فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (15- 16):

{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}.
التفسير:
{يا أَهْلَ الْكِتابِ} هي دعوة عامة إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
{قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} هو بيان لما يحمله الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى أهل الكتاب من حق يصححون به ما أخفوا من أحكام الكتاب الذي في أيديهم، وما غيّروا وبدّلوا.. وأن كثيرا مما أخفوه وحرّفوه قد تجاوز القرآن الكريم عنه، وترك الخوض معهم فيه، حتى لا يدخل معهم في طريق طويل من الخلاف والجدل، وإنما كان الذي اهتم له القرآن الكريم، ووقف عنده، هو ما كان من الأصول العامة في العقيدة، وهو ما يتصل بالألوهية، وعزلها عن كل ما دخل على مفهومها من ضلال وبهتان.. هذه هي قضية الإسلام الأولى، فإذا استقامت استقام كل شيء بعدها.
وقوله تعالى، {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} هو وصف لهذا الكتاب الكريم، وما يحمل إلى الناس من {نور} هو نور الحق، المهدى من السماء، لينير للناس سبلهم إلى اللّه، وليبدّد الظلام الذي يحجبهم عن الرؤية الصحيحة للحق والهدى.
ووصف الكتاب بأنه نور، ثم وصفه بأنه كتاب مبين، هو غاية ما يمكن أن تكون عليه دعوة الحق في جلالها، ووضوحها، وإشراق شمسها، وأن من لا يرى الحق في وجه هذه الدعوة، ولا يتناوله منها، هو أعمى أو متعام، ليس لدائه دواء، {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [81: النمل].
وقوله سبحانه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} سبل السلام هي طرق الحق، التي يأمن سالكها من كل عطب، ويسلم من كل سوء.. وهى مفعول به لقوله تعالى: {يَهْدِي}.
و{مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ} مفعول ثان له.. والمعنى أن اللّه سبحانه يهدى بهذا الكتاب إلى سبل السلام من اتبع رضوان اللّه، وابتغى مرضاته، فجاء إليه مستشفيا من دائه، مستطبّا لعلته، مستهديا لبصره وبصيرته.. أما من أعرض مستكبرا، ولوى وجهه جاحدا، فهو وما اختار لنفسه: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [17: فصلت].
قوله تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
هو بيان لفضل اللّه ولطفه بعباده الذين يوجهون وجوههم إليه.. إذ كانت عناية اللّه إلى جوارهم، تمسك بهم على الطريق، وتسدد خطاهم إلى الغاية التي يجدون عندها الأمن والسلام.
وفى قوله تعالى: {قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا} وفى إضافة الرسول إلى اللّه بضمير المتكلم، تكريم للرسول الكريم، وتمجيد له، وتعظيم لشأنه، ولشأن ما يحمل بين يديه من ربّه، من هدى ونور.

.تفسير الآية رقم (17):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}.
التفسير:
وإذا كان النصارى- من أهل الكتاب- لم يعرفوا الداء الذي يكمن فيهم، وما يحمل إليهم القرآن من شفاء- فها هو ذا القرآن يضع يده على موضع الداء منهم.
إن جعلهم اللّه هو المسيح بن مريم، هو أصل الداء.. فما كان للّه أن يولد من رحم امرأة، وأن تكون نسبته إليها.
إن الإله الذي يتصور على تلك الصورة، هو إله هزيل، لا تلده إلا عقول لا تعرف جلال اللّه وعظمته، وقدرته.
وأين المسيح الإله وقوته وقدرته، أمام قوة اللّه وقدرته؟
إن أراد اللّه أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا.. فمن يقف لهذه الإرادة، أو يردّ عليها ما أرادت، أو بعض ما أرادت؟
ألم تمت أمّ المسيح؟
وإذا كان في المسيح شك أنه لم يمت بعد، فهل من شك في أنه سيموت؟
لقد مات الأصل، وهو أمّه. فهل يبقى الفرع، وهو المسيح ابنها؟
وقوله تعالى: {يَخْلُقُ ما يَشاءُ} دفع لاعتراض قد يقيم شبهة عند من يرفعون المسيح عن مستوى البشرية إلى مرتبة الألوهية، فإن ميلاده من غير أب- هذا الميلاد الذي يثير في النفس تساؤلات وتصورات- ليس الصورة الفريدة فيما خلق اللّه وأبدع من مخلوقات.. من ملائكة وجنّ وشياطين، وكواكب.. فأى إنسان مهما عظم هو ضئيل بالنسبة لأى مخلوق من تلك المخلوقات.. فإذا نظرنا إلى المسيح في صورته، وجدناه كائنا بشريا، في خلقته وفى سلوكه.. كان جنينا، ثم طفلا، ثم صبيا، ثم شابا، ثم رجلا.
وأكثر من هذا، فإن أتباعه أماتوه صلبا، ثم دفنوه بأيديهم في التراب بعد أن حملوه على أيديهم جثة هامدة! ثم لقد كان له ما للناس في هذه الحياة.. يأكل، ويشرب، وينام، ويصحو، ويبول ويغوط، ويفرح، ويحزن.. إلى غير ذلك مما يجرى على الناس! فأىّ شيء يخرج المسيح من الإنسانية إلى مقام الألوهية؟ ألأنه ولد من غير أب؟
إنه ليس أول من ولد من غير أب؟ إن الذي خلق الأب وخلق الأم لا يعجزه أن يخلق خلقا من غير أب ولا أم.. {يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
إن غرابة المخلوق في ميلاده، أو في شكله، ولونه، وطوله، وعرضه.
إن دلّت على شيء فإنما تدل على قدرة الخالق، لا أن تكون مزلقا إلى الكفر باللّه، والتعلق بالغريب العجيب مما صنعت يداه! فإن ذلك هو الضلال والسّفه، إذ كيف يتشابه الخالق والمخلوق، ويختلط الصانع بالمصنوع!؟

.تفسير الآية رقم (18):

{وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)}.
التفسير:
مما يفسح لأهل الضلال في ضلالهم، ويمدّ لهم في حبل الغواية، أن يتمنوا على اللّه الأمانىّ، وأن يجدوا في هذه الأمانى الباطلة، تعلّة يتعللون بها، وسرابا خادعا يجرون وراءه.
ولقد قامت لكل من اليهود والنصارى دعوى على اللّه، بأنهم أبناؤه وأحباؤه.
فاليهود يقولون نحن أبناء اللّه وأحباؤه.
والحق أنهم ما كانوا إلا أبناء لأهوائهم، وإلا أحباء لشهواتهم.. أمّا اللّه الذين يدّعون عليه هذه الدعوى، فهم أعداؤه وحرب عليه.
إن اليهود قد بدلوا كلمات اللّه وحرفوها، فآذوا رسله، وقتلوا أنبياءه فكيف تستقيم مع هذا دعواهم بأنهم أبناؤه وأحباؤه؟
والنصارى قد ألبسوا اللّه هذا الثوب البشرىّ، وداروا به في الأرض دورة قاسية، يتلقى بها اللطمات واللعنات، ثم ينتهى به الأمر معلقا على خشبة بين لصّين! وقد ردّ اللّه عليهم هذا الادعاء الكاذب، وسلكهم جميعا- اليهود والنصارى- مسلكا واحدا، إذ كان طريقهم على الضلال واحدا.. فقال تعالى: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} أي إن كنتم أبناء اللّه حقا وأحباءه صدقا، فلم تغرقون في الإثم، وتموجون في الخطيئة، وتلقون في النار؟
إن أبناء اللّه وأحباءه، لا يخرجون عن طاعته، ولا يمكرون بآياته! وفى قوله تعالى: {يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} ما يقطع بأنهم معذبون، وأن هذا العذاب إنما استحقوه بما كسبت أيديهم، شأنهم في هذا شأن كل من يكذب باللّه ويخرج عن طاعته! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} فلا محاباة لأحد عند اللّه، ولا كرامة لإنسان عنده، إلا بالعمل الصالح.
وفى قوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى أن اللّه عبادا أرادهم للجنة فعملوا لها، واستحقوا مغفرته ورضوانه، وعبادا أرادهم للنار فعملوا لها، فوقعوا تحت نقمته وعذابه.
يروى عن عمر بن الخطاب وقد سئل عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عنها فقال: «إن اللّه عز وجل لمّا خلق آدم، مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره واستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون».

.تفسير الآية رقم (19):

{يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}.
التفسير:
ومرة أخرى يدعو اللّه سبحانه أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن ينظروا في أنفسهم، وأن يتدبروا أمرهم في موقفهم من هذا الرسول الكريم، الذي جاءهم على فترة من الرسل- أي بعد زمن انقطعت فيه رسالة الرسل- وأن يلتقوا به، ويتعاملوا معه، ويصححوا معتقدهم في اللّه على ما جاء به، فتلك هي فرصتهم، إن اهتبلوها غنموا ونجوا، وإن ضيعوها ضاعوا وهلكوا، ثم لم يكن لهم على اللّه حجة بعد هذا البلاغ المبين! وفى قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} هو قطع لكل علّة يعتلّون بها، في ركوبهم الباطل، وخوضهم في الضّلال.. فليس لقائل منهم أن يقول: {ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} أي رسول من عند اللّه، يكشف لنا معالم الطريق، ويرفع منارات الهدى.
وقوله سبحانه: {فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} هو حجة اللّه عليهم، بما حمل إليهم هذا البشير النذير من حق وهدى.
وفى مواجهة أهل الكتاب- اليهود والنصارى- بهذا الخطاب، من اللّه، دليل على عموم رسالة محمد صلوات اللّه وسلامه عليه، وأنه رسول إليهم كما هو رسول إلى الناس كافّة: {فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يشير إليه أيضا قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} [85: آل عمران].
وفى قوله تعالى. {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وعيد لأهل الكتاب إذا هم لم يستجيبوا لهذا النبيّ، ولم يصححوا معتقدهم على ما جاء به من عند اللّه، وأنهم إذا لم يفعلوا فلن يفلتوا من عذاب اللّه، وأنهم لن يعجزوا اللّه في الأرض، ولن يعجزوه هربا.

.تفسير الآيات (20- 26):

{وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)}.
التفسير:
هذا موقف من مواقف بنى إسرائيل العناديّة مع أنبياء اللّه، وحملة النور والخير إليهم، وإن في ذلك لعزاء وسلوى، للنبىّ الكريم لما استقبل به اليهود دعوته، من كيد وتضليل.. إذ ليس هذا شأن اليهود مع النبيّ وحده، بل هو شأنهم مع كل نبى من أنبيائهم.
فهذا موسى عليه السلام، الذي بعثه اللّه إليهم، لينقذهم من الذلة والهوان، وليطلق سراحهم من يد الأسر المضروب عليهم من فرعون- موسى عليه السلام، الذي أطلق بين أيديهم معجزات آمن بها كهنة مصر وسحرتها، وفلق بهم البحر، ونجاهم من فرعون، وفجّر لهم من الصخر عيونا.. موسى وهذه بعض آياته ومعجزاته، قد أعنتوه والتووا عليه، وخرجوا من يده في أكثر من موقف.
فها هو ذا يدعوهم إلى خير ساقه اللّه إليهم، ويوجههم إلى دار أمن وقرار وعدهم اللّه بها، وهو- عليه السلام- يقدم بين يدى دعوته استعراضا لنعم للّه عليهم، ورحمته بهم.. {يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ}.
فقد جعل اللّه فيهم أنبياء وملوكا، وملوكا أنبياء، يجمعون بين سلطان الدنيا والدين، كما كان ذلك لداود وسليمان عليهما السلام، الأمر الذي لم يكن لأنبياء من قبل، ولا لملوك في الأرض.. فما هو إلا سلطان واحد.. نبوّة أو ملك.. ولكن جمع اللّه لأنبياء بنى إسرائيل النبوة والملك معا.
وقوله تعالى: {وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ} أي من هذه النعم التي تحملها السماء إليهم في صورة معجزات: كالمنّ والسلوى، وكالجمع لأنبيائهم وملوكهم بين النبوة والملك- وهذا من شأنه يقوّى صلتهم باللّه، ويوثق إيمانهم به.. ولكن كانت هذه النعم أسلحة يحاربون بها اللّه، ومعاول يهدمون بها معالم الحق، ومنارات الهدى! واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ} [51 فصلت].
وقوله تعالى: {يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} هو دعوة موسى لهم، إلى نعمة جديدة، بعد تذكيرهم بما للّه فيهم من نعم سابقة سابغة.. فهو لم يدعهم إلّا إلى ما فيه خير عاجل لهم، وهو أن يخرجوا من الصحراء، وأن ينتقلوا من حياة الرعي والخيام، إلى حياة المدينة، والاستقرار! ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا إلى أرض مقدسة، تحفّها رحمات اللّه، وتبارك أرضها.
ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا ليمدّوا أيديهم إلى ما وعدهم اللّه به، وكتبه لهم.. إنها ثمرة طيبة دانية القطوف، لا يحتاج من يريد أن يطعم منها إلى أكثر من أن يمدّ يدّه إليها! ومع هذا فقد أبى القوم أن يتقبلوا دعوة موسى، وأن يصدّقوا وعد اللّه لهم، بل غلب عليهم سوء طبعهم، فخيّل إليهم أن في الأمر شيئا، وأن وراء هذه الدعوة ما وراءها! وموسى عليه السلام، خبير بالقوم، عليم بما ينطوى عليه كيانهم من خبث وفساد.. ولهذا لم يرسل الدعوة إليهم بدخول الأرض المقدسة مطلقة، بل أتبعها بهذا التحذير الذي كان لابد منه في مواجهة قوم كهؤلاء القوم.
{وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} إذ لا ينتظر من هذه الجماعة إلا أن تصطدم مع هذه الدعوة، كما تصطدم الكرة بجدار فترتدّ إلى وراء! وفى التعبير بارتداد القوم على أدبارهم، إشارة إلى أنهم إنما يرتدون إلى الوراء وعيونهم معلقة بالمتجه الذي تتجه إليه الدعوة، وكأن هذا المتجه حيوان مفترس يتحفز للوثوب عليهم.. فهم يسيرون إلى الوراء، على أقفيتهم، وأبصارهم شاخصة إلى هذا الأمر المخيف الذي دعاهم إليه! فهم- والحال كذلك- بين خطر يقع عليهم من تصوراتهم لهذا الأمر الذي يدعون إليه، وخطر يترصدهم، وهم يتدافعون إلى الوراء نحو مجهول لا يرون لهم منه مهربا.
وانظر كيف كانت سفاهة القوم مع موسى عليه السلام.. يدعوهم إلى خير، فيكذّبونه ويمكرون به، ويتخابثون عليه.. ويناديهم متلطفا مترفقا، {يا قوم} {يا قوم} ويردّون عليه في غلظة، وجفاء، واستعلاء: {يا موسى}.
{يا موسى}!! وقاحة، وجبن، ونذالة.
{قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ}.
هكذا كان ردهم على تلك الدعوة الكريمة المترفقة، المحمّلة بالخير والأمن.
إنهم- وذلك دأبهم أبدا- يأخذون دون أن يعطوا، ويجنون مالم يزرعوا.
يأكلون ثمرة الزارعين، ويسرقون جهد العاملين. فلا يريدون أن يدخلوا الأرض المقدسة إلا أن يخليها لهم أصحابها، ويهتفوا بهم: أن أقبلوا.. ولو وقع هذا لوقع في أنفسهم أن يطلبوا إلى موسى أن يهيئ لهم مراكب سماوية تقلهم إلى حيث هم ذاهبون!! إنها طبائع أطفال، وتعلّات صبيان، وأمانىّ جبناء.
ومع هذا الردّ الوقح، فإن موسى لم يعتزلهم، ولم ينه الموقف معهم على هذا اليأس القاطع منهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وقد اختلف المفسرون في هذين الرجلين، وأكثروا من مذاهب القول فيهما، وذهب بعضهم إلى الإدلاء باسميهما.. إلّا أن الأمر الذي أجمع عليه المفسرون هو أن هذين الرجلين لم يكونا موسى وهرون! والذي نقول به ونطمئن إليه، هو أن هذين الرجلين، هما موسى وهرون!! وشاهدنا على هذا، ما توحى به الآيات الكريمة، بل وتكاد تصرح به!
فأولا: الردّ الذي ردّ به القوم على هذه الدعوة، وهو ما جاء في قوله تعالى: {قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ}.
فلو أن هذين اللذين دعواهما بقولهما: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ} لو أنهما كانا غير موسى وهرون لما كان ردهم موجها إلى موسى.. بل كان يكفى أن يقولوا: {لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها}.
وأمّا أنهم واجهوا موسى بهذا الردّ، ولم يوجهوه إلى موسى وهرون معا، فلأن موسى كان هو رجل الموقف، وهرون كان ظهيرا له.
وثانيا: ما جاء في قوله تعالى على لسان موسى: {قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}.
وهذا القول من موسى قاطع بأنه لم يكن في القوم من استجاب له غير أخيه هرون.. وإذن فهو وهرون جبهة، والقوم جميعهم جبهة أخرى.. ولو أنه كان هناك في جبهة موسى وهرون غيرهما لما قال هذا القول: {لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} إذ هو يملك- غير نفسه وغير أخيه- هذين الرجلين اللذين قيل عنهما إنهما قالا هذا القول.
وثالثا: في قوله تعالى: {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ} أكثر من إشارة:
فالذين يخافون هم القوم كلهم، وبلا استثناء أحد.. والمعنى على هذا هو كهذا: قال رجلان من القوم الخائفين، وهذان الرجلان قد أنعم اللّه عليهما فعافاهما من هذا الخوف: اللذى لبس القوم واستولى عليهم.. وفى هذا تعبير للقوم، واحتقار لهم، وإزراء عليهم، ووصمهم جميعا بهذا الداء الذي لا يزايلهم أبدا.. داء الجبن والخوف من كل شيء.
ثم إن في قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ} هو وعد مؤكد بدخول القوم هذه الأرض المقدسة لو أنهم جرءوا واتجهوا إلى العدو ودخلوا عليه الباب.. وهذا الوعد لا يكون إلا عن علم سماوى.. الأمر الذي لم يكن لأحد من القوم أن يقول به، غير موسى وهرون، اللذين هما على صلة بالوحى الإلهى.
هذا، وقد انتهى الأمر بين موسى وتلك الجماعة الشاردة، إلى اليأس، فكان أن اعتذر موسى إلى ربه بقوله: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ (أي احكم) بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} أي الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة اللّه، وامتثال أمره إليهم.. وقد قبل اللّه من موسى ما اعتذر به إليه، واستجاب له ما دعاه به، فحكم بينه وبين هؤلاء القوم الفاسقين.. فكان هذا حكم اللّه فيهم: {فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ}.
إذ ضرب عليهم التيه والضلال في الصحراء أربعين سنة، يضطربون في هذا القبر المطبق عليهم، لا يعرفون لهم وجها للخلاص منه.
ولعل الحكمة في توقيت التّيه بأربعين سنة، هي أن يموت أبناء هذا الجيل الذي كان منه هذا العناد والضلال، فلا يرى أحد منهم الأرض المقدسة، ومن رآها منهم ممن امتد عمره، فإنه يراها في شيخوخة واهية، فلا ينتفع بخيراتها، ولا ينشئ له حياة فيها.. إن هؤلاء الشيوخ الذين يدخلون الأرض المقدسة بعد هذا التيه هم أشبه بالأطفال وبمن لم يبلغوا الحلم من أبنائهم الذين شهدوا موقف آبائهم من موسى ودعوته إليهم.
وهكذا يستدير الزمن بهذه الجماعة بعد تلك السنين الأربعين، فإذا أطفالها رجال، وإذا رجالها أطفال...!