فصل: تفسير الآية رقم (102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (102):

{وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)}.
التفسير:
يبين اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية حكم الصلاة مع النبيّ في ميدان القتال.. وإنها لصلاة مراعى فيها الحذر والحيطة من مباغتة العدو، وانتهاز الفرصة في المسلمين، وهم بين يدى اللّه في الصّلاة.. فتلك فرصة للعدوّ، لا يدعها تمر، خاصة إذا ألقى المسلمون أسلحتهم، وفرغوا للصلاة، يؤدونها كاملة، بركوعها وسجودها، وعدد ركعاتها.
وإذا علم المشركون أن المسلمين يؤدون صلاتهم في الحرب كما يؤدونها في السلم، فإنهم سيرصدون الوقت الملائم للهجوم عليهم، وهم في تلك الحال التي أخلو فيها أنفسهم من الحرب، واتجهوا للّه بقلوبهم وأجسامهم! لهذا شرع اللّه للنبىّ أن يصلّى بالمسلمين على هذا الوجه الذي بيّنته الآية الكريمة، وهو أن يقيم النبيّ الصلاة، وأن تجيء طائفة من المؤمنين لتصلى مع النبي، ومعها أسلحتها، وتبقى طائفة أخرى ترصد العدوّ، وتتلقى صدمته الأولى إن هو حاول الهجوم، وعندها تكون الجماعة التي تصلى مع النبيّ قد وضعت يدها على سلاحها وخفّت لنجدة إخوانهم المشتبكين في الحرب، وبهذا لا يأخذ العدو فرصته! فإذا صلّت الجماعة الأولى الركعة الأولى من الصلاة سلّمت ومضت، لتأخذ مكان الجماعة التي لم تصلّ، ثم لتأت هذه الجماعة وتأخذ مكانها في الصلاة خلف النبيّ، آخذة حذرها وأسلحتها، وليصلّوا الركعة الثانية، التي بها يختم النبيّ بها صلاة السفر.
وقوله تعالى: {وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ} تنويه بشأن المؤمنين المجاهدين في سبيل اللّه، حيث تشير كلمة {فيهم} إلى إحاطة المسلمين بالنبيّ، والتفافهم حوله، حتى كأنهم الظرف الزمانى والمكانىّ له، وحتى كأن مشاعر النبيّ الكريم ونفحاته تملأ هذا الظرف، زمانا ومكانا، بأضوائها، وأنوارها.
وقوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} هو استثناء من الأمر الوارد في قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}.
فهذا الأمر ليس على إطلاقه، وليس على سبيل الوجوب، وإنما هو للنصح والإرشاد، وأن للمجاهدين أن يتحلّلوا منه، وأن يضعوا أسلحتهم، إذا كان بهم أذى من مطر، أو كانوا في حال ضعف.. فإن وضع الأسلحة في تلك الحال فرصة لهم لتجديد نشاطهم وقوّتهم.. والأمر في هذا كله متروك للحال التي عليها المجاهدون، ولتقديرهم للموقف، وأن لهم أن يأخذوا منه ما يرون، وأن يدعوا ما يرون، والمهمّ في هذا كله أن يكونوا على حذر، وأن يقدّروا الموقف بهذا الاعتبار، وأنهم في وجه عدوّ لا يتورع أن يبغتهم وهم بين يدى اللّه، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} مختتما هذا التوجيه، الذي يقوم أولا وآخرا على أخذ الحيطة والحذر من هذا العدوّ الراصد المتربص! وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً} تعزية للمسلمين، وتسلية لهم من هذه الأحوال التي يلبسونها من هذا العدوّ، الذي لا يوقّر حرمات اللّه، ولا يرعى للمسلمين حرمة فيها، بل إنه يتخذها ذريعة للنيل من المجاهدين، والتنكيل بهم.. فليحتمل المجاهدون هذا الموقف، الذي يجمعون فيه بين أداء الصلاة، والجهاد في سبيل اللّه.. فإن اللّه قد أعدّ لهم الكرامة والرضوان، على حين أعد لعدوّهم العذاب والهوان.
هذا، وللقائد الذي يقوم على أمر المسلمين في الجهاد ما للنبىّ في هذا الموقف، حيث يصلى بالمسلمين الصلاة للّه، على هذا الوجه الذي شرعه للنبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه.

.تفسير الآية رقم (103):

{فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)}.
التفسير:
فإذا أمن المجاهدون هجمة العدوّ عليهم، وبعدت يده عن أن تنالهم، رجع المجاهدون إلى حالهم الأولى من إقامة الصلاة على وجهها، وعلى إعطاء كل جوارحهم للّه، وذكر اللّه.. فيذكرونه قائمين، وعلى جنوبهم، ذكرا متدبرا متفكرا، فليس هناك شيء يشغلهم عن اللّه، وعن التفكر والتدبّر في ملكوت اللّه، وملء قلوبهم خشية لجلاله، وعظمته.
وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً} هو تنويه بشأن الصلاة، وأنها فرض لازم، لا يتحلل منه المسلم بحال أبدا.
فهى كتاب موقوت، كتبه اللّه على المؤمنين، أي فرضه، وحدّد لكل صلاة وقتها، الذي هو الظرف الحاوي لكل صلاة.
ومن هنا كان رأى بعض الفقهاء أن الصلاة إذا لم تصلّ في وقتها، لا يمكن جبرها بإعادتها في وقت آخر.. كالحج الذي لا يؤدّى إلا في وقت معلوم، وكالصوم في رمضان.. وأنه إذا كان للمفطر في رمضان بعذر مشروع أن يجبر الأيام التي أفطرها بصوم مثلها، أو بإطعام مسكين، على حسب ما هو مبين في أحكام الصوم- فانه ليس للمصلّى مثل هذا الذي للصائم، إذ كان للصائم المفطر عذر يقوم له، على حين أنه ليس للمصلّى أي عذر يبيح له أن يدع الصلاة حتى يفوت وقتها، فقد جعل اللّه الصلاة كتابا موقوتا، وقطع المعاذير فيها على كل ذى عذر.
وعذر واحد هو الذي تسقط فيه الصلاة، وهو ما تكون عليه المرأة في حال الحيض والنفاس، وهو عذر مسقط للصلاة عنها في هذه المدة إسقاطا كاملا، فلا تعيد مافاتها من صلاة!!

.تفسير الآية رقم (104):

{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)}.
التفسير:
وحيث لا يزال المؤمنون هنا في مواقع الجهاد، فقد جاء قول اللّه تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ} دعوة من اللّه، تستحثّ عزائم المسلمين، وتوقظ مشاعرهم للجهاد في سبيل اللّه، بعد أن طال وقوفهم في هذا المقام، وما واجهوا فيه من شدائد وأهوال.. وابتغاء القوم: هو طلبهم، ولقاؤهم في ميدان القتال.. والوهن الضعف، أي ولا تضعفوا ولا تفتروا في طلب العدو الذي يطلبكم للقتال.
ونعم.. إن أعباء الجهاد ثقيلة، ولكنها على نفس المؤمن أخفّ وأهون مما هي على غير المؤمنين.
فالكافرون يجدون من أهوال الحرب، وشدائدها ما يجد المؤمنون، ولكن المؤمنين يستعذبون هذا المورد، الذي يفتح لهم طريق الرحمة، وينزلهم عند اللّه منازل الرضوان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ}.
فالمؤمنون في قتالهم العدو يقاتلون وهم على شعور بأنهم إن كتب لهم النصر رجعوا بالسلامة والغنيمة، وإن كتب لهم الاستشهاد ظفروا بما عند اللّه للشهداء من رضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. إنها إحدى الحسنيين للمجاهدين: النصر أو الاستشهاد.. وليس للعدو إلّا واحدة منهما.. وهى النصر، أو الموت على الكفر! وقد يقال: إن الكافرين يقاتلون ومعهم هذا الشعور بأنهم على الحقّ، وأنهم إنما ينتصرون لمبدأ، وأنهم إذا فاتهم النصر لم يفتهم الموت في سبيل المبدأ! والجواب على هذا، هو أن الخطاب هنا للمسلمين، وأنهم على يقين من أمرهم وأمر عدوّهم، وأنه يكفى هنا أن يدرك المؤمنون هذه الحقيقة وأن يستحضروها، وأن يقاتلوا عدوّهم عليها، ولا عليهم ما يعتقده عدوهم فيهم أو في نفسه! وإن أي حال يكون عليها العدوّ لن تبلغ الحال التي يكونون هم عليها، من وثاقة الإيمان باللّه، والثقة فيما عنده لهم عن حسن الجزاء، وعظيم الثواب!

.تفسير الآيات (105- 106):

{إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ} هو بلاغ مبين لما بين يدى النبيّ من آيات اللّه، وما فيها من حق، وأن هذا الحق الذي بين يديه، هو رحمة وهدى للناس، وما كان هذا شأنه فلا يكون سببا في ضر أو أذى.. شأن الطبيب الذي يحمل إلى الأجسام الدواء، يبغى سلامتها وعافيتها..!
وفى الناس الظالمون، الخائنون، الذين يمدون أيديهم إلى الناس بالبغي والعدوان، ثم إذا جيء بهم إلى ساحة القصاص رموا بما في أيديهم من ظلم وبغى على غيرهم من الأبرياء، وجاءوا إلى ذلك بالزور والبهتان، وبشهود الزور والبهتان.
وموقف النبيّ الكريم مع هؤلاء المبطلين، هو أن يحكم فيهم بما أراه اللّه، وبما في يديه من كتاب اللّه، وأن يستمع إلى طرفى الخصومة، دون أن يكون خصيما، أي معاديا لأىّ من الطرفين، حتى ولو استبانت خيانة الخائن، وظهر بهتانه.. إنه- مهما كان جرمه- لا يؤخذ بغير الجزاء الراصد لجريمته، عند ما تثبت إدانته.. فلا يقف منه القاضي موقف العداء، الذي قد يميل به إلى الجور على هذا المتهم، وتجاوز الحدّ في العقاب الذي يستحقه! وانظر كيف تدبير الإسلام في حمايته للإنسان، ودفع الظلم عنه، حتى وهو الظالم الأثيم.. ذلك أن الظلم لا يدفع بالظلم، وإنما الذي يدفعه هو تحقيق العدل، وأخذ الظالم بظلمه، دون مجاوزة حدود اللّه فيه.
وإذ كان الظالم المفترى على اللّه وعلى الناس الكذب- في وجه البغضة والكراهية من الناس، وخاصة عند من يقومون على العدل، ورفع المظالم، الأمر الذي قد يحمل ولىّ الأمر على التنكيل به، والمبادرة إلى إلقاء ثقل التهمة كلها عليه، دون مراعاة للظروف المخففة، التي لو نظر فيها ولىّ الأمر نظرة لا تحمل العداوة والشنآن، فربما كان ذلك مما يمسك به عن الجور ومجاوزة الحد،- نقول: إذ كان الظالم الخائن لأمانة اللّه ورسوله والمؤمنين، في وجه هذه العداوة- فقد كان من تدبير الشريعة الإسلامية، وحكمتها، أن تحمى هذا المجرم من الجور، وأن تأخذه بحكم اللّه فيه.. ولهذا جاء قوله تعالى للنبى الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً} جاء هذا القول من ربّ العالمين، لرسوله الكريم، دستورا في القضاء بين الناس، والفصل في المنازعات التي تحدث بينهم.
وهو أمر يلتزم به ولىّ الأمر، القائم على القضاء بين المتخاصمين- جانب الحيدة المطلقة، وأن يخلى نفسه من كل ما يندسّ إليها من مشاعر البغضة والعداوة للمذنب، الذي ينتظر جزاء ذنبه.. وأنه إذا كان لولى الأمر أن ينكر المنكر وأن يأخذ أهله بالقصاص، فإنه ليس له أن يكون خصما للمجرم، المذنب، وهو قاضيه، والحاكم عليه.. إذ لا يتفق أن يكون الإنسان خصما وحكما في وقت معا.. والشاعر العربي يقول:
يا أعدل الناس إلا في معاملتى كيف الخصام وأنت الخصم والحكم؟
إن ذلك لا يتفق أبدا! حتى في مقام النبوة، وبين يدى النبيّ..! {وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً} فكيف بغير النبي من عباد اللّه؟
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً}.
هو دعوة إلى طلب المغفرة من اللّه، لما يكون قد طاف بالنفس من مشاعر العداوة والشنآن لأهل السوء الذين أخذوا بذنبهم، وربما كان لذلك أثره في الشدة عليهم، وسدّ كل منافذ التسامح دونهم، فيما كان يمكن أن يحمل على التسامح! وهذا الأدب السماوي للنبى الكريم تأديب لنا، وتحذير من الجور في القضاء، وحراسة للنفس من الدوافع التي تدفع بها إلى الانحياز إلى جانب أحد المتخاصمين، وهو المعتدى عليه، والشدة المجاوزة للحدّ على المعتدى.

.تفسير الآيات (107- 109):

{وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)}.
التفسير:
فى الآيات السابقة كان التوجيه السماوي إلى النبيّ- ومن ورائه المسلمون جميعا- ألّا يكون خصيما وعدوا لمن تظهر خيانتهم، وينكشف جرمهم، في مجلس الفصل في الخصومات، وفى هذه الآيات، يجيء التوجيه السماوي متمما لتلك الصورة، ضابطا الوجه المقابل لها.. وهو ألا يقف من الخائنين وأولى التّهم موقف الدفاع، الذي يجادل عنهم ويلتمس المعاذير لهم..!
فإذا كان العدوان من ولىّ الأمر على الظالم الآثم أمرا تنكره الشريعة، فتفرض حماية على الظالم المعتدى، حتى لا يجاوز بعقابه الحدّ المرصود لجريمته- فإن الميل مع الظالم الآثم، والتماس المعاذير لجريمته، ابتغاء التخفيف عنه، لا يقلّ في نظر الشريعة نكرا عن الأمر الأول، لأن في هذا عدوانا على حق اللّه، وتعطيلا لحدوده! وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ}.
هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يدبرون السوء، ويؤامرون أنفسهم وأصحابهم على المنكر، في خفاء، وحذر، بعيدا عن أعين الناس، حتى لا ينكشف أمرهم، وينفضح حالهم، ويفسد تدبيرهم.
ولكن أين يذهب هؤلاء الذين أخفوا مكرهم السيّء عن الناس؟ إنهم إن استخفوا من الناس فلن يستخفوا من اللّه، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.. فهو- سبحانه- {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ}.
وهو سبحانه: {مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ}.
! إنهم في سكرة يعمهون.. يحسبون أنهم- وقد استخفوا عن الناس- قد غاب أمرهم عن اللّه، وأنهم وقد أفلتوا من يد الناس- لن تمسك بهم يد اللّه! وكلّا، فإن عين اللّه لا تغفل، وإن ما بيّتوه من سوء قد سجله اللّه عليهم، وسيأخذهم به.. {وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}.
وقوله تعالى: {ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}.
هو استدعاء لأولئك الذين يتولّون الظالمين، ويمكنون لهم من إمضاء مكرهم السيّء، وتغطية ما ينكشف عنه، وذلك بالدفاع عنهم، وتبرير أعمالهم المنكرة، والتماس التأويلات الكاذبة لها.
فهؤلاء الذين يقومون وراء الظالمين هم شركاء لهم في هذا الجرم.. وهم مدعوّون معهم إلى ساحة المحاكمة والقصاص بين يدى أحكم الحاكمين! وفى هذا الموقف تخرس ألسنة هؤلاء الأولياء المدافعين عن الظلم والظالمين.. ويتعرّى أولئك الظالمون من كل قوة تدفع عنهم سوء ما عملوا.

.تفسير الآيات (110- 112):

{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)}.
التفسير:
وإذ يحذّر اللّه الظالمين وأولياء الظالمين، ويتوعدهم بالعقاب الراصد لهم يوم القيامة، فإنه سبحانه وتعالى لا يسدّ منافذ الخلاص على هؤلاء وأولئك، بل يفتح لهم أبواب التوبة والإنابة، ويدعوهم إلى الرجوع إليه من قريب.. فإنهم إن فعلوا، وأخلوا أيديهم من الإثم، وأنابوا إلى ربهم، وجدوا القبول والرحمة، من رب غفور رحيم.
وعمل السوء قد يتعدّى الإنسان إلى غيره، ففيه ظلم للغير، وظلم له.
كالسرقة، والغش، وشهادة الزور.. ففى هذه الأمور السيئة ونحوها ظلم للغير، وظلم للنفس، بما جنى عليها صاحبها من هذه المنكرات، التي تبعد مرتكبها عن ربه، وتعرضه لسخطه، ونقمته، وعذابه.
وقد يكون عمل السوء مقصورا أثره على مرتكبه، كالذى يشرب الخمر، أو يفطر في رمضان لغير عذر.. فهذا العمل السيّء واقع عليه وحده، واثره لا يتعدّاه إلى غيره.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}.
جامعا لأفعال السوء كلها، ما كان منها متعديا أثره إلى الغير، وما كان مقصورا على النفس وحدها.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
استحضار لجلال اللّه وعظمته، وتلويح بغفرانه ورحمته، حيث أنه سبحانه وتعالى يدعو المذنبين إليه، وينتظر استجابتهم له، وإقبالهم عليه، فمن استجاب للّه، وسعى نحوه، فطريقه إلى اللّه مفتوح، لا تقوم دونه الحجب، ولا يرده عنه الحجّاب.. بل {يجد اللّه} في انتظاره، مادّا يده له بالقبول والمغفرة.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً}.
تحديد للمسئولية، حيث لا يؤخذ أحد بجرم غيره.
{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى}.
ولن يخشى البريء أن يلقى عليه جرم المجرم، فإن أمر القضاء إلى عليم حكيم، يعلم عمل كل عامل من خير أو شر، فيجزى بالخير خيرا، وبالشر شرا، كما يقضى بذلك عدله، وحكمته.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً}.
تهديد ووعيد لأولئك الذين يكسبون الخطايا والآثام، ثم يلقون بها على الأبرياء، ويحمّلونهم تبعاتها، وذلك في هذه الحياة الدنيا، حيث لا يرى الناس منهم ما يرى اللّه، فيجدون في ذلك سبيلا إلى التخلص من جرائمهم.. وكلّا، فإن جرمهم قد سجله اللّه عليهم، وهو آخذهم به، ومجازيهم عليه، وهم إذا رموا بهذا الجرم غيرهم فقد اكتسبوا جرما آخر إلى جرمهم، إذ أصابوا بريئا، وجنوا على غير ذى ذنب! وبهذا صار جرمهم {مبينا} أي عظيما، ظاهرا لا يحتاج إلى من يكشف عنه.
والخطيئة: الوقوع في المعصية.
والإثم: البغي، والعدوان، وهو الطريق إلى الوقوع في الخطيئة.
والبهتان: هو الزور.