فصل: تفسير الآيات (166- 169):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (166- 169):

{لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)}.
التفسير:
قوله تعالى: {لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ} هو رد على المكذبين برسول اللّه، الذين يتهمونه- كذبا- وبهتانا- أنه يدّعى على اللّه هذا الكتاب الذي يقول فيه إنه من عند اللّه.
وقد ردّ اللّه سبحانه وتعالى عليهم بتلك الشهادة القاطعة، بأن هذا الكتاب هو من عند اللّه.. فهو كتاب اللّه، وقد شهد اللّه سبحانه أنه كتابه، وأنه هو الذي أنزله.
وإذ يكون الكتاب المكذّب به، هو الذي يحمل تلك الشهادة التي تشهد له بأنه من عند اللّه، الأمر الذي لا يجرؤ عليه أحد، يقف مثل هذا الموقف، ويواجه بمثل هذا الاتهام- فإن هذا في ذاته دليل على أن الكتاب هو كتاب اللّه، وأن اللّه هو الذي يشهد لكتابه، ولو أن القرآن كان من عمل محمد، لما كان من التدبير الحكيم أن يحمّل هذا القرآن شهادة تشهد له أنه من عند اللّه!! إذ من يصدق هذا، أو يقبله، ممن يدفعون الكتاب جملة، ويتهمون حامله إليهم بالكذب والافتراء!؟
ولكن حين يكون الكتاب هو كتاب اللّه، والرسول هو رسول اللّه، فإنه مأمور بأن يبلغ ما ما يتلقّى من ربّه، وأن يحمل هذه الشهادة ويبلّغها، غير عابئ بما يلقاه به المكذبون من تشنيع وشغب! وهذا أبلغ دليل على أن الكتاب هو من عند اللّه، وليس محمد إلا رسولا مبلّغا له.
وقوله تعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي أنزل اللّه هذا الكتاب الذي أنزل إليك، بعلمه وتقديره، حيث تخيّر له الرّسول الذي هو أهل لحمله وأداء الرسالة المشتمل عليها.
وفى هذا يقول اللّه سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} [124: الأنعام] وقوله سبحانه: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} أي والملائكة يشهدون أن هذا الكتاب هو من عند اللّه، وأنك الرسول المتخيّر.
وشهادة الملائكة قائمة على الحق، لأنهم لا يعرفون الكذب، ولا يتعاملون به.. فهم إذا شهدوا على شيء كان حجة على الناس أن يأخذوا بهذه الشهادة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [18: آل عمران] أي والملائكة وأولوا العلم يشهدون بأن اللّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط.
وقوله تعالى: {وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً} هو دفع لشبهة من يقع في وهمه أن شهادة الملائكة تزكية لشهادة اللّه وتقوية لها.. تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
وإنما شهادة الملائكة هي إقرار بالحق الذي يجب أن يشهد به الوجود كله، وبخاصة أصحاب العقول، وأولوا العلم! وإذا كانت تلك هي شهادة اللّه سبحانه للقرآن الكريم، وهى شهادة الملائكة أيضا له.. فإن الذين لا يأخذون بهذه الشهادة، ويظلّون على ما هم فيه من كفر وعناد، لا يستقيم لهم طريق على الحق أبدا، وأنهم إذ كفروا وظلموا أنفسهم بهذا الكفر، فليس لهم في رحمة اللّه نصيب: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً}.
وقوله تعالى: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} هو كشف عن هذا المصير الذي سيصير إليه هؤلاء الذين كذّبوا بآيات اللّه، ودفعوا شهادة اللّه، وشهادة ملائكته.. فإن طريق الضلال الذي ركبوه هو منته بهم إلى جهنّم، التي سيصلون سعيرها، {خالِدِينَ فِيها أَبَداً}.
وقوله تعالى: {وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} أي أن سوق هؤلاء الكافرين إلى عذاب جهنم، وخلودهم فيها، هو هيّن عند اللّه، وأنّ أخذ هؤلاء الجبابرة العتاة ليس بالأمر الذي يقف دون قدرة اللّه، كما يتصور الذين لا يعرفون اللّه حق معرفته، والذين يرون في رؤسائهم وقادتهم، أنهم في مقام عزيز لا ينال.
وهذا هو بعض السرّ في الإشارة إلى صنيع اللّه بهؤلاء الظلمة الكافرين، الذين هم شيء عظيم في أعين أتباعهم والمستضعفين لهم.. وإلا فإن كلّ شيء هيّن يسير على اللّه.. لا يعجزه شيء، ولا يقف لقدرته شيء!

.تفسير الآية رقم (170):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)}.
التفسير:
بعد أن كشف اللّه سبحانه وتعالى عن هذا المصير المشئوم، الذي سيصير إليه أولئك الذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه، ووقفوا من الرسول هذا الموقف العنادىّ الآثم- جاءت دعوة اللّه للناس جميعا أن يلتقوا بهذا الرسول، الذي جاءهم بالحق من ربهم، وليؤمنوا به، فإن آمنوا فقد كسبوا أنفسهم، واختاروا الخير لها، وإن كفروا، فقد خسروا أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك.. ولن يضرّ كفرهم إلا أنفسهم، فاللّه غنىّ عن إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين.. له ما في السماوات والأرض.. {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم]. وقوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} أي يعلم المفسد من المصلح، وما تخفى الصدور من نفاق وكفر، وما تحمل القلوب من هدى وإيمان.. وهو حكيم اقتضت حكمته أن يجزى كلّ عامل بما عمل.. من خير أو شر.

.تفسير الآيات (171- 173):

{يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)}.
التفسير:
الغلوّ: المبالغة في الشيء، ومجاوزة الحدّ به، والخروج حدّ الاعتدال فيه.. سواء كان ذلك في الدين، أو في غيره.
والاستنكاف: الاستكبار، واستنكف أن يفعل كذا: أي أبى أن يفعله استكبارا.
وهاتان الآيتان تخاطبان أتباع المسيح من أهل الكتاب، وتكشفان لهم عن موقفهم الخاطئ منه، وفهمهم المغلوط له.
وقوله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} أي لا تميلوا بدينكم إلى جانب الغلوّ والمبالغة في نظرتكم إلى الأشياء، وتقديركم لها، والمراد بهذا هو موقف أتباع المسيح منه، وتأليههم له، على حين أن اليهود قد غالوا من جانب آخر فنزلوا بالمسيح إلى درجة المشعوذين، والمجدفين على اللّه، والواقعين تحت لعنته! وقوله سبحانه: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} أي لا تقولوا في اللّه، وفيما ينبغى له من صفات الكمال، إلا الحقّ.
وإنه ليس من الحق في شيء أن يلبس اللّه سبحانه وتعالى هذا الثوب البشرى الذي كان عليه المسيح، وأن يولد من رحم امرأة، ثم يساق قسرا إلى الصلب، ثم يدفن مع الموتى! {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} فهو أولا رسول اللّه.. ورسول اللّه غير اللّه.
وهو ثانيا: كلمة اللّه ألقاها إلى مريم.. وكلمة اللّه غير اللّه.. فكل شيء خلقه اللّه بكلمته {كن} فكان.. كما يقول سبحانه: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [40: النحل] وهو ثالثا: روح من عند اللّه.. ونفخة منه.. كالنفخة التي كان منها آدم، وكالروح التي كان منها الملائكة.
ومن كان هذا شأنه فهو ليس إلها.. لأنه من صنعة إله.. إذ هو مضاف إلى اللّه.. رسول اللّه.. وكلمة اللّه.. وروح من اللّه.
وقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي فآمنوا باللّه إيمانا قائما على تنزيه اللّه أن يكون على صورة خلق من خلقه.. وآمنوا برسله، ومنهم عيسى.
فاللّه هو اللّه ربّ العالمين، وعيسى هو رسول اللّه رب العالمين.. فآمنوا باللّه، وآمنوا برسل اللّه..!
قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} هو تخطئة لهذه الكلمة الخاطئة التي يقولها من يرى اللّه ثلاثة آلهه: الآب، والابن، وروح القدس.. أو هو الأب، والابن، والأمّ.
وقوله سبحانه: {انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ} هو توجيه إلى قولة الحق، وإلى طريق الحق، بعد العدول عن قولة الزور، وطريق الضلال.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ}.
هذا هو الوصف الحق للّه تعالى: {إِلهٌ واحِدٌ} تنزّه أن يكون له ولد، لأنه سبحانه غنى عن العالمين {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ}.
فما حاجته إلى الولد إذا احتاج الناس إلى الأولاد؟
وقوله سبحانه: {وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} إشارة إلى أن التوجه إلى اللّه وحده، هو المعتصم الذي ينبغى أن يعتصم به الإنسان.. فليس بعد قدرة اللّه قدرة، ولا مع سلطان اللّه سلطان.. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [3: الطلاق].
وقوله سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}.
هو بيان لما بين اللّه وبين عباده من حدود.. فاللّه هو اللّه، والعباد هم العباد.. ولن يستنكف أي مخلوق من مخلوقات اللّه أن يدين له بالعبودية والولاء.. لا المسيح ولا غير المسيح.
وإذا كان المسيح هو روح من اللّه. فإنه قد تلبّس بالجسد.. أما الملائكة فإنهم روح من اللّه لم يتلبس بجسد.. فهم- والحال كذلك- أولى من المسيح بأن ينازعوا اللّه في ألوهيته.. ولكنهم هم خلق من خلق اللّه، وعباد من عباده.. لا يستكبرون عن عبادته! فالقول بألوهية المسيح- من هذه الجهة- منقوض، إذ كان الملائكة أعلى درجة منه، وأبعد مدى في هذا الباب الذي دخل منه المسيح إلها مع اللّه، أو إلها من دون اللّه! وقوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً}.
أي ومن يستكبر عن عبادة اللّه، ويتأبّى أن يكون عبدا له، فإنه سيحشر مع من يحشرهم اللّه يوم القيامة، وسيلقى الجزاء المناسب له! {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً}.

.تفسير الآيات (174- 175):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)}.
التفسير:
بعد أن كشف اللّه سبحانه وتعالى ما عليه أهل الكتاب من عمى وضلال، ومن غلوّ في جانب، وتقصير من جوانب أخرى- جاء هذا النداء الكريم، من قبل الحق، دعوة عامة للناس جميعا، أن ينظروا في أنفسهم، وأن يدعوا هذا الضلال الذي هم فيه، وأن يتلفتوا إلى هذا الرسول الكريم، الذي هو برهان مبين، وحجة مشرقة لا يزبغ عنها إلّا ضالّ، ولا يجحد بها إلا هالك، فإنها تحمل بين يديها، هذا النور السماوي، الذي فيه تبصرة لأولى الألباب، وهدى للمتقين! ووصف الرسول الكريم بأنه برهان من عند اللّه، لما يحمل من الأمارات الدالة على أنه رسول رب العالمين- تحدثت به التوراة وتحدث به الإنجيل، وعرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى صفته، فجاء على الوصف الذي يعرفونه.. ثم جحدوه وأنكروه.. فهو حجة قائمة عليهم، ودينونة معلقة في أعناقهم.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} هو بيان للآثار المترتبة على هذه الدعوة الكريمة من ربّ كريم.. فمن استجاب لها، وأقبل على اللّه مؤمنا، مخلصا له الإيمان به وحده، فهو في رحمته وفضله، وهو على نور من ربّه وهدى، لا يضلّ ولا يزيغ.. ومن كان هذا شأنه، وتلك سبيله، فالجنة مأواه، والنعيم نزله.
ومن صدّ عن سبيل اللّه، وحادّ اللّه ورسوله، فهو بعيد من رحمة اللّه، بعيد عن طريقه.. ومن كانت تلك صفته، فالجحيم مستقرّه، والنار مثواه! وقد ذكر القرآن الكريم الجانب المثمر من تلك الدعوة الكريمة، وعرض أهل الإيمان، وما يلقون من فضل وإحسان.. تشويقا للنفوس إلى هذا المتّجه الكريم، وبعثا للهمم والعزائم إلى أخذ حظها من هذا الخير المبسوط.. فتلك هي سبيل العقلاء، وهذا هو مبتغى الراشدين من عباد اللّه.
أما السبيل الآخر- سبيل الغواة والضالين- فلم يذكره القرآن هنا، ولم يجعله وجها مقابلا لتلك الصورة المشرقة، إزراء به وبأهله، وحجبا للعيون أن تصطدم بهذه الصورة الكريهة، التي ينبغى أن ينصرف عنها كل عاقل، وأن يتجنبها كل رشيد!

.تفسير الآية رقم (176):

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}.
التفسير:
هذه الآية مكملة لآيات المواريث التي وردت في أوائل هذه السورة.. وقد جاء في هذه الآيات شيء عن توريث {الكلالة}! وهو من لا عصبة له تتلّقى ميراثه.. فقال تعالى: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ}! والمراد بالأخوة هنا، الأخوة لأم! وفى هذه الآية التي نحن بين يديها، بيان لموقف الأخت، أو الأختين، من أبى المورث وأمه، أو من أبيه.
فإن كان للمورّث الكلالة. {أخت} فلها نصف ما ترك.. وإن كان له أختان أو أكثر فلهما أو لهن الثلثان.
وفى قوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ} أي انها إذ كانت لا ولد لها ولا والد.. فالأخ في تلك الحال هو عصبتها، وهو يتلقى ميراثها بعد أن يأخذ الزوج- إن كان لها زوج- فرضه وهو النصف.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.
أي فإن كان ورثة المرأة التي لا ولد لها ولا والد إخوة من رجال، ونساء، اقتسموا ميراثها بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك بعد الفرض المفروض للزوج، إن كان لها زوج.
وواضح من هذا أن {الكلالة} في الآية الكريمة لا تتناول هنا إلا الرجل في صورة الأخ الشقيق أو لأب- حين يتوفى وليس له ولد أو والد.
أما المرأة في صورة الأخت الشقيقة أو لأب، فهى ليست كلالة، لأن لها عاصب يرثها وهو الأخ، وقد ذكرت هنا استكمالا للصورة التي تقع بينها وبين إخوتها، حين تكون وارثة، ثم حين تكون موروثة! وقوله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} هذا البيان الذي بينه اللّه لكم في هذه الآية، وفى غيرها من آيات القرآن الكريم، هو إرشاد وهداية لكم من الضلال، حين ترجعون إلى ما تقضون به إلى غير بيان من اللّه! وقوله سبحانه {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} هو بيان لسعة علم اللّه، وأن ما يقضى به هو الحق، وما بيّنه هو البيان الحق، الذي ليس وراءه بيان! فالتزموه، واستقيموا عليه، ليكون في ذلك خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم!