فصل: تفسير الآيات (80- 82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (80- 82):

{وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)}.
التفسير:
ولا يقف سفه اليهود عند حدّ، فهم يفترون على اللّه الكذب، إذ يتخذون لأنفسهم مكانا عنده، تمليه عليهم أهواؤهم، حتى لكأنهم بحيث لهم سلطان على اللّه، ومشيئة فوق مشيئته.
قالوا: نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه. فكان قول الحق لهم: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [18: المائدة] {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} فكان إنكار الحق عليهم بقوله: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} وهذا القول من اليهود ليس بلسان المذنبين منهم، ليهوّنوا على أنفسهم اقتراف المنكر، واستساغة تعاطيه وإدمانه، وإنما هو على لسان الشريعة التي افتروها على اللّه، وخصّوا بها أنفسهم.. إن أشرارهم وعصاتهم لن يعاقبوا كما يعاقب سائر الناس، وإنما- إذ كانوا يهودا- لهم حكم خاص، فلا تنالهم النار إلا مسّا، ولأيام معدودة.. هذا هو حكم العصاة والمجرمين والملحدين منهم، الذين غرقوا إلى أذقانهم في الإثم والضلال!! وبهذا التفكير الآثم، الذي أدخلوه مدخل الشريعة. استطاعوا أن يترضّوا أهواءهم، وأن يشبعوا أطماعهم، وأن يركبوا كل منكر، ويأتوا كل قبيح، في جانب اللّه، وفى حق الناس! وكلّا، فإن المحسنين منهم- وقليل ما هم- يلقون جزاء الإحسان بالإحسان، وإن المسيئين منهم- وما أكثرهم- فالنار مثوى لهم: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
هذا هو حكم اللّه، يقضى به بين عباده: يهودا كانوا أو غير يهود، والخطيئة التي تحيط بالإنسان وتحبط عمله هي الكفر باللّه، نعوذ باللّه منه، ولكن اليهود لا يرون في اليهودىّ إذا كفر باللّه أن يلقى مصير الكافرين.
لا لشيء إلّا لأنه يهودى! وهذا هو الذي جعل اليهود يعزلون أنفسهم عن الناس، ويحجزون أنفسهم عن الاختلاط بهم، حتى يحتفظوا بهذا الامتياز المفترى، الذي يرجع أولا وآخرا إلى النسب، لا إلى الإيمان والتقوى! {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [41: المائدة].

.تفسير الآية رقم (83):

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}.
التفسير:
هذا هو ميثاق اللّه الذي أخذه على عباده، كما حملته شرائعه، وبلغه رسله، وهو الميثاق الذي أخذه اللّه على بنى إسرائيل. ولكن للقوم دون عباد اللّه جميعا موقف لئيم ماكر، يكشفه قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}.
فهم جميعا يلقون آيات اللّه معرضين عنها، يلقونها غير آبهين لها، ولا ملتفين بوجودهم كله إليها.. ثم إذا هم بعد ذلك فريقان: الفريق الأكثر الذي يكاد ينتظم الجماعة كلها، لا يحتمل حتى هذا الموقف المنحرف مع آيات اللّه، بل يولّى عنها، معطيا ظهره إياها.. وفئة قليلة هي التي تستطيع أن تمسك نفسها على هذا الموقف المنحرف! إن أحسن اليهود حالا، وأقربهم إلى اللّه، لا يسكن الإيمان قلوبهم، ولا تجد الخشية مكان الطمأنينة في كيانهم، إنهم على طريق معوج منحرف، لا يستقيم بهم أبدا.
ومن إعجاز القرآن هنا أنه وصف اليهود الوصف الكاشف الملازم لهم، فما وصفوا في القرآن بوصف ينقض هذا الوصف في أي حال، وفى أي موقف.
علماؤهم يبدّلون ويحرفون ويشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا، وجميعهم- عامة وعلماء- يحملون قلوبا قاسية، هي كالحجارة أو أشد قسوة.. فسبحان من هذا كلامه.. {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}.

.تفسير الآيات (84- 86):

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}.
التفسير:
وهذا ميثاق آخر أخذه اللّه على بنى إسرائيل: أن يحترموا حرمات الدماء والأموال، فلا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يعتدى بعضهم على ما بيد بعض من أموال وديار.. وإذ كان هذا الميثاق عاملا ماديا يحرس أمنهم وسلامتهم، فقد أقروا به، وشهدوا آثاره حين استجابوا له، وعملوا به، فهو قانون يعطى ثماره عاجلة غير موجّلة.
وانظر كيف جاءت فاصلة الآية هنا: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} حيث يقتضى الأمر تسليما ورضى به من كل إنسان، إذ فيه أمنه وسلامته.
على حين جاءت الفاصلة في الآية التي قبلها، وهى التي تحمل الميثاق بالإيمان باللّه واليوم الآخر، والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى والمساكين وابن السبيل، والإحسان إلى الناس بالقول مع الإحسان إليهم بالعمل، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة- جاءت الفاصلة هناك هكذا: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} حيث لا تلقى هذه الدعوة استجابة ورضى إلا من قلوب متفتحة للحق، ونفوس متقبلة للخير.
وحظ القوم- أعنى اليهود- من هذا وذاك قليل، فلا يهشّون لمثل هذه الدعوة، التي لا تضع بين أيديهم كسبا عاجلا، وثمرا ناضجا!! ومع أن القوم أقروا بهذا الميثاق الذي يضمن لهم صيانة دمائهم وأموالهم، وشهدوا آثاره الطيبة العاجلة فيهم- مع هذا، فإنّهم سرعان ما تغلب عليهم شقوتهم، وتقهرهم نزواتهم الشريرة الكامنة فيهم، فينقضون هذا الميثاق: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ}.
ومن عجب هؤلاء القوم أنهم إذ يخرجون فريقا منهم من ديارهم ظلما وعدوانا، فإنهم إذا وقع إخوانهم هؤلاء ليد أعدائهم وعرض عليهم فداؤهم من الأسر، قبلوا ذلك، وبذلوا لهم من أموالهم.. فكيف يلتقى هذا العمل الطيب، مع العمل الرديء الذي سبقه؟ كيف يضربون إخوانهم بأيديهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، ثم يعودون فيحررونهم من الرق، إذا أسروا؟
والأمر وإن بدأ متناقضا، إلا أنه مستقيم مع طبيعة هؤلاء القوم، التي تتحكم فيها الأنانية وحب الذات.
فالأخوّة عندهم ليست أخوة على إطلاقها، في السرّاء والضراء، وإنما هي أخوّة ما جلبت نفعا ذاتيا، وحققت مصلحة خاصة، أما إذا لم يكن ذلك من معطياتها فهى أخوّة ذئاب، إذا جرح ذئب فيها لم يحملوه، بل أكلوه! هذا شأنهم مع وصايا الرسل والأنبياء، ومع كل ما يحمل إليهم من أمر أو نهى.. يتخيرون ما يرضيهم، ويعرضون عما لا يقع منهم موقع الرضا والقبول، على المستوي المادي، وفى حدود الدائرة الذاتية، التي يعيش كل منهم فيها بنفسه ولنفسه! ولهذا أنكر اللّه عليهم هذا الموقف اللئيم، وتوعدهم عليه بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
والخزي الذي ينالهم في هذه الدنيا. هو من تبدل مواقفهم في الأمر الواحد، حسب ما تمليه أحوالهم، وتقتضيه ظروفهم.. يأخذ أحدهم بالأمر اليوم، ثم إذا هو يردّه غدا، ثم يعود إليه، ثم يرده، وهكذا.. وليس من ضابط لهذا إلا المصلحة الخاصّة، والهوى الذاتي.. وهذا من شأنه أن يخزى الإنسان أمام نفسه، إن كان على شيء من الإحساس والشعور، وإلا فهو الخزي الذي ترميه به العيون الراصدة، لتقلّبه مع كل ريح.. وهذا هو أصل النفاق، ذلك الداء المتمكن في اليهود، إنهم يتحركون دائما مع الريح المواتية لأهوائهم، المشبعة لنهمهم، دون التزام بمبدأ أو خلق، ودون رعاية لشريعة أو دين!.

.تفسير الآيات (87- 90):

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)}.
التفسير:
قصة بنى إسرائيل مع رسل اللّه، تكشف عن العناد الصبيانى الذي تنطوى عليه طبيعة القوم، فهم مع كل رسول مكرة معاندون، لا يجمعهم إليه رحم، ولا يمسك بهم معه إيمان.. فما لقى منهم أنبياؤهم إلا البهت والتكذيب، أو التطاول بالأذى والقتل.
ومن أساليبهم الخبيثة في قطع الوسائل بينهم وبين حملة الهدى إليهم من أنبيائهم، أنهم إذا أعيتهم الحيل فيهم، وفضحتهم الحجج معهم، وضاقت عليهم سبل الإفلات من الآيات المشرقة التي تطلع عليهم من كل أفق- لا يتحرجون من أن يلصقوا بأنفسهم التّهم ويقولون فيما يقولون: {قُلُوبُنا غُلْفٌ}!!.
هكذا هم حقّا، ولكن القوم يقولونها بألسنتهم لا عن اعتراف بالحق، ولا عن شجاعة في كشف عيوب النفس بغية إصلاحها، ولكن يقولون ذلك تخابثا واحتيالا، ليتخلصوا من يد الحق المستولية عليهم، ولهذا كان ردّ اللّه زاجرا قاتلا: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ} أي أنهم واقعون تحت لعنة اللّه، فإذا آمن أحدهم فلا يخالط الإيمان كيانه، وإنما يلمّ به إلماما، وقد أشرنا إلى هذا في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}!.
إن الحق عند القوم ليس حقّا لأنه حق في ذاته، وإنما يكون حقّا يأخذون به، ويلتزمونه، إذا هو حقق لهم نفعا عاجلا، وكسبا ذاتيا، وإلا فهو باطل الأباطيل، يسلقونه بألسنتهم، ويرمونه بأيديهم.. هكذا هم في قديمهم، وكذلك هم في حديثهم!.
كان علمهم من التوراة يحدثهم بأن نبيا سيظهر في العرب، وأن اللّه قد أخذ على الأنبياء، وعلى أتباع الأنبياء، الميثاق أن يكونوا مع هذا النبيّ إذا ظهر، وجاءهم بكتاب مصدق لما معهم.. وقد تحدّث اليهود إلى العرب بهذا، وبأنهم سينتصرون لهذا النبيّ ويكونون معه وبه قوة على العرب المشركين.. فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم وبدأ دعوته بعشيرته الأقربين امتثالا لقوله تعالى {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [214: الشعراء] وحين سبق إلى الإيمان به نفر من قومه، تردد اليهود وتوقفوا، ثم لما أن سبقهم الأنصار من الأوس والخزرج إلى الإيمان، تنمّروا وتنكروا، وأخذوا يمكرون بالدعوة الإسلامية، ويظاهرون مشركى قريش عليها، إذ أن سبق من سبق من المهاجرين والأنصار قد فوّت عليهم الاستيلاء على الدّعوة وحجزها في محيطهم وحدهم دون الناس، لأنهم يريدون أن يستولوا على كل شيء، ويستأثروا بكل شيء، فإن كان أمر لأحد معهم فيه نصيب أعلنوا الحرب عليه، وحاولوا إفساده بكل سبيل، حتى لا ينتفع به!.
ولهذا تشوه دعوة الإسلام في أعينهم ويتحول الحق الذي عرفوه إلى باطل، يأتمرون به ويحاربونه، سرا وجهرا.
وقد سجّل اللّه سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف اللئيم في قوله سبحانه: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ}.
إن الحسد ليأكل صدورهم، وإن الشّره ليعمى أبصارهم، حتى إنهم ليهلكون أنفسهم، ويحرمونها موارد الخير، لأن غيرهم قد سبقهم إلى هذا الخير ونال منه. وهو خير لا ينفد أبدا، يسع الناس جميعا، ومع هذا فهم يريدونه خالصا لهم من دون الناس، لا ينال أحد شيئا منه.. وقد غضب اللّه عليهم غضبا بعد غضب، غضب عليهم أولا، لأنهم عرفوا الحق ولم ينصروه، بل خذلوه ومكروا به وحاربوه.. وغضب عليهم ثانيا، لأنهم نقضوا الميثاق الذي أخذه اللّه عليهم في الكتاب الذي بين أيديهم، ثم حرّفوا في كتابهم هذا وبدلوا، واستباحوا حرمته، وهذا كفر بكتابهم بعد كفرهم بمحمد وبما نزل عليه. وهذا ما جعلهم بمعرض من غضب اللّه، حالا بعد حال، ومرة بعد مرة!.

.تفسير الآيات (91- 93):

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}.
التفسير:
كل حجّة كانت تقطع على القوم سبيل الإفلات منها، كانوا يلقونها بوجه وقاح، لاحياء فيه.. فمع علمهم بأن دين اللّه واحد، ورسالات رسله تصدر جميعها عن هذا الدين، فإنهم إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل اللّه على رسله لوّوا رءوسهم، وقالوا: {نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا}!! كأنما يحسبون أن ما أنزل عليهم هو شرع شرعه اللّه لهم، وخصهم به من دون الناس، وجعل لهم به سلطانا على العباد.. وكذبوا وضلوا! فالكتاب الذي نزل على محمد يحوى مضامين ما أنزل على موسى وعيسى وما أنزل على النبيين جميعا، ولهذا أمر أتباع محمد أن يؤمنوا بما أنزل على أنبياء اللّه، كما يقول القرآن الكريم، متوجها بهذا الأمر إليهم: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [123: البقرة] ومع هذا فهل آمن بنو إسرائيل بما أنزل عليهم حقّا؟ إذن فلم قتلوا أنبياءهم؟ ولم حادّوا اللّه ورسله مع الآيات البينات التي جاءتهم على يد الأنبياء؟
ولم عبدوا العجل بعد أن أراهم موسى من آيات ربّه ما تلين له الصمّ الجلاد! أفهذا هو الإيمان، وما يأمر به الإيمان؟.
وفى قوله تعالى: {قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا} وفى الجمع بين السمع والعصيان ما يشير إلى تلك الطبيعة اللئيمة المستقرة في كيان القوم، وهى أنهم لا يتقبلون الخير ولا يستقيمون عليه، وأنه إذا نفذت إلى آذانهم دعوة الخير استقبلها من قلوبهم عواء مخيف، يردّها عن أفقه، ويصدها عن مورده: {سمعنا وعصينا}! سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا!.
وفى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وتكرار هذا القول مرتين في موقف واحد- في هذا ما يكشف عن حقيقة هذا الإيمان الذي يدّعونه.
فهو إيمان على دخل، تختلط به خمائر الشك، والنفاق.. وهذا إيمان لا يقبله اللّه، ولا يدخل أهله في زمرة المؤمنين به!.