فصل: تفسير الآية رقم (4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (4):

{يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)}.
التفسير:
السّائلون هنا هم المؤمنون.. والمراد بهم جماعات منهم، قد سألوا النبيّ تلميحا أو تصريحا: {ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ}؟ وكأنه قد وقع في نفوسهم من عرض هذه المحرمات في صورة مفصّلة أن في ذلك تضييقا عليهم، وأن ما حرّم عليهم أكثر مما أحلّ لهم.. فجاء قوله تعالى عن هذا السؤال المسئول، أو الذي سيسأل- جاء قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} جوابا شافيا لكل وسواس، كاشفا لكل شبهة، في إيجاز معجز، تخشع القلوب لجلاله، وتخضع الأعناق لروعته.
فما أحلّ اللّه هو كل طيب، وما حرّمه فهو كلّ خبيث- هذا هو مناط الحكم في الحلّ والحرمة. وهذا هو فيصل ما بين الحلال والحرام.. فكل طيب هو حلّ مباح، وكل خبيث، هو حرام محظور.. فليست العبرة بكثرة هذا أو ذاك، في الكمّ والعدد، وإنما العبرة بالكيف الذي عليه هذا وذاك.
فما اتصف بأنه طيب، تقبله النفوس الطيبة، وترضاه، فهو حلال، وما اتصف بأنه خبيث، تعافه النفوس الطيبة، وتنفر منه، فهو حرام.
والواقع يحدّث بأن الطيبات كثيرة لا حصر لها، وأن الخبائث قليلة يمكن حصرها، والإشارة إليها، ولهذا أطلق اللّه الطيبات، وجعلها شاملة عامة، وقيد الخبائث، وحصرها في تلك الدائرة الضيقة، وأباح كل ما وراءها.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ} [22: الأعراف] ويقول سبحانه فيما حرّم من خبائث ومنكرات:
{إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [33: الأعراف].
وقوله تعالى: {وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} هو بيان لأمر تشوبه شبهة الحرام، وهو الصيد الذي يصاد بالحيوانات التي يدرّبها أصحابها على الصّيد، كالكلاب والنسور ونحوها..!
والشبهة فيها، هي أن حيوان الصيد قد يدميها بنابه أو مخلبه، أو منقاره، وربما تموت قبل أن تصل إلى يد صاحب الحيوان الصائد لها.
وقد جاء قوله تعالى هنا مبيحا لهذا الأسلوب من الصيد، ولكن قيّدّه بقيود، وهى أن يكون الحيوان المرسل للصيد معلما، ومدربا على صيد الحيوان، وحمله إلى صاحبه، دون أن يتسلط عليه بأنيابه أو مخالبه، لينال منه، كما ينال الحيوان المفترس من فريسته.
وفى قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ} وقوله سبحانه: {مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} إشارة إلى أن هذه الحيوانات المدرّبة على الصيد هي من الحيوانات القابلة للتعليم والتدريب، والواعية لما تتلقى على يد مدربها من خطط الصيد، والمحافظة على ما يصاد سليما، وحمله إلى صاحبه.. ولهذا خاطبها اللّه سبحانه وتعالى خطاب العقلاء بقوله {تعلمونهن} و{أمسكن عليكم} ولم يقل تعلمونها وأمسكت كما هو الشأن في خطاب غير العاقل.. وذلك لأنها حين درّبت، واستجابت لما درّبت عليه كانت أهلا لأن تتّسم بسمة أصحاب العقول.
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي اذكروا اسم اللّه على الصّيد الذي يحمل إليكم من كلاب الصيد هذه، وذلك بذبحها وذكاتها وذكر اسم اللّه عليها بقولكم: باسم اللّه.. اللّه أكبر! وكذلك ينبغى أن يذكر اسم اللّه على الصيد الذي يصاد بالسّهام، وترسل الكلاب المعلّمة للإتيان به بعد أن يصيبه السهم، حيّا أو ميتا.. فذلك هو ذكاة له.
وفى قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} إشارة إلى أن الكلاب هي أصل الحيوانات المعلمة للصيد، وأقربها إلى تلقى التدريب والتعليم. ومن ثمّ كان اسم كلب الصّيد جامعا لكل حيوان أو طير يدرب على هذا العمل.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} تنبيه إلى أن تقوى اللّه، هي ملاك الأمر في الرقابة على تنفيذ أحكام الحلال والحرام، ووضع الحدود الفاصلة بين الطيب والخبيث، إذ كان ذلك أمانة بين العبد وربّه، لا رقيب عليه إلا دينه، ولا وازع له إلا تقواه.. فمن خان اللّه، واستحلّ محارمه فحسابه على اللّه، وهو حساب لا يفلت منه أحد: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ}.

.تفسير الآية رقم (5):

{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)}.
التفسير:
فى قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} ما يسأل عنه.
وهو: ما هو هذا اليوم الذي أحلّت للمسلمين فيه الطيبات؟ ولم كانت مظروفية هذا اليوم هي ابتداء هذا الحكم؟ ثم ماذا كان شأن المسلمين قبل هذا اليوم.
ألم تكن قد أحلت لهم الطيبات؟
والجواب: أولا: أن هذا اليوم هو اليوم الذي تمت فيه أحكام الشريعة، واستوفت غايتها، وهو اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}.
وثانيا: ومنذ هذا اليوم الذي كملت فيه أحكام الشريعة تمّ إحكام الحدود بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث.. فكانت مظروفية هذا اليوم هي الحجاز الفاصل فصلا تامّا بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث.
وثالثا: كان المسلمون قبل استكمال الشريعة متلبسين بكثير من العادات والأعمال التي كانت لهم في الجاهلية.. وقد تعقبها الإسلام، عادة عادة، وعملا عملا، في مدى ثلاثة وعشرين عاما، هي مدة البعثة النبوية، حتى إذا كانت آخر آية نزلت من القرآن كانت الشريعة قد تمت، وكان كل ما لا ترضاه الشريعة ولا تقبله من أتباعها، قد بيّنت حكمها فيه.. وبهذا لم يكن لأحد بعد هذا اليوم أن يحلّ أو يحرّم غير ما أحلت الشريعة وغير ما حرمت! وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ} إشارة إلى أن كل ما أحل للمسلمين هو الطيب الكريم، وأن ما حرم عليهم هو الخبيث الكريه.
قوله تعالى: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} هو من الطيب الذي أبيح للمسلمين تناوله من طعام، وهو طعام أهل الكتاب.
وكذلك لا حرج على المسلمين من أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم! كذلك من الطيبات التي أباحها اللّه للمسلمين {الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ} وهنّ اللائي تنعقد رابطة لزواج بهنّ انعقادا صحيحا بألا تكون المرأة المؤمنة من المحارم، ولا أن تكون في عصمة الغير، ولا في عدتها منه، ولا أن تكون مع وجود أربع زوجات غيرها.. والشأن في المحصنات من المؤمنات، المحصنات من الكتابيات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}.
وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [221: البقرة].
وقوله تعالى: {إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} هو شرط في زواج المحصنات من المؤمنات والكتابيات.. وهو إتيانهن مهورهن.
وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ} هو حال بعد حال، بعد حال، كشرط لحلّ المرأة، وإضافتها إلى الطيبات التي أحلها اللّه، وذلك بأن يكون المراد بالاتصال بها الإحصان، والحماية من الفساد، لا أن يكون الاتصال بها لإشباع الشهوة، والزنا بها، لقاء أجر معلوم، أو اتخاذها خليلة، لا زوجا.. للمتعة، مع التحلل من رابطة الزوجية.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} بيان لأن الإيمان من أطيب الطيبات التي دعا اللّه عباده إليها.
فمن تحلل من الإيمان، وكفر باللّه فقد حرم من كل طيب، وطعم من كل خبيث.. لا يقبل منه عمل، {وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} يلقى اللّه وقد صفرت يداه من كل خير، وأثقل ظهره بكل سوء!.

.تفسير الآية رقم (6):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}.
التفسير:
القيام للصلاة: اتجاه النية إلى أدائها، والتعبير بلفظ القيام للدلالة على عظم قدر الصلاة، ورفعة شأنها، وأنها بحيث تستدعى حضور الوجود الإنسانى كلّه، وقيامه ظاهرا وباطنا للتوجه إليها، ولقائها، بكيان جميع لا يتخلّف منه شيء عن الانتظام في موكب الاحتفاء بهذه الفريضة الكريمة.
وهذه بعض المشاعر التي يثيرها قوله تعالى: {إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} عند من يستصحب معه هذه الدعوة الإلهية، وهو يتهيأ للصلاة، ويأخذ لها وسائلها، الموصلة إليها.
والوضوء إنما يكون بعد طهارة الجسد، والثوب، كالاغتسال من الجنابة ونحوها.
وهو- أي الوضوء- كما بينه اللّه سبحانه في هذه الآية.. {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ} فهذان عضوان يجب غسلهما في الوضوء.. الوجه واليدان إلى المرفقين.. والمرفق هو من منقطع الأظفار إلى آخر الزندا عند مفصل العضد.
وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} هو بيان لتتمة المفروض في الوضوء.. وهو خاص بالرأس، والرجلين.
أما الرأس، فالمفروض هو مسحه باليد، بماء جديد، أي بأن تغمس اليد في ماء الوضوء، ثم يمسح بها على الرأس.. وأىّ ما مسّ الرأس من اليد بالمسح فهن مجز، سواء شمل المسح الرأس كلها، أو معظمها، أو بعضها، قلّ أو كثر هذا البعض! ذلك أن المسح في ذاته لا أثر له في نظافة الرأس، فهو لا يعدو- والأمر كذلك- أن يكون إشارة إلى أن الرأس من الأعضاء المطلوب نظافتها، والالتفات إليها في هذا الشأن.. ولكن لرحمة اللّه بنا، ويسر شريعته علينا، كان الاكتفاء بتلك الإشارة، دون الأمر بغسل الرأس عند كل وضوء، ففى ذلك ما فيه من حرج وإعنات.. وقد عافانا اللّه في ديننا من كل أمر يحرج أو يعنت.
أما الرّجلان.. فقد اختلف في قراءتهما، ولهذا اختلف في الحكم الواقع عليهما.. إذ قرئ: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} بالنصب بعطف أرجلكم على {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} كما قرئ بالجرّ، بعطف أرجلكم على رءوسكم. التي هي أقرب معطوف إليها.
فالذين قرءوا {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب، قالوا إن غسل الرجلين إلى الكعبين فرض، شأنهما في هذا شأن الوجه واليدين إلى المرافق.
والذين قرءوا وأرجلكم بالجرّ.
قالوا: إن حكم الأرجل هنا هو حكم الرءوس، وهو المسح.. أي فامسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. ولكنّ هذا الحكم منسوخ بالسنّة، لما روى البخارىّ عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، قال: تخلّف النبيّ صلى اللّه عليه وسلم في سفر، فأدركنا وقد أرهقنا العصر- أي كاد يفلت منا وقته- فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى- أي رسول اللّه- بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين، أو ثلاثا.
وروى هذا الحديث عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن طريق آخر، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق، تعجّل قوم عند العصر، فتوضئوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسسها الماء، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء».
يقول ابن حزم في التعليق على هذا الخبر: فكان هذا الخبر زائدا على ما في الآية... وناسخا لما فيها.. ولما في الآية (أي من أحكام) والأخذ بالزائد أي ما جاءت به السنة هنا واجب..
أي أنه يؤخذ بما في الآية، وبما جاءت به السنة، مكملا لها زائدا عليها، وهذا وذاك واجب في الوضوء.. فكان غسل الرجلين الذي هو زائد على المسح واجبا.
فابن حزم يأخذ الحكم بوجوب غسل الرجلين من هذا الخبر الذي يروى عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، ويجعل هذا الخبر ناسخا لحكم المسح الذي فهم الآية الكريمة عليه. وكان الأولى من هذا، ألا يضع الآية تحت حكم النسخ، بل أن يجعل هذا الخبر شارحا لمعناها على الوجه الذي فهمها عليه أكثر المفسرين والفقهاء والنحاة، وهو أن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ} حكم مستقل، معترض بين ما سبقه وما تقدمه، وأن قوله سبحانه: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} معطوف على قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ}.
.. وفى هذا صيانة للكتاب من تسليط خبر لم يبلغ حدّ التواتر في نقض حكم من أحكام القرآن.
ثم ماذا لو نظرنا في الآية الكريمة نظرا لا يخضعها لأحكام النحو، ولا يقيمها على موازين قواعده؟ وماذا لو أخذنا من الآية الكريمة لمحة من لمحات إعجازها، فقلنا إن في هذا الوضع الذي اتخذه حكم {الرّجلين} في الوضوء ما يسمح بأن يعطى الرجلين حكما وسطا، يجمع بين المسح والغسل؟.. بمعنى أن يكون المسح عاما شاملا من باطن وظاهر.. إلى الكعبين، وأن يسيل الماء منهما حتى لكأنه الغسل، وأن يكون الغسل شيئا قريبا من المسح، بلا تدليك، ولا تخيل أصابع.. فهو مسح كالغسل، وغسل كالمسح.
وفى هذا ما يتفق مع يسر الشريعة، وتخفيفها على العباد، وخاصة في الأحوال التي يشتد فيها البرد، أو يقل فيها الماء.. وذلك مما يدخل الطمأنينة في شعور المتوضئ أنه أدّى الواجب إذا غسل رجليه هذا الغسل الخفيف، وأنه يدخل الصلاة وقد استوفى حقّ الدخول فيها.. ثم إنه ليس يعنى هذا أن يلتزم المتوضئ هذه الصورة في غسل رجليه.. بل إن له أن يجرى عليهما الماء ما شاء، وأن ينظفهما ما أراد وما استطاع، إذ لا حرج عليه في هذا، وإنما الحرج في ألا يدفع عنه هذا الحرج إذا هو غسل رجليه وكأنه يمسحهما، أو مسحهما وكأنه يغسلهما.. ذلك واللّه أعلم.
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} هو إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلم قبل الوضوء، وهو أن يكون على طهارة من الجنابة.
بالاغتسال، أو التيمم في المرض أو السفر، أو عند فقد الماء.
وفى قوله تعالى {فَاطَّهَّرُوا} إشارة إلى أن المطلوب هو التطهر.. ولم يحدّد اللفظ القرآنى أسلوب التطهر.. أهو بالاغتسال أو بالتيمم.. وذلك لأنه سبحانه قد خفف على عباده، فلم يجعل التطهر بالاغتسال أمرا لازما في جميع الأحوال.. فالمريض، والمسافر، قد أبيح لهما التطهر من الجنابة بالتيمم، وكذلك الصحيح المقيم إذا فقد الماء.. فإذا تيمم أحدهم طهر من الجنابة، وإذا قام للصلاة وجب أن يتيمم للصلاة، وهو على طهارته بتيمم الطهارة من الجنابة.
فانظر إلى هذا الإعجاز القرآنى في قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} وإلى توافق هذا الأمر الإلهى مع قوله تعالى بعد هذا: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}.
ولو كان اللفظ القرآنى: {فاغتسلوا} بدل قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} لوقع تصادم بين هذا اللفظ وبين الحكم الوارد بعده في هذه الآية، والذي جاء مثله في سورة النساء في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً} [43: النساء].. وقد سبق أن شرحناه في موضعه! ولكن كيف يقع التصادم والتخالف في كتاب منزل من رب العالمين، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.. {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} وفى قوله تعالى: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ما يكشف عن جوانب كثيرة من رحمة اللّه بنا، وفضله علينا، وأنه أقامنا على شريعة، لا حرج فيها ولا إعنات، وأن كل ما جاءت به هو تصحيح لإنسانيتنا، وتكريم لآدميتنا، وحماية لنا من دواعى الفساد والعطب.
وفى هذا الذي يلبسنا من نعم اللّه وأفضاله، ما يستوجب الحمد والشكر، وذلك بأن نتلقى أحكام اللّه بالقبول والرضا، وأن نأنس بالحياة معها، والعيش فيها، وأن نستوحش من البعد عنها، أو التفريط في الإمساك بها.