مجرد كلمات قليلة متبادلة بين الناس والناس، لا يتكلف لها الناس جهدا، ولا ينفقون في سبيلها مالا إلّا أن كثيرا من الناس يضنّون بها، ويمسكون ألسنتهم عنها، ولا يعدّونها معاملة كريمة يتعاملون مع الناس بها، أخذا أو إعطاء!! وذلك لا يكون إلا عن نفس مريضة، وطبع لئيم.. إذ أنه ليس في باب الإحسان مثل التحيّة، في خفّة محملها، وقلة مئونتها، مع كثرة محصولها، وطيب ثمرها.. وليس في الناس أخسر صفقة، وأنكد حظّا ممن لا يحصّل هذا الخير الكثير، الذي يجيء إليه صفوا عفوا.
من غير ثمن!! وقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} هو تعقيب على تلك الدعوة الكريمة التي دعا اللّه المسلمين إليها، وهى تبادل الإحسان والمعروف بينهم، ولو بالكلمة الطيبة، وهى التحية.
وفى هذا التعقيب، يتجلّى اللّه سبحانه وتعالى متفردا بألوهيته، لا يملك أحد مع اللّه شيء.. وهو بهذا التفرد قائم على عباده، يجمعهم إليه يوم القيامة، ليجزى كل نفس بما كسبت.. ذلك أمر لا شك فيه، قد أخبرنا اللّه به في كتبه، وعلى لسان أنبيائه.. {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً}.

.تفسير الآية رقم (88):

{فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)}.
التفسير:
النفاق أخبث نبتة وأشأمها، تنبت في كيان المجتمع، وتغتال أيّة رقعة من أرضه.
والمنافقون هم أخبث داء وأقتله، إذا تسلّطوا على مجتمع، وأوجدوا لأنفسهم مكانا فيه.
ولقد ابتلى المسلمون- شأنهم شأن كل مجتمع- بالنفاق وبالمنافقين، الذين كانوا عدوا خفيا، يظاهر العدوّ الظاهر، الذي يلقاه المسلمون في ميدان القتال! وإذا كانت سيوف المسلمين قد عرفت طريقها إلى رقاب المشركين والكافرين، وأخذت بحقّها منهم، فإن أمر المسلمين مع المنافقين كان على خلاف.. حيث يظهر فيهم المنافق بأكثر من وجه، فلا يدرون على أي وجه يتعاملون معه، ولا على أي وجه يأخذونه.. فهو مسلم في ظاهره.. مشرك، أو كافر، في باطنه..!
وإذا أتيح للمسلمين أن يروا من المنافق هذا الظاهر الذي يعيش فيه معهم، فمن لهم بأن يروا منه هذا الباطن الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب؟
وهنا موطن الحدس، والتأويل، ومكمن الخطر والحرج!! وفى عهد النبوة كشف اللّه سبحانه للنبى وللمسلمين عن كثير من المنافقين، وفضح لهم باطنهم، وعرضهم على الملأ عرضا فاضحا، بأعيانهم، وأسمائهم.
فلم يكن أمرهم بعد هذا خافيا على أحد.. ولكن مع هذا ظل بعض المسلمين مترددا في كثير منهم، لما يبدو على ظاهرهم من سراب خادع، من الصلاح الزائف، والتقوى، الكاذبة.
فجاء قوله تعالى: {فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ}؟ قاضيا على هذا التردد، قاطعا كل شك.. فلا ينبغى بعد هذا أن يكون المؤمنون على رأيين في المنافقين، وإنما هو رأى واحد لا خلاف عليه.. وهو أن هؤلاء المنافقين، منافقون، قولا واحدا، وأن على المسلمين جميعا أن يعاملوهم معاملة المشركين والكافرين، وأن يحذروهم حذر المنافقين والمشركين.
وقوله تعالى: {فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ} هو استفهام إنكارى، أن يكون المسلمون فريقين في أمر المنافقين، فريقا يحذرهم ويتخذهم عدوا، وفريقا آخر يقف منهم موقف التردد والترقب، تمحيصا لما في قلوبهم، واختبارا لما في صدورهم.. وذلك ما ينكره اللّه سبحانه على هذا الفريق، الذي وقف من هؤلاء المنافقين هذا الموقف المتردد.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا} هو توكيد قاطع لما حكم اللّه به هو على هؤلاء المنافقين، وأنهم أهل ضلال وفساد، لا يرجى لهم صلاح أبدا.. فقد أقامهم اللّه على هذا النفاق، ودمغهم به، بسبب ما كان منهم من مكر بآيات اللّه، والتواء على صراطه المستقيم، وتلاعب بشرعه القويم! وقوله تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} استفهام إنكارى أيضا، على تلك الفئة من المسلمين التي لا تزال تحت تأثير هذا الخداع الذي يلوح لهم من قبل المنافقين، ويتوقعون من جهتهم الخير والصلاح.. وكلا، فقد أضلّهم اللّه.. فهل في الناس من هو قادر على أن يهدى من أضله اللّه؟ {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}.
فإنه لا سبيل له غير هذا السبيل الذي سلكه، سبيل النفاق، الذي سيمضى فيه إلى غايته، التي تنتهى به إلى جهنم وبئس المهاد.

.تفسير الآيات (89- 91):

{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)}.
التفسير:
يعيش المنافق في صحبة شعور مزعج، وهو أنه يحمل جريمة، يحاول إخفاءها عن الناس، ولكن عيون الناس تتبعه حيث كان، تبحث عن هذا الشيء الذي يخفيه، ويبالغ هو في ألا يراه أحد.. هكذا هو أبدا مع هذا الشعور المتسلط عليه.
وقد يكون الناس في غفلة عنه، وفى غير التفات إليه، ولا مراقبة له، ومع هذا فإن الجريمة التي يحملها معه، لا تدع له سبيلا إلى الاطمئنان والهدوء، بل تراه دائما على حذر، يرصد الناس، ويسترق النظر إليهم، بل يكاد يسألهم:
عمّ يبحثون؟ وماذا يريدون؟ وما هي الجريمة؟ ومن المجرم؟.. وفيه يصدق المثل الذي يقول: يكاد المريب يقول: خذونى!
إن المنافق أشبه بمجرم في قفص الاتهام.. والمجتمع الذي يعيش فيه هو الذي يحاكمه، ويحاصره، ويأخذ عليه كل سبيل للإفلات من تلك النظرات المتهمة له، الفاضحة لجرمه.
ومن هنا يقوم في كيان المنافق شعور آخر، يواجه به شعور الخوف والقلق الذي يستولى عليه، من إحساسه بمراقبة الناس له، واطلاعهم على خبيئة أمره، وفضحهم لخفىّ نفاقه- هذا الشعور الآخر، هو الرغبة في أن يرى الناس جميعا من حوله، صورة منه.. فلا يلقون أنظارهم إليه، ولا يلتفت هو إليهم، ولا يحاول أن يستر فعلته عنهم، إذ كانوا جميعا على شاكلته.
فإن المجرم بين المجرمين، لا يستحى أن يكشف عن جرائمه، بل وربما بالغ فيها، ليرى أصحابه منه أنه عريق في الإجرام، يستأهل مكان الصدارة في المجرمين! ومن هنا كان المنافقون يسعون دائما إلى إفساد المؤمنين وإغوائهم، وتزيين النفاق لهم، وتحبيب الكفر إليهم، ليكونوا معهم في هذا البلاء، وليقتسموا المحنة التي يعيشون بين المجتمع فيها! وفى قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً} ما يكشف عن هذا الشعور الذي يحرك المنافقين إلى إفساد المؤمنين، ليؤنسوا وحشتهم، وليفكوا قيدهم الذي يمسك بهم في محيط محدود لا يتجاوزونه! حتى إذا امتلأت الأرض نفاقا، كان لهم أن يسرحوا ويمرحوا كيف يشاءون، وأن يظهروا ما ستره النفاق منهم، من كفر وإلحاد.. ولهذا جاء التعبير القرآنى:
{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا} بديلا مما يقضى به الظاهر وهو: ودوا لو تنافقون كما نافقوا، لأن النفاق يستر وراءه الكفر.. فجاء التعبير القرآنى فاضحا هذا الكفر المستتر وراء النفاق.
وقوله تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} هو تحذير من اللّه للمؤمنين أن يوالوا هؤلاء المنافقين، وأن يأمنوا جانبهم، ماداموا في موقفهم الذي اتخذوه من المؤمنين.. فإن تحوّلوا عن هذا الموقف، وانحازوا إلى جماعة المؤمنين، وخالطوهم، وأخذوا مأخذهم في الحياة، واستقاموا على طريقهم، وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه- إن هم فعلوا ذلك كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم، وكان على المؤمنين ضمّهم إليهم، وجمعهم معهم.. فإن أبوا إلا أن يظلوا في هذا الموقع المنحرف بين المؤمنين والكافرين، وجب على المؤمنين أن يعاملوهم معاملة العدوّ الراصد.. إذا وقعوا لأيديهم في معركة كان جزاؤهم القتل، وإن لم تصل إليهم يد المؤمنين بالقتل، كان على المؤمنين أن يتجنبوهم، وأن يحذروهم، فلا يقبلوا منهم قولا، ولو جاء في صورة النصح، ولا يستنصروا بهم في حرب، ولو أحاط بهم العدوّ.
وقوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ} هو استثناء من تلك المقاطعة التي أوجبها الإسلام على المسلمين في مواجهة المنافقين.
فإنه إذا انحاز هؤلاء المنافقون إلى جماعة- غير مؤمنة- بينها وبين المؤمنين ميثاق، بالموادعة والمسالمة- لم يكن للمؤمنين أن يمدّوا أيديهم بأذى إلى هؤلاء المنافقين، لأنهم صاروا في ذمة تلك الجماعة التي وادعها المسلمون وسالموها! وفى العدوان عليهم عدوان على تلك الجماعة، ونقض للميثاق الذي عقده المسلمون معهم، ووجب عليهم الوفاء به! وقوله تعالى: {أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ} هو عطف على المستثنى السابق.. يبيّن حكم جماعة أخرى من المنافقين جاءوا إلى المسلمين يطلبون الموادعة والمسالمة، وهم مقيمون حيث هم في قومهم الذين لم يدخلوا في الإسلام.. فهؤلاء المنافقون، قد كفّوا أيديهم عن المسلمين طلبوا الأمان منهم، وانحازوا جانبا.. لا يقاتلون المسلمين مع قومهم، ولا يقاتلون قومهم مع المسلمين.. فهم- والأمر كذلك- فتنة نائمة، وشر ساكن.. ومن مصلحة المسلمين- وهم في وجه عداوة وحرب- ألّا يحركوا هذا الشرّ، وألا يوقظوا تلك الفتنة.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ} يبيّن الحكمة من موادعة هؤلاء المنافقين ومسالمتهم.. إذ كان من المتوقع أن يكونوا حربا على المسلمين مع قومهم، وأما وقد كفّوا أيديهم واعتزلوا الحرب، فلم يكونوا هنا أو هناك، فإن موادعتهم كسب للمسلمين، وإضعاف لقوة عدوّهم، وفتح ثغرة في صفوفهم.. ربما كانت مدخلا يدخل منه كثيرون، ممن يعتزلون حرب المسلمين ويكفون أيديهم عنهم.
وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} هو تنبيه للمسلمين إلى أخذ الحذر والحيطة من هؤلاء المنافين، الذين قد يغلب عليهم طبعهم، فلا يمسكون بالعهد الذي عاهدوا المسلمين عليه، والذين ربما لو رأوا كفة قومهم هي الراجحة مالوا إليهم، وقاتلوا معهم، غير ملتفتين إلى عهد أو ميثاق.. ومن هنا كان على المسلمين أن يقيموا عهدهم معهم على هذا المفهوم، وأنه عهد غير مطلق، وإنما يوثقه أو ينقضه ما يكشف عنه واقع الحال من هؤلاء المنافقين، فإن استقاموا استقام لهم المسلمون، وإن نكثوا فلا عهد لهم عند المسلمين ولا ذمّة.
وقوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها} بيان لما تكشف عنه التجربة من أمر هؤلاء المنافقين، وأن جماعة منهم، ركبها النفاق، وغلب عليها حكمه، فلم تكن موادعتها للمسلمين إلا ضربا من ضروب النفاق، تريد به أن تضمن السلامة والعافية، وأنه إذا انتصر المسلمون على قومهم، كانوا هم بمأمن مما يجرى على قومهم من حكم الإسلام فيهم، من قتل، وسبى، ومغنم.. وإذا انتصر قومهم، كان لهم من صلتهم بهم وقرابتهم لهم، ما يدفع عنهم بأسهم، وضرهم.
فهذه الجماعة من المنافقين إن لم تتحرر من نفاقها، وإن لم تقم أمرها على وجه واحد مع المسلمين، كان على المسلمين أن يأخذوهم بما يأخذون به أعداءهم، لأنهم مخادعون، مضللون، يتخذون من خداعهم وتضليلهم جنّة يدفعون بها ما يتوقع من المسلمين من نصر، وما وراء هذا النصر من بأساء وضراء تحيط بهم!