فصل: تفسير الآيات (36- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (36- 37):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)}.
التفسير:
وهذه لفتة أخرى للمؤمنين، إذ يرون فيها أهل الكفر والنفاق والفساد وما أعدّ لهم من عذاب أليم في الآخرة، بعد أن رأوا ما حلّ بهم من نكال في الدنيا.. فإذا أفلت منهم أحد من عقاب الدنيا، لم يكن له من سبيل إلى الإفلات من عذاب الآخرة، وأنه إذا دفع عن نفسه عذاب الدنيا بمال، أو حيلة، أو نحو هذا، فإنه لا دافع لعذاب اللّه الراصد له في الآخرة.
وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} هو تيئيس للكافرين من أن يخلصوا من عذاب الآخرة، ولو كان لهم ما في هذه الدنيا، وما في دنيا مثلها.
وفى وصف العذاب بأنه {أليم} ثم وصفه بأنه {مقيم} استكمال لصورة هذا العذاب، وأنه يجمع بين الألم، واستمرار هذا الألم، الذي يقيمون فيه إقامة دائمة لا نهاية لها.

.تفسير الآيات (38- 40):

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)}.
التفسير:
وإذ جاء في الآيات السابقة حكم اللّه فيمن يحادّون اللّه ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، فقد كان من المناسب أن يرد بعد ذلك حكم السرقة، وجزاء مقترفها، إذ هي ضرب من ضروب الفساد في الأرض.. ثم لأنها لم تبلغ من غلظ الجرم ما بلغت الجرائم السابقة، فقد خرجت من هذا الحكم العام لتلك الجرائم، وأفرد لها هذا الحكم الخاص بها.
والمرأة والرجل سيّان في الحدّ الواجب على السارق، وهو قطع يده اليمنى، من مفصل الرسغ، وذلك لأن اليمنى غالبا هي التي يستخدمها السارق في السرقة، فكان قطعها عقوبة له، وكأنه في نفس الوقت عقوبة لليد التي سرقت! وشرط إقامة الحدّ في السرقة، أن يكوون المسروق مالا مقوّما شرعا.
فسرقة الخمر والخنزير لا قطع فيها، وأن يكون هذا المال محروزا في حرز مالكه وحفظه، فسرقة المال المتروك من غير حرز، ولا حراسة.. لا قطع فيه، ويشترط كذلك أن يكون المال ذا قيمة معتبرة.. وقد قدرها بعض الفقهاء بعشرة دراهم كما قدرها بعضهم بربع دينار.
هذا، وليس ذلك التغليظ في عقوبة السرقة قسوة من الإسلام، واستخفافا بالإنسان، واسترخاصا لوجوده كما يقول ذلك- زورا وبهتانا- من يكيدون للإسلام، ويبيّتون له مالا يرضى من القول.. وإنما ذلك العقاب هو الجزاء العادل الرحيم، إزاء هذا الجرم الشنيع، الذي يعدّه الإسلام من أشنع الجرائم، إذ هو اعتداء على حرمة الإنسان، في أعزّ ما يحرص عليه، وهو المال.
ولا بأس من أن نلفت أولئك الذين يتهمون الإسلام بالوحشية والحيوانية إلى ما جهلوه أو تجاهلوه من حكمة الإسلام، وتقديره السليم العادل لجريمة السرقة، ووزنها بالعدل والقسطاس.. بين السارق والمسروق منه.
فأولا: السرقة اعتداء خفىّ على حرمة الإنسان، واستباحة لماله الذي هو بمنزلة النفس عند صاحبه! وإذا كانت المدنيّة الحديثة قد استخفّت بهذه الجريمة، حتى استباحت سرقة الأمم والشعوب، فإن الإسلام الذي يحترم الإنسان- من حيث هو إنسان، ويرعى حرمته في دمه، وماله وعرضة، كما يقول نبى الإسلام: «كل المسلم على المسلم حرام.. دمه، وماله، وعرضه»- فإن الإسلام لا يستخفّ بهذه الجريمة، بل يضعها موضعها بين الجرائم الغليظة، ولا تأخذه رحمة فيمن لا يرحم الناس، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} [252: البقرة].
وهذا الحدّ الذي فرضه الإسلام لقطع يد السارق، هو بعض ما يدفع اللّه به الناس، بعضهم بعض، وهو بعض فضله على عباده.
وثانيا- ليس القطع في السرقة في مطلق السرقة، أىّ سرقة، بل لابد من توافر شروط تتم بها أركان هذه الجريمة الموجبة للقطع، وهذه الأركان هى:
(1) أن يكون المسروق شيئا ذا قيمة- أي له اعتبار في حياة الناس الاقتصادية.. وكانت هذه القيمة تقدر في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم بربع دينار- أي ثلاثة دراهم-.
وهذا النصاب الموجب للقطع، يقدّر في كل زمان ومكان بحسب قوته الشرائية بالنسبة لعصر النبوة. والمعتبر في هذا هو أنه مال له قيمته، وله أثره، سواء أكان نقدا أو ما يقوّم بالنقد.
(2) أن تقع السرقة في مال محروز، أي أن السارق يسرقه من حرز، فالمال الضائع، والثمر الذي يكون على الشجر بلا حائط يحيط به، والماشية التي لا راعى عندها، ونحو هذا، لا يقام على السارق حد فيه، ولكن يعزّر ويضاعف عليه العرم.
(3) ما أخذ بالفم من ثمر على شجر، وأكل، ولم يحمل منه شيء- لا قطع فيه، ولا تعزير. ومن احتمل شيئا غير ما أكل فعليه ضعف ثمنه، ويضرب نكالا له، وزجرا لغيره.
(4) السرقة في أوقات المجاعات ليس فيها قطع.
(5) هناك ظروف وأحوال يراها ولىّ الأمر، ويقدّرها، في حال السارق، وظروفه، فيعزّره ولا يقطع يده، حيث تلوح له أية شبهة يدفع بها الحدّ، فقد روى عن أميّة المخزومي رضى اللّه عنه، قال: أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم بلصّ قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما إخالك سرقت؟» قال بلى (أي سرقت) فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع، وجيء به، فقال له النبي الكريم: «استغفر اللّه وتب إليه» فقال: أستغفر اللّه وأتوب إلى اللّه.. فقال نبىّ الرحمة: «اللهم تب عليه» ثلاثا.. أي قال النبيّ ذلك الدعاء ثلاث مرات.
(5) يجوز لصاحب المال المسروق إذا ضبط السارق أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، فقد روى أن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم، قال لصفوان ابن أميّة وقد جاء ليشفع فيمن سرق رداءه أي رداء صفوان: «هلّا كان ذلك قبل أن تأتينى به؟».
وقوله تعالى: {فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} هو عزاء لهؤلاء الذين اقترفوا جريمة السّرقة، سواء أقيم عليهم الحدّ فيها، أو أفلتوا من إقامة الحدّ.
وليس عزاء كهذا العزاء الذي يقدمه اللّه إليهم، وقد أفسدوا إنسانيتهم بهذا الجرم الذي ارتكبوه، فجاءهم هذا العزاء في صورة دعوة كريمة من رب كريم، يدعوهم فيها إلى جناب رحمته ومغفرته، إذا هم أرادوا أن يلوذوا بهذا الجناب الكريم، وأن يستظلوا به، وذلك بأن يستشعروا الندم عن جرمهم، وأن يبرءوا إلى اللّه منه بالتوبة والإنابة والاستغفار، فإنهم إن فعلوا قبل اللّه توبتهم وغفر لهم ذنبهم: {ومن يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هو إلفات للطائعين والعاصين جميعا، وأنهم كلهم في قبضة اللّه، يعذب من يشاء منهم جزاء ما ارتكب من إثم، وقارف من ذنب، ويغفر لمن يشاء، فضلا منه وكرما.. فهو القادر على كل شيء، والمالك لكل شيء!
وفى تقديم العذاب هنا على المغفرة- نظر.. إذ كانت رحمة اللّه تسبق غضبه وعذابه أبدا: ولكن إذ كان الموقف هنا موقف محاسبة للمذنبين، ثم مغفرة ورحمة لمن تاب ورجع إلى اللّه منهم- كان ذكر العذاب مقدّما على ذكر المغفرة بالنسبة لهم، ولو تقدمت المغفرة على العذاب هنا لما كان لعقاب المذنبين- مع سبق الرحمة- مكان، ولشملتهم الرحمة قبل أن يؤخذوا بجرمهم، ويقام الحدّ عليهم، وإلا لسقطت الحدود، واضطرب نظام المجتمع! فكان تقديم العقاب أخذا لحق اللّه وحق العباد أولا، ثم تجيء مغفرة اللّه ورحمته، فتمحو آثار هذا العقاب وتعفّى عليه، لمن وجّه وجهه إلى اللّه، وطلب الصفح والمغفرة.
وقدّم السارق على السارقة.. لأن الرّجل أجرأ من المرأة على السرقة، وأكثر تمرسا بها.. كما قدّمت المرأة على الرجل في جريمة الزنا، في قول اللّه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} لأن هذه الجريمة لا تتم إلا بالرجل والمرأة معا، والمرأة هي صاحبة الموقف هنا، وبيدها الأمر فيه، لأن الرجل طالب وهى مطلوبة، فإذا لم تعطه نفسها، ولم تمكنه منها فاته مطلوبه ولم تقع الجريمة.

.تفسير الآية رقم (41):

{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)}.
التفسير:
هذا عزاء وتسرية للرّسول الكريم، عن هذا الحزن الذي كان يقع في نفسه من أولئك الذين يتخذون دين اللّه لعبا ولهوا، يلبسه أحدهم كما يلبس الثوب، يستر به جسده من لفح الزمهرير، أو وهج الحرور، فإذا أمن الحرّ أو البرد، طرحه، وبدا للناس عاريا.
إن هؤلاء المتلاعبين بالدين لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولم يعتقدوه عقيدة، تستولى على قلوبهم، وتختلط بمشاعرهم.. ومن هنا كان استخفافهم به، وتحولهم عنه، إذا أوذوا في أموالهم أو في أنفسهم، أو إذا لاح لهم في أفق آخر لمعة سراب لعرض زائل من عروض الدنيا.
ومثل هذا الإيمان لا وزن له، والمؤمنون إيمانا كهذا الإيمان لا حساب لهم في المؤمنين.. إن ضررهم أكثر من نفعهم، وخروجهم من الإيمان خير من دخولهم فيه.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} هو كما قلنا عزاء وتسريه للرسول، كما أنه تهوين لشأن هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام بكلمة ألقوها على أفواههم، ثم خرجوا منه بكلمة قذفوا بها من أفواههم.. فخسارة الإسلام فيهم- إن بدت في ظاهر الأمر خسارة- ليست في حقيقتها إلا كسبا للإسلام وللمسلمين، إذ قطعت هذه الأعضاء الفاسدة من جسد المجتمع الإسلامى، وعزلت عنه هذا الداء الخبيث الذي يندسّ في كيانه، ويعمل على إضعافه وإفساده.
وفى قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا} هو عطف على قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}.
فالذين يسارعون في الكفر فريقان:
فريق من غير اليهود.. من جفاة الأعراب، الذين وصفهم اللّه بقوله سبحانه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [101: التوبة] واليهود، وهم الذين أشار إليهم اللّه سبحانه وتعالى هنا بقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا} ومسارعة الذين هادوا إلى الكفر، إما أن تكون بعد دخول بعضهم في الإسلام ثم نفاقهم فيه، أو أن تكون مسارعتهم بالكفر بما في أيديهم من الكتاب، إذ أنكروا ما فيه من آيات تحدّث عن الرسول الكريم، وتبشر به، وتدعو إلى مؤازرته والإيمان به.. فقد حملهم العناد على أن يكفروا بهذا الذي يحدثهم به كتابهم عن؟؟؟
وعن الأمارات التي يجدونها دالة عليه في كتابهم.. وكان ذلك إسراعا منهم في الكفر، وخروجا من الدين جملة.
وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} هو صفة لهؤلاء الذين يسارعون في الكفر من الفريقين.. والأعراب، وأشباههم من ضعاف الإيمان من غير اليهود، يلقون أسماعهم إلى الأكاذيب التي يذيعها المنافقون عن الإسلام والمسلمين، وعامّة اليهود يعطون زمامهم لأهل العلم فيهم، ويتحدثون إلى النبي وإلى المؤمنين بما يلقيه علماؤهم في آذانهم، دون أن يجرؤ هؤلاء العلماء على لقاء النبي ومواجهته بهذه الأكاذيب وتلك الأباطيل، لأنهم يعلمون كذبها، وأنهم مفضوحون إن واجهوا النبيّ بها.
وقوله سبحانه {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ} هؤلاء هم العلماء من أحبار اليهود، يحرّفون كلمات التوراة من بعد أن استقرت في أماكنها، ولم يكن ثمة سبيل إلى تبديلها. والتحريف هنا هو في فساد التأويل والتخريج، وكتمان بعض، وعرض بعض.
وقوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} هو بيان لضرب من ضروب التحريف، والفساد في التأويل. إذ يقيم علماء اليهود عامتهم على رأى خاص محرّف، ويقولون لهم إن قبله محمد منكم فاقبلوه منه، ووافقوه عليه، وإن لم يقبله فاحذروا أن تأخذوا بما يدعوكم إليه، مخالفا لهذا الرأى الذي أنتم عليه.
وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} هو تعقب فاضح لهذا الموقف اللئيم الذي يقفه علماء اليهود من دينهم الذي يدينون به، فقد فتنوا هم فيه وأفسدوا على أتباعهم دينهم، بهذه التأويلات الفاسدة المنكرة.
وإن هؤلاء الفاتنين والمفتونين معا صائرون إلى هذا المصير المشئوم، إذ كان موافقا لطبيعتهم، مستجيبا لأهوائهم.. فأخلى اللّه بينهم وبين أهوائهم، فلم يمد إليهم يد الهداية والتوفيق.. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} [8- 9- 10: الليل].. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: في خاتمة هذه الآية: {أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: {أُولئِكَ} عرض كاشف لهم في هذا الوضع السيّء، مطرودين من رحمة اللّه، واقعين تحت نقمته، {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ}، حيث يشهد الناس كذبهم، ونفاقهم، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
فإن كان في وجوههم صفافة تحتمل هذا الخزي، ولا تبتلّ بقطرة من عرق الخجل والحياء، في الدنيا، فإن جلودهم- ولو كانت في بلادة الحجر، أو صلابة الحديد، فلن تدفع عنهم حريق جهنم أن ينفذ إلى ما وراءها من لحم وعظم، وأن يجعلهم كتلا من جمر، وحمم.

.تفسير الآية رقم (43):

{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)}.
التفسير:
هاتان الآيتان تستكملان الصفات الذميمة التي دمغ اللّه بها اليهود، وجعلها طبيعة قائمة فيهم، ولم يذكرهم القرآن هنا، بل جاء بالوصف الدال عليهم، هكذا: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فما أحد أكثر من اليهود كذبا، ولا أجرأ منهم عليه.. وحسبهم أن يكذبوا على اللّه، وأن يحرفوا كلماته، وأن يقولوا على اللّه ما لم يقله اللّه.. وما أحد آكل من اليهود للسّحت، وهو الحرام الذي يلبسونه وجه الحلال كذبا وافتراء وبغيا وعدوانا.
وقوله تعالى: {فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
قيل في سبب نزول هذه الآية إنه وقعت في اليهود جريمة زنا بين كبيرين من كبرائهم، وكان حد الزنا في الإسلام يومئذ هو ما جاء في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يكن جاء بعد ما جاء في عمل الرسول من رجم المحصنة والمحصن.. فأراد اليهود أن يفيدوا من هذا الحكم الذي جاء في الإسلام، وأن يأخذوا صاحبيهما- الزانية والزاني- بالحدّ الذي شرعه الإسلام، وهو الجلد، وأن يحموا الزانية والزاني من الرجم، لما لهما من منزلة عندهم.
ولا شك أن هذا تلفيق في الدين، فإما أن يكونوا يهودا على شريعة اليهود، فيقيموا حكم التوراة- وهو الرجم هنا- على صاحبيهما، مهما كانت منزلتهما، وإما أن يكونوا مسلمين فيقام عليهما حكم الإسلام وهو الجلد.
ولكن هكذا اليهود.. يأخذون من الأحكام الشرعية ما يرضى هواءهم، فإن لم يكن بالتحريف والتبديل، كان بالتحول من شريعة إلى شريعة، ومن دين إلى دين، حسب الحال الداعية إليه.
وقد جاءوا إلى النبي- صلى اللّه عليه وسلم- يسألونه الحكم في هذين الزانيين، فسألهم الرسول: ما حكم التوراة فيهما؟ فقالوا: الجلد بحبل مطلىّ بالقار، وعرض الزانيين على الناس، يطاف بهما وهما على حمار بن، في وضع مقلوب.
فقال لهما النبي صلى اللّه عليه وسلم: «كذبتم، الحكم في التوراة هو الرجم» فأنكروا.. ثم فضحهم اللّه، فشهد شاهد من علمائهم: أنه الرجم.. فأمر الرسول بإمضاء حكم التوراة فيهما، ورجمهما.
وقوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ} استنكار لموقف اليهود، وتحكيمهم النبي صلى اللّه عليه وسلم في أمر هو من شئون دينهم الذين هم عليه- وحكم التوراة واضح في هذا الأمر.
ثم كيف يحكمون النبيّ وهم لا يؤمنون به، ولا يعترفون برسالته، ولا بالكتاب الذي في يده؟ إن ذلك لم يكن لطلب حق، ولا ابتغاء هدى، وإنما كان إشباعا لأهواء، وإرضاء لشهوات، وتحللا من حكم شرعى قائم بهذا التأويل الفاسد الذي ذهبوا إليه، بالانتقال- في هذه الحالة- من دين إلى دين.
وقوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} هو فضح لما عليه اليهود من ضلال ورياء في الدين- إنهم لا يقبلون من النبيّ إلا ما وافق أهواءهم، وهم ليسوا بالمؤمنين، بما يأخذون أو يدعون من شريعة النبي،.
ثم إنهم ليسوا بالمؤمنين إطلاقا، لا بدين محمد، ولا بالشريعة التي هم عليها.
وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: {وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} تشنيع عليهم، واستدعاء لكل ذى نظر أن يمسك بهم، وهم على هذا الكفر الذي يعيش معهم.