فصل: تفسير الآيات (150- 151):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (150- 151):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)}.
التفسير:
مناسبة هاتين الآيتين للآيتين اللتين قبلهما، هو أن هذا الذي يدعو إليه الكافرون، من الكفر باللّه ورسله، والتفرقة بين اللّه ورسله، هو مما يدخل في باب الجهر بالسوء من القول.. وأن قولهم. {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} هو من المنكر من القول، ومن شأن التحدّث به وإذاعته في الناس أن يشيع الفتنة والفساد! وفى تصدير الآية الكريمة بهذا الوصف للذين يقولون: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} ما يشير إلى أن الإيمان كلّ لا يتجزأ.. وأن الكفر ببعض رسل اللّه هو كفر برسل اللّه جميعا، وأن الكفر برسل اللّه هو كفر باللّه.
وإذن فإن إيمان هؤلاء الذين يؤمنون باللّه، مع كفرهم برسله أو ببعض رسله، هو إيمان غير مقبول، لأنه قائم على الشك في اللّه، إذ لو خلا من هذا الشك، لا نسحب إيمانهم باللّه إلى إيمانهم برسل اللّه، وكتب اللّه، وبملائكة اللّه، وبالبعث والجزاء والجنة والنار.. وكل ما أخبر به الرسل من غيبيّات.
وقوله تعالى: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} هو إشارة إلى هذا لأسلوب المنافق من أساليب الإيمان.. حيث يأخذون من الإيمان شيئا، ومن الكفر شيئا.
والأمر هنا: إنما هو حق أو باطل، وإيمان أو كفر.. ولا ثالث بينهما.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا} هو حكم بكفر هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويجمعون بين الإيمان والكفر.. إنهم على الكفر الصّراح، ولو ستروا كفرهم بهذا الإيمان الزائف.
وقوله تعالى: {وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً} هو الجزاء الذي يؤخذ به هؤلاء الكافرون المنافقون.. إنه العذاب المهين، المعدّ لهم يوم الفصل والجزاء.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)}.
التفسير:
وفى مقابل هذا العذاب المهين الذي يصلاه الكافرون والمنافقون، يتقلّب المؤمنون، الذين آمنوا باللّه إيمانا خالصا، فصدّقوا رسله، وآمنوا بهم جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم كما فعل هؤلاء المنافقون الكافرون- يتقلب هؤلاء المؤمنون في رضوان اللّه، ويلقون من رحمته ومغفرته، ما يغسل أدرانهم، ويمحو سيئاتهم، ويفتح لهم أبواب الجنات، يلقّون فيها تحية وسرورا.

.تفسير الآيات (153- 155):

{يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)}.
التفسير:
ومما هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، تلك الأسئلة الخبيثة الفاجرة، التي يسألها أهل الكتاب- والمراد بهم اليهود- ويلقون بها بين يدى النبي الكريم، في تحدّ وقاح! وسؤالهم هنا، هو أن ينزل النبي عليهم كتابا من السّماء.. يرونه رأى العين، كما رأوا تلك المائدة التي أنزلها اللّه على عيسى عليه السلام، حين اقترحوا عليه ذلك، ولكنهم- مع هذا- لم يؤمنوا به، ولم يصدقوا رسالته.
ومن قبل كان اليهود يلقون إلى مشركى مكة بمثل هذه المقترحات، ليعنتوا بها النبيّ، وليقيموا لهم حجة عليه.. فكان من ذلك ما كشفه القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا}.
فلما التقى اليهود بالنبي في المدينة، وواجهوه بكفرهم وعنادهم، أعادوا هذا السؤال الذي كانوا قد صاغوه من قبل لمشركى مكة.
وفى قوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} هو ردّ مفحم على هؤلاء الكافرين المعاندين.. إنهم لم يسألوا ليعلموا، أو يؤمنوا، ولكن ليشتفوا من داء اللّجاج المتمكن فيهم.. ولو أنهم كانوا يؤمنون بآيات اللّه، لآمنوا بما بين أيديهم من آيات مادية محسوسة، تجبه كل معاند، وتخزى كل متحدّ.. ولكنهم لا يريدون إلا اللجاج والعناد، والتطاول والسّفه.
فلقد سألوا موسى أكبر من هذا السؤال، وأبعدوا في الوقاحة والتحدي، فقالوا أرنا اللّه جهرة!! وقد عاقبهم اللّه سبحانه على هذا العناد الفاجر.. فتجلّى لهم في جلال جبروته ونقمته.. فأخذتهم الصاعقة بظلمهم.. ولكن لم تكن هذه الضربة القاصمة لتمسك بهم على طريق الاستقامة والهدى، بل لجوّا في غيّهم وضلالهم، وعادوا سيرتهم الأولى في الكفر والعناد.. فاتخذوا العجل إلها لهم يعبدونه من دون اللّه، ولم تنفعهم الآيات المشرقة التي جاءهم بها موسى، من ربّه.. إذ نجاهم من آل فرعون، وفرق بهم البحر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وفجّر لهم من الصخر عيونا، حيث لا ماء ولا زرع، فشربوا، وزرعوا.. ولكنها القلوب القاسية، والنفوس المريضة، والطباع النكدة، لا تقبل على خير ولا تحتفظ بخير.. واللّه سبحانه وتعالى ويقول: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [58: الأعراف].
وفى توجيه الخطاب إلى جماعة اليهود عامة، سواء منهم من سألوا موسى أن يريهم اللّه جهرة، ومن لم يسألوه، ومن عبد العجل منهم ومن لم يعبده- في هذا ما يشير إلى أنهم جميعا من طبيعة واحدة، وعلى وجه واحد من وجوه الكفر والضلال، وأن قديمهم وحديثهم سواء، وأن الأبناء والآباء على طريق واحد، هو طريق اللجاج في الباطل، والإغراق في العناد.. وأن آباءهم الذين أعنتوا موسى، وكفروا بآيات اللّه ومكروا بها، لا يختلفون كثيرا عن هؤلاء الأبناء الذين التقوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، فعادوا سيرة آبائهم في أنبياء للّه، مع هذا النبيّ الكريم، يلقونه بالأسئلة الماكرة المتحدّية، لا يبغون بها إلا العنت والضلال.
وفى قوله تعالى: {فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ} أي تجاوزنا عن ذلك، وأفسحنا لهم المقام في هذه الحياة، لعلّهم يصلحون ما أفسدوا، ولتتظاهر الحجة عليهم، فيما يأخذهم اللّه به من عقاب، وفيما يصبّ عليهم من لعنات.
وفى قوله تعالى: {وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً} كبت لهم، وحسرات عليهم، إذ فاتهم ما أرادوا بموسى من مكر، وما دبّروا من كيد.. ثم هو كبت وحسرة لهؤلاء الذين يلقون محمدا صلوات اللّه وسلامه عليه بمكرهم وكيدهم، وأنهم هم الخاسرون، ولن يصيبهم إلا ما أصاب آباءهم من نقمة وبلاء، وما ينال محمدا إلا ما نال موسى من فضل وإحسان.
قوله تعالى: {وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً}.
هو بيان لما أخذ اللّه سبحانه وتعالى على آبائهم من عهود ومواثيق، وأنهم لم يرعوا عهود اللّه، ولم يحفظوا مواثيقه، بل ضيّعوا، ونقضوا ما عاهدوا اللّه عليه.
فقد رفع اللّه فوقهم الطور، أي جبل الطور، وأقامه ظلّة عليهم ليظلّهم ويكنّهم في هذا التيه الذي غرقوا فيه أربعين سنة.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} [171: الأعراف] فلم يثقوا في هذا البناء الذي أقامه اللّه عليهم، ودخلوا تحته دخول الخائفين، حتى لكأن يد اللّه لا تقوى على الإمساك به!! ثم حين أخرجهم اللّه من التّيه، وساقهم إلى العمران، ووجههم إلى إحدى القرى، دعاهم سبحانه إلى أن يدخلوا باب هذه القرية سجّدا، شكرا للّه على هذه النعمة، وأن يقولوا وهم في هذا السجود {حطّة} أي غفرانا لذنوبنا.. فبدّلوا وغيروا، ولم يحترموا كلمات اللّه، ولم ينزلوا عند وصاته لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} [58- 59: البقرة] ثم ألزمهم اللّه سبحانه ألّا يعدوا في السبت، وألا يعملوا فيه عملا، عقابا لهم ونكالا، حيث خرجوا عن طاعة اللّه، ونقضوا مواثيقه.. فاعتدوا في السبت، وباشروا فيه كل عمل.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [65: البقرة].
وانظر إلى هذا التكرار في قوله تعالى: {قُلْنا لَهُمُ}.
إذ يقول سبحانه: {وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}.
ففى هذا التكرار ما يؤذن بأن القوم بما هم، عليه من جفاء طباع، وقسوة قلوب، وبلادة مشاعر، وعمى بصيرة، لا يخاطبون إلّا بمناخس حادة، لتوقظ هذه المشاعر الهامدة، وتلك الطباع المتبلّدة.. تماما كما تنخس الدوابّ كلما ونت أو حرنت.
وقوله تعالى: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}.
فى هذه الآية والآيات التي بعدها يحصى اللّه سبحانه وتعالى على اليهود ما ارتكبوا من خطايا، وما اقترفوا من آثام، حتى كان لهم من اللّه هذا العقاب الأليم الذي أخذهم به في الدنيا، وجعله ميراثا يقتسمه أبناؤهم من بعدهم، إذ كانت جرائمهم من الشناعة والهول بحيث لا يستقلّ بحملها جيل أو عدة أجيال.. بل إنها لو قسمت عليهم في أجيالهم السابقة واللاحقة لأحاطت بهم جميعا، ثم كان من فائضها ما يتسع لأمثالهم.
فقد نقضوا مواثيق اللّه، وكفروا بآياته. وقتلوا رسله.. عدوانا وبغيا، حيث لا شبهة ولا مظنّة شبهة يقتل بها رسول من رسل اللّه، إذا قتل غيرهم من الناس، بحق أو بغير حق.. فما رسل اللّه إلّا رحمة من رحمته، وفضل من فضله، ونعمة من نعمه.. فالذى يدفع الرحمة، ويأبى الفضل، ويكفر بالنعمة، هو إنسان مبتلى في عقله، متّهم في إنسانيته فإذا تجاوز ذلك إلى أن يكون حربا على الرحمة والفضل والنعمة، فقل أي كائن هو.. ولكن لا تنسبه إلى عالم الإنسان أبدا! على أن الأمر لا يحتاج إلى بحث أو نظر، فقد حكم القوم على أنفسهم، ونطقوا بما ينطق به في شأنهم الوجود كله، ويدينهم به.. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ} أي مغلفة، مغلّقة، لا ينفذ إليها شيء من الحق والخير.. وهم إنما يقولون هذا القول في مجال الاستهزاء والسخرية، كما يقول من يتعالم: إنى جاهل..! والمغرور بماله، المدلّ بثروته: إنى فقير! بل إن أمرهم لأكثر من هذا، إذ ليس ما بقلوبهم مجرد غطاء يحجبها عن كل خير، كما ادعوا على أنفسهم استهزاء وتعاظما، ولو كان ذلك هو الذي بهم لكان لدائهم طب، ولعلتهم دواء! ولكنّ الذي بهم هو شيء لو عقلوه لبكوا كثيرا، ولضحكوا قليلا، بل لكانت حياتهم كلها بكاء موصولا، ودمعا جاريا، لما رماهم اللّه به من داء قتل كل معانى الإنسانية فيهم.. فإذا هم ناس وليسوا ناسا، أحياء وليسوا بالأحياء! انظر إلى قلوب هؤلاء القوم.. فهل تجد ما بها، هو حجاب كثيف مضروب عليها؟ أو غلاف صفيق اشتمل عليها واحتواها؟ وكلا.
{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها}.
وإذن فداء هذه القلوب هو في كيانها ذاتها، وليس مادة غريبة غشيتها واحتوتها، بل هو الختم المحكم الذي ختمه اللّه عليها، فلا يخرج ما فيها من خبث ولا يدخل إليها ما في الحياة من حق وخير.. إنها ستظل هكذا مغلقة على ما فيها.. أشبه بالبركة الراكدة العفنة، لا تزداد مع الأيام إلا ركودا وعفنا، ولا تلد مع الزمن إلا العفن، والوباء! وقوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} هو وصف لمن أفلت منهم من تلك اللعنة، استثناء من هذا الأصل الذي ينتسب إليه القوم جميعا.. وهو عدد قليل، لا يشفع لهذه الجماعة بالخروج من هذا الحكم المضروب عليها.

.تفسير الآيات (156- 158):

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)}.
التفسير:
ومما أحصاه اللّه من شناعات هؤلاء القوم- اليهود- كفرهم بالمسيح، وتكذيبهم له، وقولهم فيه وفى أمّه تلك الأقوال الشنيعة، التي هي محض بهتان وزور، فقد رموا مريم البتول بالفحش، واتهموها بالفاحشة ونسبوا ابنها إلى أنه ابن سفاح، جاء على غير رشدة.
كذلك مما أحصاه اللّه عليهم من المآثم، هذه الفعلة الشنيعة التي أصبحوا على إيمان بها، فلم يتأثمّوا، ولم يندموا، بل كان ذلك نغما مسعدا، ونشيدا مرفّها، يرددونه صباح مساء، ليغذّوا داء الانتقام والتشفّي الكامن فيهم.
{قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ}!! هكذا يملئون بها أفواههم، ويضربون بها على آذانهم!.. قتلنا المسيح.. عيسى بن مريم.. رسول اللّه.
فلم يكفهم أنهم قتلوا نفسا، بغيا وعدوانا.. كما كان ذلك معتقدهم.
ولم يكفهم أن تكون هذه النفس نفس إنسان لم يقل كلمة سوء، ولم يمدّ يده إلى أحد بسوء.. بل كان فمه مشرق نور ومطلع حكمة.. وكانت يده ملاك برّ ورحمة.. تهدى الشفاء إلى كل مريض، وتمسح بالعافية على كل ذى علة.
لم يكفهم هذا.. بل راحوا يعلنون هذا النبأ السارّ المسعد، يبشرون به في آفاقهم، ويرفعونه إلى اللّه دعوات وصلوات، في وقاحة واجتراء على اللّه.
ولم يكفهم هذا، فعرضوا قتيلهم هذا العرض الطويل الممتد.. حتى لكأنهم وقد مزّقوه أشلاء، أو قتلوه.. مرة، بعد مرة، بعد أخرى.
قتلنا..!.. يا للإثم العظيم! المسيح..!.. ويا للهول المهول! عيسى.. ويا للعنة السماء لمن يقولها! ابن مريم.. ويا لشؤم القوم الذين يردّدونها! رسول اللّه. ويا لسيف اللّه لمن يحارب رسل اللّه! ومع هذا، فإن القوم يهنؤهم الطعام والشراب.. بل إنهم ليأتدمون بهذا الدّم، ويغمسون به كل لقمة يأكلونها! وقولهم {المسيح} ليس اعترافا منهم بأنه المسيح، وإنما يقولون ذلك استهزاء به.. وكذلك قولهم: {رسول اللّه} فهم لم يعترفوا بالمسيح رسولا، ولم يقبلوه مسيحا.
وقوله تعالى: {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} هو كبت لليهود، وخزى لهم، إذ يفجؤهم القرآن الكريم بهذا الخبر، ويقطع لهم عنه الشك باليقين.. ذلك أنه كان قد وقع في نفوسهم شك في أن الذي قتلوه وصلبوه ليس هو المسيح، فإن هذا الشك قد أصبح يقينا بهذا الذي جاءهم به القرآن الكريم، وهم يعلمون صدقه، ويستيقنون أنه من عند اللّه، وإن جحدوه استكبارا، وعنادا.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [146: البقرة.].
والضمير في يعرفونه يعود إلى القرآن.
وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} هو كبت وخزى لليهود، بهذا الفضل الذي فضل اللّه به على المسيح، بعد كبتهم وخزيهم، بإبطال كيدهم فيه، وإفساد مكرهم به.
لقد أرادوا موته وصلبه.. فلم تنله أيديهم، ونجاه اللّه منهم، بعد أن أخذهم بهذا الذنب العظيم، الذي عقدوا نيّتهم عليه، وشرعوا في تنفيذه، بل ونفذوه.. ولكن لا في المسيح كما قدروا، بل في شخص آخر شبّه لهم أنه المسيح.
ولقد أرادوا يصلب المسيح أن يوقعوه تحت اللعنة، التي قضت بها شريعة موسى، والتي جاء فيها: ملعون من علّق على خشبة.
فما كان يقع تحت هذا الحكم من اليهود إلا من جدّف على اللّه، وكفر به.. فمن فعل هذا حكم عليه بالصلب، ثم الطرد من ملكوت اللّه! لقد أراد اليهود هذا بالمسيح، فرفعه اللّه إليه، وأعلى منزلته عنده، وأحلّه في مقام كريم، مع المصطفين من عباده.
وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} هو تعقيب على تلك الأحكام التي أجراها سبحانه وتعالى، والتي جاءت على غير ما أراد أهل الشر والسوء.
فبعزّته سبحانه أفسد كيد هؤلاء المضلّين المفسدين، وبحكمته وضع الأمور في مواضعها، فجاءت على أتم صورة وأكملها.
هذا، ولما كانت قضية صلب المسيح.. من القضايا التي أثارت ولا تزال تثير كثيرا من الجدل والخلاف بين المسلمين والنصارى واليهود.. فقد رأينا أن نقف وقفة، ننظر بها نظرا أرحب وأوسع، في هذه القضية، وفى رأى القرآن فيها، وفى مقولات المسيحيين واليهود عنها.
القرآن والمسيح المصلوب:
المسيح بين الألوهية والبشرية:
لم يلتفت القرآن الكريم إلى المسيح وإلى المعتقدات التي يعتقدها أولياؤه وأعداؤه إلّا من جانب واحد، هو شخصيته، وتحديد هذه الشخصية على الوجه الذي يراه له، وهو أنه إنسان بشر، وليس إلها ولا ابن إله، على الرغم من الأسلوب الفريد الذي ولد به! ففى الوقت الذي نزل فيه القرآن كان قد مضى على ظهور المسيح نحو ستة قرون، دارت فيها الأحداث التي صحبت حياته، منذ دخوله في هذا العالم، إلى خروجه منه- دارت تلك الأحداث فيها دورات كثيرة، والتقت بأنماط مختلفة لا حصر لها من العقول، وكاد الأمر يستقر في معتقد الناس، في المسيح وفى الأحداث التي اتصلت به! فأتباعه كان قد انتهى بهم الرأى فيه إلى أنه اللّه ممثّلا أقنوم الابن من الأقانيم الثلاثة التي جعلوها للّه، وهى: الأب، والابن، وروح القدس.
وأعداؤه- اليهود- لم يتغير رأيهم فيه منذ وقع في أنفسهم أنهم صلبوه بتهمة الشعوذة والتجديف على اللّه.
وكان على القرآن أن يكشف عن شخص المسيح، وأن يضعه بالموضع الذي له في حساب العقيدة.. أهو ابن اللّه؟ أم هو إله مع اللّه؟ أم هو اللّه وحده؟ أم هو بشر.. رسول من اللّه، إلى عباد اللّه؟
وقد حرص القرآن على أن يجلّى عن شخصية المسيح، وأن يدفع عنه كل شبهة تلبس على الناس أمره، وتجعل له إلى الألوهية مدخلا من أية جهة، وعلى أية صفة!
هذه هي قضية المسيح في القرآن: أهو إله؟.. أم هو إنسان من الناس وخلق من خلق اللّه؟ وإذ فصل القرآن في هذه القضية فصلا قاطعا، وأنزل المسيح من سماء الألوهية إلى أرض البشر- إذ فعل القرآن هذا لم يلتفت من أمر المسيح إلى شيء وراءه، مما يجرى على البشر، وينزل بهم من أحداث، ويقع في حياتهم من شئون.!
فإذا مات المسيح- على هذا الاعتبار- أو قتل فليس ذلك بالأمر الذي يجعل له حسابا خاصا دون الحساب الذي يجرى على الناس، حين يموتون أو يقتلون.
وإذا صلب المسيح، فهو واحد من كثيرين ماتوا بتلك الميته، وكما مضى المصلوبون إلى ما هم صائرون إليه، كذلك يمضى المسيح إلى مصيره! وإذا كان هناك من شيء يلتفت إليه في هذا الأمر العارض، فهو هذا الحمق وذلك الضلال، اللذان يركبان الناس فيغريانهم بالتطاول على تلك الأيدى الكريمة الممدودة إليهم بالخير، والمبسوطة إليهم بالهدى، وأن يطفئوا بأفواههم هذا النور المتوهج في ظلام ليلهم البهيم، وأن يمثّلوا بهذا الإنسان الطاهر البريء! إنه لا أكثر من الشعور بالحسرة والأسى، تندلع نارهما في صدور الأخيار الأبرار من الناس، حين يصابون في مثلهم الفاضلة، ويفجعون في أسوتهم الحسنة، وحين يرون الشرّ يأكل منابت الخير ويفسد ثمارها! إنها وقفة.. قد تطول أو تقصر.. ثم تمضى الحياة ويمضى الناس معها في هذا الصراع المتصل بين الحق والباطل والخير والشر، وفى هذا التدافع الدائم بين المحقّين والمبطلين، وبين الأخيار والأشرار!
المسيح المصلوب:
فليس بمستنكر على الحياة إذن أن يصلب المسيح! وليس بدعا أن تمتد إليه يد البغي، وأن تتمكن منه وتبلغ ما تريد فيه! فما أكثر الأنبياء الذين أصابتهم أيدى البغاة، وسلّطت عليهم قوى الشر والعدوان، فذاقوا الموت في أمرّ كئوسه، وواجهوه في أبشع صوره! وما أكثر الصدّيقين والأبرار الذين وقعوا صرعى في ميادين الجهاد في سبيل اللّه، فمزّقوا إربا إربا، ومثّل بهم أحياء وأمواتا! فليكن المسيح بن مريم رسول اللّه، واحدا من هؤلاء! فما أحد من الناس قد أخذ على اللّه عهدا ألا يموت، وما أحد من البشر تخيّر لنفسه الميتة التي يموت عليها! وقد حرص القرآن على أن يخلى شعور أتباعه المسلمين من كل خاطرة تخطر لهم أن محمدا رسول اللّه، بمعزل عن هذا الحكم، الذي ينزل عليه الناس جميعا، ويردون موارده.. فقال تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} [144: آل عمران] إن الرسل يموتون أو يقتلون كما يموت الناس وكما يقتلون، ومحمد رسول اللّه واحد من الرسل وإنسان من الناس.. فليس بدعا أن يموت أو يقتل.. {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [9: الأحقاف] {إنك ميّت وإنهم ميتون} [30: الزمر] ومن أجل هذا لم يلتفت القرآن في موقفه من أهل الكتاب، وفى تسويته لحساب المسيح عندهم- لم يلتفت إلى حادثة الصلب ولم يجعل منها قضية يناقشها معهم، ويفصل فيها بحكمه بينهم!
وقد يبدو هذا الموقف الذي وقفه القرآن الكريم من أمر الصلب وإغفاله له، تسليما به، وبالمعتقد الذي قام عليه، وهذا يعطى لأصحاب هذا المعتقد القائم على صلب المسيح حجة على القرآن بأنه لم يواجههم مواجهة صريحة في هذه القضية، ولم يأخذ عليهم معتقدهم في أن المسيح قد صلب! ونقول- كما قلنا من قبل- إن القرآن لا يعنيه كثيرا أن يكشف حقيقة هذا الحدث، وأن يقيم الناس على رأى في أن المسيح صلب، أو أنه لم يصلب، فذلك الأمر على أي وجهيه وقع- لا يقدم ولا يؤخر في أصل القضية التي ينازع فيها القرآن، أولئك الذين يعتقدون في بنوّة المسيح للّه، أو ألوهيته! فالمسيح إله، أو ابن إله.. كما يقولون ويعتقدون.
والمسيح ليس إلها ولا ابن إله، وإنما هو عبد من عباد اللّه ورسول من رسل اللّه.. كما ينطق الحق، ويحدّث القرآن!.. هذا هو أصل القضية.
فإذا فصل فيها القرآن على هذا الوجه الذي ارتضاه في المسيح، فقد فصل ضمنا في هذه الجزئية العارضة من حياة المسيح، وهى الصلب، ومن ثمّ يكون القول بصلب المسيح أو عدم صلبه سيان.. فهو إنسان من الناس وليس موته على أية ميتة كانت، بالذي يحدث له وضعا جديدا في الحياة، أو بالذي ينشئ له في النفوس مكانا يقوم عليه دين وتستند إليه عقيدة.
إن القرآن إذ يواجه أتباع المسيح، لم ير في حديثه إليهم عن حادثة الصلب التي يؤمنون بها ويقيمون معتقدهم عليها- لم ير في هذا الحديث جدوى، لأن هذا الحديث لا يعنى في نظر الدعوة الإسلامية أكثر من أنه خبر من أخبار التاريخ، لا يتعلق بوقوعه أو عدم وقوعه شيء يتصل بالعقيدة في ذات اللّه.
إنه مثل الحديث عن أصحاب الكهف، وعن ذى القرنين، واختلاف الناس في شأنهم وفيما يروى من أخبارهم.. فإذا قال القرآن في مثل هذه الأخبار قولا فهو امتحان للقرآن ذاتة.. في أنه متلقّى من عند اللّه، أو مستوحّى من الأساطير وتكهنات الكهان.!
فى حياة المسيح عليه السلام أكثر من حدث، أثار تضارب الآراء فيه واختلاف الناس عليه.
فأولا: ميلاده من عذراء:
كان هذا الميلاد مشكلة ضخمة.. إذ أن هذا الميلاد غير طبيعى. وغير جار على مألوف الحياة.. وذلك مما يدير الرؤوس نحوه، ويلفت العقول إليه، ويفتح للناس طرائق شتى، للقول فيه والتقوّل عليه.
فاليهود مثلا- لم يعترفوا بهذا الميلاد- ولم يقبلوه.. بل اعتبروه ولادة غير شرعية، جاءت على غير رشدة.. من اتصال محرّم، بين مريم ويوسف النجار الذي أضافوا نسبة المسيح إليه، حيث كان يخدم مع مريم في المعبد.
وبهذا وضعوا المسيح وأمّه هذا الوضع الذي يصمهما بالدنس.. والعار.
وثانيا: صلبه.. ووقوعه بهذا الصّلب تحت حكم الناموس الذي يقضى بلعن كل من علّق على خشبة! حسب ما جاء في التوراة.
وثالثا: ألوهيته.. وخروجه بهذه الألوهية عن وجوده البشرى، الذي رآه الناس عليه، والقضاء على شخصيته وإفنائها.
فهذه ثلاث شبه أو تهم تحوم حول شخص المسيح، وتفسد الرأى فيه وتجعل منه شخصية أسطورية، أكثر منها شخصية حقيقية.
والقرآن الكريم هو وحده الذي تولّى الدفاع عن المسيح وكشف الشبه عن شخصه الكريم، ووضعه بالمقام المحمود الجدير به كإنسان يأخذ مكان الذروة بين الناس. يقول اللّه تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [171: النساء] {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ} [59: الزخرف] {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ} [75: المائدة].
إن الأخذ بما يقول القرآن في المسيح هو الذي يرفع هذه الشّبهة التي كانت ولا تزال داعية لسوء القالة فيه عند أعدائه اليهود، أو باعثة للاضطراب والقلق النفسىّ والروحىّ والعقلي، عند أتباعه.. إذ يرونه إنسانا في شخص إله، أو إلها في جسد إنسان! كان المسيح قد تنبّأ لهذا الخلاف الذي يكون في شأنه، ولهذه المقولات التي قيلت أو تقال فيه.. وقد أشفق على نفسه منها، إذ كان بعضها يطعنه في شرف مولده، وفى طهارة أمه وعفافها، على حين كان بعضها الآخر يسلخه من بشريته ويخرجه عن إنسانيته، إلى صورة مختلطة، تجمع الإله والإنسان في ذات واحدة وفى جسد واحد.
كان المسيح قد تنبأ لهذا، وأشفق منه بل وتألم له! ولكن اللّه طمأنه وأذهب مخاوفه إذ أوحى إليه أن هناك من سيتولّى الدفاع عنه، ورفع الشبهات التي ستدخل على الناس من أمره.. في حال حياته، وبعد أن فارق الحياة.
يقول السيد المسيح فيما روت الأناجيل على لسانه مخاطبا تلاميذه وحوارييّه: ولكنى أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذلك، يبكّت العالم على خطيّة، وعلى برّ، وعلى دينونة.. أما على خطية، فإنهم لا يؤمنون بي، وأما على برّ، فإنى ذاهب إلى أبى ولا تروننى، أيضا، وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين! إن لى أمورا كثيرة أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم، كل ما للأب هو لى، لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم. بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى، لأنى ذاهب إلى الأب (إنجيل يوحنا).
يتحدث المسيح إلى أتباعه هنا عن شخص سيجيئ بعده، وقد ترك هو مقامه فيهم وفارق هذه الدنيا.
وصفات هذا الشخص كما يحدّدها السيد المسيح هى:
أولا: أنه المعزّى الذي يجيء مواسيا ومعزّيا فيما أصيب به المسيح في شخصه، وما رمى به من تهم.. وكلمة المعزى هي إحدى المعاني التي فسّرت بها كلمة بارقليت اليونانية، والتي فسرت أيضا بمعنى المحامى أو مستشار الدفاع.
ثانيا: إنه سيبكّت العالم على أمور ثلاثة:
1- على خطيّة: هي أنهم لم يؤمنوا بالمسيح على الوجه الذي جاءهم عليه.
2- على برّ: وهو أنه ذاهب إلى اللّه لينزل المنزل الكريم الذي أعده له، ولكن هم أنزلوه في غير هذه المنزلة حيث رفعه أتباعه إلى مقام الإله ذاته، على حين أنزله اليهود منازل الضالين.
3- على دينونة: وهى هذا الحكم الظالم الذي حكم به اليهود على المسيح، وعلى الثوب الإلهى الذي ألبسه أتباعه إياه.
ثالثا: أن هذا المعزّى سيرشد أتباع المسيح إلى الحقيقة كلها، ومعنى هذا أن هناك أشياء لم يكشف عنها المسيح، ومعنى هذا أيضا أن هذه الأشياء هي مما جدّ بعد المسيح، من أمور، اختلط على الناس وجه الحق فيها.. وهذا هو موضوع القضية الذي سيكون من عمل محامى الدفاع عنه.
رابعا: أن هذا المحامى لا يتكلّم من عند نفسه، بل بما قد سمع.. ومعنى هذا أنه إنما يأخذ دفاعه تلقّيا من جهة غير جهته، هي التي تلقّنه المقولات والحجج التي يلقيها على الشبه المتلبسة بتلك القضية.
خامسا: أن هذا المحامى سيمجد المسيح.
سادسا: أن هذا التمجيد الذي يقدمه المحامى في شأن المسيح، ليس مديحا تستجلب به صفات لم يكن متصفا بها، وإنما هو تمجيد يكشف حقيقته للناس، ويزيل ما علق بذاته من شبه وضلالات.
وهذا ما تنطق به كلمات الإنجيل على لسان السيد المسيح في أوصاف المحامى أو المعزّى الذي سيجيئ بعده! ولكن أتباع السيد المسيح خرّجوا هذه الكلمات تخريجا على غير هذا الوجه على ما سنرى:
يقول أحد علماء المسيحية وشرّاح أناجيلها: وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسىّ في قصد اللّه- بلغ به حدّا جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصا ليحلّ محله بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس، وقد دعاه المعزى (باراكليت) وهى تسمية مشروعة، ومعناها المحامى أو مستشار الدفاع وبذلك يكون عمل الروح القدس الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال عنه يسوع هو يشهد لى (يوحنا 15: 26) ثم ذاك يمجّدنى لأنه يأخذ ممالى ويخبركم (يوحنا 16: 14) ومفهوم هذا القول أن الشخص الذي سيرسله المسيح هو روح القدس.
وإذا علمنا أن معتقد المسيحية، هو أن المسيح هو اللّه وأن روح القدس هو اللّه، بمعنى أن كلّا منهما هو اللّه في أقتوم من أقانيمه الثلاثة، إذا علمنا ذلك كان عجبا أن يكون المعزى شخصا وأن يكون هذا الشخص هو اللّه، ثم أن يكون المسيح وهو اللّه هو الذي يرسل روح القدس وهو اللّه!! اللّه يذهب في صورة المسيح الابن، ويحيء في صورة اللّه روح القدس! ثم من جهة أخرى.. ما معنى أن المحامى- إذا كان هو روح القدس، الذي هو اللّه ذاته- ما معنى أنه لا يتكلم من عند نفسه.. بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم؟.
أروح القدس أو اللّه ينتظر من يلقنه ما يقول، وبأذن له به؟ فيتكلم بما يكون قد سمع؟
هذا من حيث الشكل- كما يقال في لغة القضاء- أما من حيث الموضوع، فإذ ننظر نجد:
أولا: أن روح القدس الذي يقال إن المسيح وعد بإرساله بعد أن يمضى، لم ير له أحد وجها، لا من أتباع المسيح ولا من غيرهم.
ثانيا: أن روح القدس هذا، وهو المحامى أو مستشار الدفاع، لم يعرف له أحد موقفا، ولم يكن له قول مأثور في شأن المسيح وفى تمجيده.
فأين إذن هو روح القدس؟ وأين أعماله أو أقواله التي واجه بها الناس لتمجيد المسيح؟ ولسنا نجد جوابا لهذا إلا إذا نظرنا في القرآن الكريم ووقفنا عند ما جاء فيه من دفاع مشرق مفحم، عن السيد المسيح.. هذا الدفاع المشرق المفحم، هو تمجيد وتعزية للسيد المسيح، لما أصابه في شخصه وفى شخص أمّه من ضرّ وأذى! جاءت بعثة محمد صلوات اللّه وسلامه عليه- وقد مض على الدعوة المسيحية نحو ستة قرون، وكان هذا الزمن الممتد كافيا لأن يفسح للدعوة مجال الحركة في الحياة، وأن يبلغ بها أقصى ما تبلغه في عقول الناس وقلوبهم، من أولياء الدعوة وأعدائها على السواء.. إذ استنفد أعداؤها كل ما لديهم من مقولات يقولونها في المسيح ودعوته.. كما استنفد أولياؤها كل ما عندهم من مقولات في تصويرها، وتقرير حقائقها والاحتجاج لها.
ومن هذا الشدّ والجذب، والهجوم والدفاع، تشكّلت للمسيح قضية من أشد ما عرف الناس من القضايا غموضا وتعقيدا.. والمسيح هو القضية التي تنوشها رميات المتنازعين فيه والمختلفين عليه.. من أعدائه وأوليائه جميعا! وهنا تبرز الحكمة في الحاجة إلى محام، أو مستشار للدفاع، ليقول في هذه القضية لا شيئا من عند نفسه، بل بما يكون قد سمع، ويخبر به! وليس ثمة شك في أن هذا المحامى أو مستشار الدفاع أو المعزّى هو محمد عليه الصلاة والسلام.
فهو كما تنطق كلمات السيد المسيح:
أولا: هو المحامى الذي كان له دور معروف في قضية المسيح وكان بمشهد وبمسمع من الناس جميعا.
وثانيا: هو الذي دافع في هذه القضية دفاعه المعروف عن شخص المسيح وعن أمه، وكان دفاعه هذا تمجيدا وعزاء لهما مما أصابهما من رميات وطعنات.
وثالثا: لم يقل هذا المحامى كلمة من عند نفسه، بل كل ما قاله هو مما تلقاه وحيا من ربه، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلّم به.
ورابعا: أن هذا الذي سمعه وحيا من ربه لم يحتفظ به لنفسه، بل أخبر به وبلغه للناس كما أمره ربه: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}.
.. وفى هذا يقول السيد المسيح: بل يتكلم بما يكون قد سمع ويخبركم.
لقد كان محمد بما تلقى من كلمات اللّه، هو المحامى الذي ردّ للمسيح ولأمه اعتبارهما، وهو الذي مجدهما ورفع قدرهما في العالمين، وكان في ذلك العزاء الجميل لهما، والمواساة الكريمة لما أصابهما من بلاء عظيم، وفى هذا يقول القرآن الكريم: {يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ} [42: آل عمران] ويقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ}.
ويقول: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [75: النساء].
وننظر في كلمات المسيح مرة أخرى.
ونقف من كلمات السيد المسيح عند هذه الكلمات.
1- إن في انطلاقي لخيرا لكم.
فهذا الخير هو ما ينكشف لهم من أمر المسيح على لسان المحامى الذي يتولى الدفاع عن قضيته، ويعرضها لهم في المعرض الذي يجلّي حقيقته، ويكشف شخصه الكريم.
2- فإنى أرسله إليكم.
وهذه القولة توحى بأن المسيح هو الذي يرسل هذا المحامى، أو بمعنى آخر هو الذي يملك إرسال الرسل، أو بمعنى ثالث هو الإله المتصرف في هذا الوجود.
وهى مقولة إن حملت على ظاهرها هذا كانت إقرارا من اللّه تعالى- الذي هو المسيح- بالعجز عن الدفاع عن نفسه فيقيم محاميا يتولى الدفاع عنه.
وعلى هذا، فإن هذه القولة إما أن تكون قد حرّفت ليستقيم عليها الفهم الذي وقع لأتباع المسيح من أنه هو اللّه، وإما أن تحمل على غير ظاهرها ويكون قول المسيح: إنى أرسله إليكم محمولا على المجاز السببى، إذ لمّا كان وجود المسيح مانعا من وجود المحامى الذي يتولى الدفاع في قضيته، إذ القضية لا تتشكل بصورتها الكاملة إلا بعد أن يذهب المسيح، وتكثر المقولات فيه وفى صلبه وقيامته، فإن ذهاب المسيح هو الذي يهيئ للمحامى سبيلا إلى الظهور، وبهذا يمكن القول بأن المسيح هو الذي أرسله، بمعنى أنه كان سببا من أسباب إرساله!
3- في قوله: ويخبركم بما يأتى فيه إشارة إلى تلك المقولات التي ستقال في المسيح بعد ذهابه، والتي ستشكّل منها تلك القضية التي تولّى القرآن الكريم الكشف عن وجه الحق فيها.
4- قوله: يأخذ مما لى ويخبركم إشارة إلى أن ما يقوله المحامى الذي يتولى الدفاع عن المسيح ليس شيئا غريبا عن المسيح، بل هو ممّا له أي مما اشتملت عليه ذاته، سواء أكان ذلك عن مولده، أو عن بشرّيته كما نطق بذلك القرآن الكريم.
ثم لما ذا أخبر القرآن عن الصلب؟
إنه مجرد خبر.. لا أكثر ولا أقلّ!.
خبر يبهت اليهود، ويفجعهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا!.
إن اليهود على يقين من أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم، الذي عرفوه وعرفهم وسمع منهم وسمعوا منه.
ولم يكن قتلهم له لأنه جدّف على اللّه كما ادّعوا عليه.. وإنما كان لأنه جاءهم بأنه المسيح الذي وعدوا به، وطال انتظارهم له!.
والمسيح الذي رأوه في شخص عيسى ليس هو المسيح الذي عاشوا في أجيالهم يحلمون به، ويتوقعون الخلاص على يديه!.
كان اليهود يحلمون بالخلاص من هذه الفواجع والمآسى التي كانوا يتقلّبون على جمرها، بين الأسر والتشريد.
ولقد كانت الضربات القاسية المدمرة تنزل بهم متلاحتة متعاقبة كما يتعاقب الليل والنهار.. فما يكادون يخلصون من محنة، حتى تستقبلهم أكثر من محنة- ولهذا استبدّ بهم اليأس واستولى عليهم الجزع من توقعات الفواجع المباغتة وطلوع النوازل المهلكة.. فلم يكن لهم- والأمر كذلك- من أمل في الخلاص، إلا أن تتعلق آمالهم وأحلامهم بربّ الجنود يهوه.
وقد امتلأت أسفار التوراة بالرّؤى والأحلام والتنبؤات التي تلقى إليهم من عالم الأوهام بحبال النجاة، فيمدّون أيديهم إليها، وهم يضطربون في هذا البحر اللجىّ المتلاطم الأمواج، فلا يجدون إلا سرابا، لا تمسك أيديهم بشيء منه.
وكانوا كلما تطاول بهم الزمن- وهم فيما هم فيه من بلاء وهوان- أفسحت لهم الأسفار في الآمال، ووسعت لهم في آفاق المستقبل المشرق المسعد فأرتهم الخلاص القريب، وأطلّت عليهم بوجه المخلّص مقبلا بين عشية وضحاها!.
ولهذا باتوا يحلمون أحلاما ملحّة بأن عهد الشر هذا الذي خيّم على ربوعهم قد آن له أن يزول، وأن عهدا جديدا سيشرق عليهم بصبحه، وبهذا يقضى على عهد الشر والألم، إما يتدخل اللّه نفسه، وإما بإرسال ابنه أو ممثله المسيح إلى الأرض.. أو لم ينبئ به أشعيا قبل ذلك العهد- أي عهد المسيح عيسى- بمائة عام، إذ يقول: لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا، أبا أبديا، رئيس السلام؟ (التوراة: سفر أشعياء) وكان كثير من اليهود يتفقون مع أشعياء فيما وصف به المسيح من أنه ملك دنيوى يولد من بيت داود الملكي، ومنهم من يسمونه باسم ابن الإنسان كأخنوخ ودانيال ويصورونه بأنه سينزل من السماء!.
أما صاحب سفر الأمثال، وصاحب حكمة سليمان، فلعلهما قد تأثرا بأفكار أفلاطون أو بروح الأرض التي يقول بها الرواقيون- فقد تصوّراه الحكمة مجسّدة، التي هي أول شيء قناها الربّ، وهى الكلمة أو العقل!!.
ويكاد مؤلفو سفر الرؤيا كلهم يجمعون على أن المسيح سينتصر انتصارا سريعا، ويتفقون جميعا على أن المسيح سيخضع الكفار آخر الأمر ويحرّر إسرائيل، يتّخذ إسرائيل عاصمة له، يضم إليه الناس جميعا ليؤمنوا بيهوه والشريعة الموسوية.. ويسود بعد ذلك عصر طيب تسعد به الدنيا بأجمعها، فتكون الأرض كلها خصبة، وتحمل كل حبّة قدر ما كانت تحمله ألف مرة، ويصير الخمر موفورا، ويزول الفقر ويصبح الناس أصحّاء متمسكين بالفضيلة، وتسود العدالة والصداقة والسلام في الأرض!!.
هذا هو بعض جوانب الصورة التي يتصورها اليهود عن المسيح والتي عاشوا الأزمان الطويلة يحلمون بها.. فلما التقوا بالمسيح في شخص عيسى ابن مريم- كما قلنا- ولم يطلع عليهم بتأويل هذه الأحلام التي طال انتظارهم لها وتطلعهم إليها أنكروا وجه المسيح، وتنكروا له، وأبوا أن يفتحوا أعينهم على هذه الحقيقة، وآثروا أن يظلوا مغمضين أعينهم على تلك الأحلام حتى يجيء المسيح الذي يقع على يديه تأويلها على الوجه الذي يتصورون ويتوقعون! من أجل هذا عجّل اليهود بالقضاء على المسيح عيسى بن مريم وإجلائه من بينهم، لأنه ليس المسيح الذي ينتظرون، وما زالوا إلى اليوم على انتظار لهذا المسيح.. وقد أشار المعرّى إلى هذا بقوله:
يا آل إسرال هل يرجى مسيحكم ** هيهات قد ميّز الأشياء من خلبا!

قلنا أتانا ولم يصلب، وقولكم ما جاء بعد، وقالت أمة صلبا فإذا دخل القرآن في أمر الصلب فإنما يدخل فيه من هذه الجهة التي التي تطلع منها أحلام اليهود بالمسيح، الذي ينتظرون الخلاص والحياة المستقرة الطيبة على يديه.
وقد جاءهم القرآن بما لم يكونوا يحتسبون، فكشف لهم عن هذا الضّلال الذي عاشوا أزمانا متطاولة فيه، ورفع لهم عن ستر الغيب ليروا أن المسيح الذي طال انتظارهم لهم وتعلقت آمالهم به، هو عيسى بن مريم!! وألّا مسيح يرجى لهم بعده! وأنهم وقد فاتهم حظهم منه، فقد أفلت من أيديهم الخير الذي توقعوه وانتظروه.
أفلت إلى الأبد! ولن يعود! هذه واحدة! وأخرى.. هي أنهم ارتكبوا بجهالاتهم وحماقاتهم وغرورهم أبشع جريمة، إذ قتلوا بأيديهم أملا عاشوا له وأضاعوا بأيديهم الشحيحة الممسكة، خيرهم المدخر لهم، وبدّدوا- مع بخلهم القاتل- ثروة طائلة لا تنفد على الإنفاق أبدا.
وثالثة.. هي أنهم وقد حملوا دم المسيح دنيا، وديانة، فإنهم لم يقتلوا المسيح، ولم يصلبوه! إنها حسرة، وحسرة، وحسرات، تملأ قلوب اليهود حزنا وكمدا حين يكشف لهم القرآن عن المسيح الذي حسبوا أنهم صلبوه! هذا، ولم يعرض القرآن لهذا الأمر إلا عرضا، في سياق الزّراية على اليهود، وفضح طواياهم وما اشتملت عليه من سوء! وفى هذا يقول القرآن الكريم: {فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً} [155- 160: النساء] هذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها القرآن حادثة الصلب، وهو إنما يواجه بهذا اليهود، لا أتباع المسيح الذين يؤمنون بالصلب ويقيمون معتقدهم الديني عليه.
وننظر في هذه الآيات فنرى:
أولا: يقرن القرآن مقولة اليهود بأنهم قتلوا المسيح- يقرنها بعملين من أعمال اليهود، بحيث- تبدو هذه الفعلة وإن لم تقع- ممكنة الوقوع منهم، وذلك:
(1) أن لهم تاريخا أسود مع أنبياء اللّه ورسله، يؤذونهم بألسنتهم وبأيديهم، وربما بلغ بهم الشر إلى جريمة القتل- {وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} وقد قتلوا نبىّ اللّه يحيى يوحنّا المعمدان، وذلك بمرأى من المسيح ومسمع!! (2) ثم إنهم مع المسيح خاصة، قد اتّصل أذاهم له، وامتد عدوانهم عليه، فتطاولوا على أمه البتول الطاهرة، ورموها بالفاحشة {وقولهم على مريم بهتانا عظيما}.
فإذا ادّعوا أو ادّعى عليهم أنهم قتلوا المسيح، فتلك الدعوى أشبه بحالهم، وأقرب إلى طبيعتهم.. إنها على الطريق الذي ساروا فيه مع أنبيائهم.
وكم قتلوا من أنبياء وأبرياء! ثانيا: يسجل القرآن على اليهود اعترافهم بألسنتهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه.. فهذا الاعتراف منهم يقضى عليهم بتبعة هذه الجريمة المنكرة.! وليس يدفع عنهم وزرها أن يكون الذي قتلوه شخصا آخر غير المسيح، أو أن يكون المسيح قد دفع عن نفسه سلطان الموت، فقام من بين الأموات كما يعتقد أتباعه.. ذلك أن الجريمة وقعت على شخص عيسى بن مريم حسب اعتقادهم وتقديرهم، وأنهم لم يتركوه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ولفّ في الكفن وأودع القبر.
فإذا وقع بعد هذا ما ليس في تقديرهم، فكان المصلوب شخصا آخر غير عيسى، أو كان عيسى لم يمت كما يموت الناس، فذلك مالا دخل له بحال أبدا كعنصر من عناصر التخفيف لجنايتهم أو حمل وزرها عنهم! ثالثا: أخذ القرآن شهادتهم على أنفسهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه، أخذها من أفواههم وجعل ذلك اعترافا منهم بالجريمة، الأمر الذي لا يحتاج إلى استدعاء شهود غيرهم، بعد أن وصفوا الشخص الذي قتلوه وصفا كاشفا.. فهذه ثلاث صفات يصفون بها الشخص الذي قتلوه.. فهو:
1- المسيح.
2- عيسى بن مريم.
3- رسول اللّه.
وظاهر حالهم تنبئ عن أنهم ينكرون على عيسى بن مريم أنه المسيح وأنه رسول اللّه.. فهم إنما قتلوا حين قتلوا ذلك الشخص الذي يدعى يسوع والمعروف بعيسى بن مريم! ولو عرفوا أنه المسيح لما قتلوه، أو لو عرفوا أنه رسول اللّه لما صلبوه! ولكن القرآن ينفذ إلى الصميم من أعماقهم، ويضبط الشوارد من عقولهم، وإذا حصيلة هذا، هو أنهم يعرفون أن عيسى بن مريم رسول اللّه، وأنه المسيح، ومع هذا فإنهم قتلوه وصلبوه! ذلك أنهم- كما قلنا- كانوا ينتظرون مسيحا يحقق لهم تلك الرؤى- وهذه الأحلام التي انتظروا تأويلها على يد المسيح الموعود الذي حدثهم عنه أنبياؤهم، وتنبأوا لهم بقرب مجيئه وبالخلاص المنتظر على يديه! وإذ طلع عليهم يسوع بأنه المسيح أنكروا أن يكون هو المسيح ثم لا يكون بين يديه هذا الخلاص الذي انتظروه.. فليكن يسوع مسيحا ولكنهم ليس مسيحهم.. وإلا فيا لخيبة الآمال ويا لطول الشقاء.!

ثم إنهم لكى يقضوا على هذا الكابوس المزعج الذي جاء فطرد أحلامهم المسعدة، كان لابد من أن يقتلوا هذا المسيح، وأن يعجّلوا بقتله وأن يمثّلوا به، شفاء لما امتلأت به صدورهم من خيبة أمل وسوء مصير، فكان أن صلبوا المسيح، لا لأنه جدّف على اللّه، بل لأنه قضى على أحلامهم، وجاءهم باليأس القاتل.
لما سمع يوحنا المعمدان وهو في السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه ليقولا له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ (من 11: 3) أما يوحنا فقد أيقن أنه هو المسيح.. وأما اليهود فقد أنكروا أنه هو مسيحهم الموعودون به، لأن مسيحهم كما خيل إليهم يفتح لهم خزائن الأرض ويقيمهم منها مقام المالك المطلق فيها!
إنهم كانوا يستعجلون مجيء المسيح، وها هو ذا يقول إنه قد جاء.. ولكنهم لا يجدون عنده ما يتمنون ويشتهون.. ولهذا كانوا معه على حال من الحيرة القاتلة، والشك المؤرّق! كان عيد التجديد في أورشليم.. وكان شتاء.. وكان يسوع يتمشّى في الهيكل في رواق سليمان فأحاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تلعق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا! أجابهم يسوع: إنى قلت لكم ولستم تؤمنون.
الأعمال التي أنا أعملها باسم أبى هي تشهد لى، ولكنكم ولستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافى كما قلت لكم: خرافى تسمع صوتى وأنا أعرفها فتتبعنى.
(يوحنا 10: 22- 28) مصيبة اليهود مع دعوات الحق التي يدعوهم رسل اللّه إليها، أنهم لا يفتحون لها قلوبهم، ولا يتعاملون معها بعواطفهم ووجدانهم، وإنما ينظرون إلى هذه الدعوات من جانب عملىّ واقعي، يقاس بمقياس المادة، ويحسب بحسابها، ويوزن بميزان النقد المعجّل المقبوض! وليس بهذا المقياس تقاس الأمور العقائدية، ولا بهذا الحساب تحسب مسائل الإيمان..!
ذلك أن الإيمان بمعناه الصحيح إنما يقوم على أشواق ومواجد تولّدها العاطفة المنقدحة من الوجدان! وبغير هذا لا يكون إيمان، وإن كان، فهو إيمان قائم على خواء، لا يلبث حتى يضمر ويموت! إن الإيمان استجابة لدعوة من دعوات الفن الرفيع الجميل.. فإذا لم يكن المدعوّ إلى الإيمان على حظ من سلامة الوجدان ورفاهة الحس، لم تبلغ الدعوة موطن الإيمان منه!
وهؤلاء هم اليهود.. لقد شهدوا على أنفسهم بأنهم أصحاب طبيعة جفّت منها موارد العاطفة، فقالوا ما أخذه القرآن من أفواههم: {قُلُوبُنا غُلْفٌ} أي لا تتأثر كثيرا لهذه المعجزات، ولا تنبهر بتلك الآيات، فكان ردّ اللّه عليهم وحكمه على قلوبهم {بل طبع اللّه عليها} وكانت نتيجة هذا التبلد الغبىّ أنهم لا يخطون إلى الإيمان إلا خطوات بطيئة متخاذلة.. {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي إيمانا ضعيفا مترددا، قائما على شفا جرف هار من الريبة والشك! ولهذا كان إيمانهم بالمسيح عيسى بن مريم إيمانا من هذا القبيل، إيمانا متلبسا بالكفر، ويقينا محوطا بالشك! وهكذا ظل حالهم معه حتى غلب الكفر إيمانهم، وقهر الشكّ يقينهم، فجدّفوا عليه، وحاكموه، وأسلموه إلى الصلب! إنهم كانوا يعرفون عن يسوع أنه المسيح وأنه رسول اللّه، ولكن غلب عليهم طبعهم المشئوم فحجزهم عن الخير، وقصّر بهم عن السعى إليه، وما زال بهم حتى أراهم الصبح ليلا، والحق باطلا، فأنكروه على علم، وجحدوه على معرفة.. {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
هكذا شأن اليهود دائما مع آيات اللّه ومع رسل اللّه.
رابعا: كشف القرآن الكريم لليهود عن تلك الواقعة التي خيل إليهم أنهم طمسوا معالمها وعاشوا على زيفها واطمأنوا إلى باطلها.
ولقد خيّل إليهم الوهم الذي أدخلوه على أنفسهم وألبسوه لباس الحقيقة أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم!. ووقر في أنفسهم أنه لو كان هو المسيح المنتظر لما استطاعوا أن يصلوا إليه، لأنه سماوى لا يخلص إليه أذى من الناس!.
فجاءهم القرآن- وهم يعرفون أنه الحق- جاءهم ليوقظهم من هذه النومة التي نعموا بها، وليزعجهم عن هذا المواطن الذي اطمأنوا إليه في شأن المسيح:
فقال تعالى: {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ}.
هكذا يعلنهم القرآن بهذا الحكم القاطع الجازم!.
يعلنهم دون أن يقيم له حيثيات، أو يأتى له بأدلة وبراهين!.
وحسب القرآن أن يقول قولا وأن يحكم حكما، فيقوم الوجود كله شاهدا له وبرهانا عليه، وهذا الحكم- كما قلنا- يقطع اليهود عن أحلامهم بالمسيح المنتظر، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا، لأنهم تركوا الخير الذي كان بين أيديهم، وتعّلقوا بأوهام وخيالات لا تقع أبدا.. وهذا بعض ما يشير إليه القرآن في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}.
فقد ظلموا أنفسهم وخسروا خسرانا مبينا بتطاولهم على المسيح وبتكذيبهم له، فكان أن حرمهم اللّه هذا الخير الطيب الذي مدّ إليهم من يد كريمة طاهرة، وكان أن أصبح هذا الخير محرّما عليهم إلى الأبد، لا ينالون منه شيئا!.
{وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} وهنا نقف أمام حقيقة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها وهى أن هناك شخصا صلب تحت اسم يسوع بن مريم.
فمن هو ذلك الشخص؟.
اليهود على زعم أنه هو يسوع بن مريم الذي كان يدّعى أنه المسيح ابن اللّه، أو هو المسيح اللّه.
والقرآن يقول إن المسيح عيسى بن مريم هذا لم يقتل ولم يصلب؟.
وإذ يقول القرآن هذا القول، فهو إنما يقول الحق الذي لالبس فيه، ويبقى بعد ذلك أن تقوم الأدلة على نقض هذا القول.. ونقض هذا القول بالبرهان القاطع حكم على القرآن كله بالبطلان، وأنه ليس من عند اللّه، وإنما هو من قول بشر، يجيء بالصدق وبالكذب، وينطق بالحق وبالباطل!.
والقرآن وإن يكن قد واجه اليهود بهذا الحكم فإنه قد ألزم به أتباع المسيح، وأدخلهم ضمنا فيه.
وقد كشفنا من قبل عن العلة التي من أجلها لم يواجه القرآن أصحاب المسيح بهذا الحكم، الذي هو أصل معتقدهم الديني، وقلنا: إن صلب المسيح في ذاته لا يقدم ولا يؤخر في موضوع العقيدة متى عرفت حقيقة المسيح، أهو إنسان من الناس وعبد من عباد اللّه أم هو اللّه أو ابن اللّه؟.. وهذا هو ما التفت القرآن إليه، واهتمّ له، وفصل فيه!.
ونعود إلى حديثنا عن شخص المصلوب.. ومن هو؟.
شخص مصلوب.. هذا ما لا شك فيه بشهادة الأخبار التاريخية المتواترة، وبشهادة القرآن نفسه إذ يقول {وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي خيل إليهم أن المقتول المصلوب هو المسيح!.
والأناجيل هي المصدر التأريخي الذي سجل حياة المسيح، وروى الأحداث التي وقعت له، ومنها حادثة الصلب التي كانت أبرز تلك الأحداث وأهمها.
وقد اختلفت الأناجيل في رسم صورة الحادثة اختلافا يقيم كثيرا من الشكوك والشبه حول شخصية المصلوب بحيث لا يرى المتأمل في الصورة أنه على يقين من أن المصلوب هو المسيح بعينه!.
وشواهد هذا كثيرة يراها من يطالع ما تحدّث به الأناجيل، في هذه الواقعة.. ولا نرى بأسا من أن نجعلها فيما بلى:
فأولا: الأناجيل الثلاثة- مرقس ومتى ولوقا- تحدّث بأن السيد المسيح وقد جاهره اليهود بالشرّ وتوعدوه بالقتل، فزع إلى اللّه يناجيه ويبّثه ما به وقد أعلن تلاميذه أنه قد لا يلقاهم.. وفيما هو في تلك الحال تغيّرت هيأته وظهر له موسى وإيليا!. وفى هذا تقول الأناجيل: وفيما هو يصلّى على انفراد كان التلاميذ معه، فسألهم قائلا: من تقول الجموع أنى أنا؟ فأجابوا وقالوا: يوحنا المعمدان! قال لهم: وأنتم من تقولون أنى أنا؟ فأجاب بطرس وقال: مسيح اللّه! فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد.. إنه ينبغى أن ابن الإنسان يتألم كثيرا ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة وفى اليوم الثالث يقوم! وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتى ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعنى. وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب، وصعد إلى جبل ليصلّى، وفيما هو يصلّى صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضّا لامعا، وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع، يا معلم: جيّد أن تكون هاهنا فنصنع ثلاث يمظال، لك واحدة ولموسى واحدة ولإيلياء واحدة وهو لا يعلم ما يقول وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة تظلّلهم فخافوا- أي التلاميذ- عند ما دخلوا السحابة- أي المسيح وصاحباه- وصار صوت من السحابة قائلا: هذا هو ابني الحبيب، له اسمعو. ولما كان الصوت وجد يسوع وحده، لوقا (9: 18- 37).
ونجد في هذا الخبر أمورا تستلفت النظر:
فمنها، أن شعورا كان متسلطا على اليهود يومذاك بأن القديسيين والأنبياء يمكن أن يقوموا من الأموات، وأن يصلوا من حياتهم ما انقطع بسبب الموت.. ولهذا كان معتقد كثير من اليهود أن المسيح هو يوحنا المعمدان قام من الأموات! ومنها أيضا أن بطرس حين قال للمسيح: أنت مسيح اللّه، انتهره، وأوصى تلاميذه ألا يقولوا ذلك لأحد.. وعلل ذلك بأن ابن الإنسان- أي المسيح- ينبغى أن يتألم كثيرا، وأن يرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وفى اليوم الثالث يقوم.
ولا ندرى- إذا كان المسيح هو المسيح- لما ذا ينكر نفسه؟ ولما ذا لا يلقى الناس على الصفة التي جاء بها؟ إن ذلك هو أول ما ينبغى أن يتحدث به إلى الناس، حتى يعرفوا شخص من يتعاملون معه، والصفة التي له وإلا تقطعت بينه وبينهم الأسباب، وكانت دواعى التناكر والتنابذ أشد وأقوى من دواعى التعارف والتآلف! فكيف ينكر المسيح صفته؟ وكيف للناس أن يعرفوه، وهو يأبى إلا أن يستر حاله عنهم، ويقيم بينهم وبينه حجبا وأستارا، ويكلمهم من وراء حجاب؟ فبأى وجه يلقاهم؟ ومن هو؟ وما صفته التي يخاطبهم بها؟.
ندع هذا وننظر فيما يتكشف من هذا الخبر من ملابسات تتصل بشخصية المسيح قبل حادثة الصلب.
فها نحن أولا نرى السيد المسيح يكشف لتلاميذه عن شخصيته، وأنه المسيح.. مسيح اللّه..! ونراه يدعوهم إلى التمسك برسالته واحتمال الأذى في سبيلها.. فهو مزمع أن يرحل، ومن أراد أن يلحق به في الملكوت الأعلى فلينكر نفسه، وليحمل صليبه كل يوم ويتبعه.
ثم نرى السيد المسيح كذلك وقد انفرد بثلاثة من خاصة تلاميذه: بطرس، ويوحنا، ويعقوب.. وصعد بهم إلى جبل ثم أخذ يصلى.. إنه هنا على موعد مع ربه.. ولقد تغيرت هيئته وصار لباسه مبيضّا لامعا، وظهر له موسى، وإيليا، وأخذت تلاميذه سنة من النوم، فلما استيقظوا رأوا هذا المشهد العجيب الرائع.. ثم رأوا المسيح وصاحبيه قد أظلتهم سحابة، وصار صوت من السحابة يقول: هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا.
ثم تعقّب الأناجيل على هذا الخبر بقولها ولما كان الصوت، وجد يسوع وحده! ونقول: ألا يحق لنا أن نفترض- مجرد افتراض- أن المسيح قد صعد مع صاحبيه موسى وإيليا؟ ثم ألا يقوّى هذا الافتراض أن يقوم إلى جانبه زعم آخر، وهو أن موسى وإيليا إنما ظهرا ليسوع في الوقت الذي قطع فيه الشوط إلى آخره من رسالته، ليصحباه وليؤنساه في طريقه إلى العالم العلوي؟.
ويعترضنا هنا قول الأناجيل ولما كان الصوت وجد المسيح وحده! ونقول إنه كان لابد أن يوجد المسيح أو أن يحتفظ له بهذا الوجود!.
إنه لابد أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة!! وإلا فكيف يكون موقف هؤلاء التلاميذ الثلاثة الذين صحبوه، إذا هم عادوا بغيره؟ ثم كيف يكون موقف تلاميذه وأتباعه إذا رآهم الناس ولم يروا المسيح معهم؟ أيقولون مثلا: إن المسيح قد رفع إلى السماء؟ فمن يشهد لهم بهذا؟ ومن يقبل هذا القول منهم، ويصدّقه؟
لقد أنكر اليهود على المسيح أنه المسيح، وأنكروا عليه أنه رسول من عند اللّه.. وها هم أولاء يتوعدونه ويعدّون العدة للإيقاع به، والقضاء عليه، ثم ها هو ذا يختفى من الميدان.. أفيقبل بعد هذا من أحد أن يقول إن المسيح قد رفع إلى السماء؟ إن هذا القول لأشد نكرا عند اليهود من كل ما تحدّث به المسيح إليهم، وكان داعية لثورتهم عليه، وتربّصهم به؟ لابد إذن أن يظل المسيح قائما في الميدان! وأين المسيح؟ بل أين من يأخذ مكان المسيح؟.
تلك هي المشكلة! ولا سبيل إلى حلّ هذه المشكلة إلا إذا تخففنا كثيرا من منطق العقل- خاصة وأن القضية كلها خارجة عن سلطان العقل- وإلا إذا سمحنا للخيال القصصى والأسطورى أن يقوم بدوره هنا لحلّ هذه المشكلة! عندئذ يتغير وجه الصورة التي تمثلت لنا في حادثة الصلب، كما ترويها الأناجيل، فنرى مثلا يهوذا الأسخريوطي، وهو أحد الحواريّين الاثنى عشر الذين اختارهم المسيح وربّاهم على يديه- نراه وقد اتّجه إلى اليهود الذين كانوا يتربصون بالمسيح، فيدخل عليهم الهيكل ويهتف بهم أن الفرصة قد سنحت لهم ليأخذوا المسيح ويفعلوا به ما يشاءون. وكان ذلك على علم من أصحابه الذين بعثوا به، ليتمّ ما دبروه. وكان تدبير التلاميذ قد سبق هذا العمل، فتخيّروا واحدا من أتباع المسيح فيه بعض مشابه منه، ليكون هو البديل عن المسيح، ويتقبل المصير الذي كان اليهود مزمعين أن يصيروا بالمسيح إليه!
وكان من التدبير أيضا أن تخيّر يهوذا الوقت الذي يقبض فيه على المسيح المدّعى، وهو الليل، كما كان من التدبير أيضا أن يكون المكان بستانا، لا بيتا ولاخلاء.. وفى هذا الزمان وذلك المكان تختلط أشباح الناس، بالأشجار والأغصان التي تتراقص وتضطرب في ضوء الشموع والمشاعل والمصابيح، التي حملها القوم معهم، ليروا طريقهم في هذا الليل البهيم!.
وقد كان! فجاء القوم وخرج إليهم المسيح البديل يسألهم: من تطلبون؟
فيقولون: يسوع! فيقول: ها أنا ذا!.
وفى هذا يقول يوحنّا: وخرج- المسيح- مع تلاميذه عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذا مسلمه، يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميذه، فأخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفرّيسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتى عليه، وقال: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو!! وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم، فلما قال لهم: إنى أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض.. فسألهم أيضا: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري!! أجاب يسوع: قد قلت لكم أنا هو..؟ (إنجيل يوحنا: 18: 1- 9).
إنهم كانوا بلا شك يعرفون شخص المسيح الذي تعلقت الأنظار به في أكثر من موقف من مواقفه الرائعة المذهلة.. ولكنهم في هذا الظلام أو في هذا النّور المظلم، لم يكن في مقدورهم أن يتبينوا شخوص الناس، وأن يتحققوا من ذواتهم.. ولهذا كان سؤال وكان جواب! وقد وضع القوم يدهم على هذا الذي دعاهم إليه وقال: إنه يسوع!.
ثم إنهم ما كانوا يضعون أيديهم عليه حتى أخذته الأيدى والأرجل، صفعا وركلا، حتى لتتغيّر لذلك هيأته، وتكاد تذهب كل معالم شخصيته!.
وفى صورة هذا المسيح البديل نستطيع أن نفسّر كثيرا من تلك المواقف الغامضة، التي كانت تبدو متأبّية على كل تفسير وتأويل.
فهذا يهوذا الأسخريوطي الذي بدا لنا من قبل خائنا ساقط المروءة، يبيع أستاذه ومعلمه بدراهم معدودة، وهو الذي كان إلى يده بيت مال المسيح وأتباعه- ها هو ذا يبدو لنا في هذا التصور حواريّا قائما على العهد الذي بينه وبين المسيح، محتفظا بمكانه بين الاثنى عشر حواريا الذين يقول المسيح عنهم مخاطبا ربه- كما تروى الأناجيل- إن الذي أعطيتنى لم أفقد منهم أحدا ثم هاهوذا بطرس الذي تبع المسيح وأنكره ثلاث مرات لم يكتف بهذا بل سبّه ولعنه- وهو في هذا الموقف أسوأ حالا من يهوذا- نراه هنا لم يكذب حين أنكر معرفته بهذا الرجل، كما أنه لم يأت كبيرة حين سبّ ولعن! لأنه لم يسب المسيح ولم يلعنه، وإنما أنكر البديل، وسبّه ولعنه! ثم هذا الذي كنا نستغربه، ونعجب له من صمت المسيح ومن عيّه عن ردّ الجواب.. أمام رئيس الكهنة قيافا وأمام الوالي بيلاطس.. ثم هذا العجز الظاهر وهذه- الشخصية الباهتة التي رآها فيه هيرودس.
ثم هذا الجزع وهذا الضعف وهذا الصراخ اليائس الذي كنّا نسمعه من المصلوب، ونعجب له كل هذا يبدو مقبولا يقوم على مألوف الحياة، وعلى مستوى الطبيعة البشرية، على حين كان- يبدو غريبا ممعنا في الغرابة أن يصدر من مسيح اللّه، ومن أحد حوارييه وتلاميذه الذين وطّنوا أنفسهم على الموت في سبيل اللّه! فهل رأيت إلى هذا الفرض الذي افترضناه وكيف حلّ كثيرا من المشكلات وقضى على كثير من المتناقضات التي كانت تصادفنا في قصّة صلب المسيح، كما ترويها الأناجيل؟ لقد استقرت أجزاء هذه الصورة وثبتت ملامحها، بعد أن كانت تبدو مهزوزة مضطربة تجمع المتناقضات.! ثم ألا ترى أن قبول هذا الفرض أولى من الأخذ بتلك الأخبار المتنافرة عن صلب المسيح، واعتبار أن المسيح نفسه هو الذي صلب؟
ألا يعفينا هذا الفرض من كثير من المشكلات التي واجهها العقل- واضطرب فيها حين وجد نفسه بين يدى اللّه أو ابن اللّه.. مصلوبا معلقا على خشبة، يصرخ في رعب وفزع واضطراب؟
فإذا جاء بعد هذا شاهد يشهد بأن المسيح لم يصلب، ولم يقتل، أفلا يلفتنا هذا الشاهد إليه، وإلى كل كلمة يقولها في هذه القضية؟ ثم ألا تقوّى هذه الشهادة من الفرض الذي افترضناه وتدنيه من الواقع وتدفع به إليه؟
فكيف إذا كان هذا الشاهد منزّها عن الكذب، لا يشهد إلا بالحق، ولا يقول غير الحق؟ ثم كيف إذا كان الشاهد هو القرآن الكريم، والقول هو قول رب العالمين؟.. وكيف إذا قال هذا الشاهد في صلب المسيح: {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}؟.
هذا، وقد حاول كثير من مفسرى القرآن الكريم من علماء المسلمين أن يقولوا بآرائهم فيما أجمله القرآن ولم يفصّله ويكشف عن وجهه.! ومثل هذه المقولات إنما هي لحساب أصحابها، وليس على القرآن شيء منها، إذ لا تعدو أن تكون أنظارا متجهة إلى آية من آيات اللّه.. قد تتهدّى إلى بعض أسرارها، وقد تضلّ الطريق فلا تعرف شيئا! وللإمام الرازي قصب السبق في هذا المجال، فهو أكثر مفسرى القرآن تقليبا لوجوه الرأى، وجلبا للآراء والأخبار من كل واد، شرحا لمجملات القرآن، وإشاراته.. وفى قوله تعالى {وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} مثل لهذا المنهج في تفسير القرآن:
يقول الرازي في تفسيره لهذا المقطع من الآية الكريمة: اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضوع، وذكروا طرقا:
الأول: قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لمّا قصدوا قتله رفعه اللّه تعالى إلى السماء، فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه وشهدوا على الناس أنه المسيح! الثاني: أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر.. ثم في هذا وجوه:
1- دخل طيطاوس اليهودي المكان الذي فيه المسيح فلم يجده، فألقى شبهه عليه، فلما خرج ظنّ أنه عيسى، فأخذ وصلب!.
2- وكلوا بعيسى رجلا يحرسه، فرفع عيسى إلى السماء وألقى اللّه شبهه على ذلك الرقيب.. فقتلوه وهو يقول: لست بعيسى!.
3- تطوّع أحد أصحابه، فألقى اللّه شبه عيسى عليه، فأخرج وقتل، ورفع عيسى.
4- نافق أحد تابعيه، ودلّهم على عيسى ليقتلوه، فلما دخل اليهود لأخذه ألقى اللّه شبهه عليه، فقتل وصلب! وهذه الوجوه متعارضة متدافعة! واللّه أعلم بحقائق الأمور!! ثم يثير الرازي مناقشة حول هذه المقولات فيجرّحها جميعا، ولا يرتضى واحدة منها.. فيقول: فكيفما كان، ففى إلقاء شبهه على الغير إشكالات:
الإشكال الأول: أنه إن جاز أن يقال إن اللّه يلقى شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة. وأيضا يفضى إلى القدح في التواتر.
ففتح هذا الباب، أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.
الإشكال الثاني: أن اللّه أيده بروح القدس جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده؟ وهو- المسيح- كان قادرا على إحياء الموتى.. فهل عجز عن حماية نفسه!؟.
الإشكال الثالث: أنه تعالى كان قادرا على تخليصه برفعه إلى السماء، فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره؟ وهل فيه إلّا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟.
الإشكال الرابع: بإلقاء شبهه على غيره اعتقد اليهود أن هذا الغير هو عيسى، مع أنه ما كان عيسى، فهذا إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة اللّه!.
الإشكال الخامس: أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم في أمره، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلو أنكرنا ذلك طعنّا فيما ثبت بالتواتر.. والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء.
الإشكال السادس: ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنّه ليس بعيسى؟ والمتواتر أنه ما فعل، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم!.
هذه هي الإشكالات التي أثارها الرازي على القول بأن المصلوب شخص آخر ألقى شبه المسيح عليه.!
وقد عرضنا من قبل رأيا افترضناه فرضا، وهو أن الشخص المصلوب شخصية قدّمها أتباع المسيح- لا اليهود- لتحاكم وتقتل، وذلك بعد أن رفع المسيح إلى السماء مع موسى وإيليا. وذلك لكى يسدّوا هذا الفراغ الهائل الذي تركه المسيح!
وهذا الفرض لا يثير إلا إشكالا واحدا.. وهو أن اليهود قتلوا شخصا هو المسيح بن مريم في اعتقادهم، على حين أن المقتول شخص آخر غيره.. وهذا- كما يقول الرازي- إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة اللّه! وقلنا إن ذلك كان عقوبة لليهود، إذ حملوا دم المسيح دون أن يقتلوه! وفى ذلك ما فيه من الكبت والحسرة لهم! وبعد، فإن قضية صلب المسيح ينبغى أن يعاد النظر فيها، وأن تحقّق تحقيقا علميا، وأن تفنّد الحجج التي تؤيدها والتي تنكرها.. بل إن هذا هو الذي ينبغى أن يقوم له العلماء والدارسون على اختلاف عقائدهم منذ نزل القرآن الكريم وأعلن هذا النبأ العظيم: {وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.
ولو أن البحث في قضية الصلب انتهى بالباحثين إلى تلك الحقيقة التي قرّرها القرآن- وهو لابد منته بهم إليها- لا التقت الديانات السماوية الثلاث على سواء.
فأولا: كاد اليهود يقطعون الشك باليقين في أمر مسيحهم المنتظر الذي يعدّون العدة لاستقباله، الأمر الذي يملأ صدورهم شعورا بالعزلة عن الناس والتعالي عن العالمين، باعتبارهم شعب اللّه المختار، ولنظروا إلى أنفسهم من جديد فرأوا أنهم قد فاتهم خير كثير كان يمكن أن يصل إليهم من هذا الميراث العظيم من تعاليم المسيح وأدبه، وبهذا يلتقون بتلك التعاليم السمحة الكريمة التي تذهب بالكثير من أدوائهم وعللهم، التي تنشر الشر والبلاء في العالم كله.
وثانيا: كان أتباع المسيح يعيشون مع تعاليم المسيح على هذه الأرض، ويغرسون مغارس الرحمة والحب والأخوة في كل مكان، فلا تظل عيونهم معلقة به في ملكوته، بينما تخلو قلوبهم وتصفر أيديهم من هذا الثمر الكريم الذي غرسته يداه في هذه الأرض! وثالثا: كان المسلمون لا يرون هذه الحواجز القائمة بينهم وبين أتباع المسيح في دراسة الأناجيل والتأدّب بآدابها والانتفاع بتعاليمها.. فالمسلمون وإن كانوا على يقين بأن المسيح لم يصلب ولم يكن إلها ولا ابن إله، فإن اعتقاد أتباع المسيح بهذا كله يدخل على المسلمين شعورا خفيا بالحذر من مخالطة الأناجيل، والتلقّى عنها، لما فيها من هذه المقولات التي تخالف معتقدهم الديني وتأخذ طريقا غير طريقه! ونسأل:
ترى أتكشف الأيام عن جديد في قضية الصلب والقيامة؟ وهل تجيء الأيام بتأويل ما نطق به القرآن الكريم في هذه القضية؟
ذلك ما لا نشك فيه.. إن لم يكن اليوم فغدا!.
وأحسب أن كثيرا من إخواننا المسيحيين قد يسوؤهم أن يقع هذا وأن يقول قائلهم- كما يقال- وأين المسيحية التي ندين بها، إذا لم يكن المسيح قد صلب وقام من بين الأموات؟ أمسيحية بغير المسيح مصلوبا ومقاما من بين الأموات؟ ثم أمسيحية بغير الإله يصلب في شخص المسيح، لتكفير الخطايا وغفران الذنوب؟.
ونقول لأولئك الذين يجزعون من القول بأن المسيح لم يصلب، ولم يقم من بين الأموات، ولم يكن إلها ولا ابن إله، وإنما كان عبدا من عباد اللّه ورسولا من رسل اللّه، كما يقول هو عن نفسه، وكما يصرح الإنجيل على لسانه بأنه نبىّ من أنبياء اللّه.. إذ جاء في إنجيل لوقا: في ذلك اليوم تقدّم إليه بعض الفرّيسيين قائلين: اخرج واذهب من هنا، لأن هيرودس- وكان حاكم منطقة الجليل- يريد أن يقتلك، فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغدا وفى اليوم الثالث أكمل، بل ينبغى أن أسير اليوم وغدا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبىّ خارج أورشليم (لوقا: 13: 31- 34).. فالمسيح عند نفسه أنه نبىّ، إذا كان هذا كلامه.. وهو عند أتباعه كذلك.. نبىّ إذا كان هذا مما تصوره كاتب الإنجيل.
نعم- نقول لهؤلاء الذين يجزعون من القول بنفي صلب المسيح وألوهيته- لا عليكم.. فإنكم لو أقمتم نظركم على المسيح إنسانا رسولا، والتقيتم به على هذا الوجه وتعاملتم به على تلك الصفة، لتضاعف هذا الخير الذي تركه المسيح وراءه.
فى كلماته المشرقة وآياته الوضيئة، وكان لكم من هذا الزاد الطيب غذاء صالح تحيا به النفوس، وتطهر به الأرواح وتعمر القلوب.. بالحب والمودة والإخاء.
ولكان لكم في المسيح الإنسان المثل الأعلى والقدوة الصالحة، لما تنزع إليه النفوس من حق وخير وكمال في عالم البشر.. لا تجده الحياة على تمامه وكماله إلا في رسل اللّه وأنبيائه، وفى الصفّ الأول منهم المسيح.. الإنسان.. ابن الإنسان!