فصل: تفسير الآيات (57- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (57- 58):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)}.
التفسير:
دعوة أخرى من اللّه- سبحانه- إلى المؤمنين أن يجتنبوا هؤلاء المنافقين والكافرين، الذين يهزءون بهم وبدينهم، ويتخذون من أحاديثهم في المجالس معرضا للسخرية بالمسلمين والزراية بدينهم.. وهذا أقل ما فيه هو أن يغار المسلم على دينه، وأنه إن لم يستطع قطع هذه الألسنة التي تهزأ بدينه وتسخر منه، فإن أضعف الإيمان في هذا الموقف هو أن يتجنب هؤلاء الساخرين المستهزئين، وأن ينظر إليهم نظرة العدوّ المتربص به، فلا يأمن له، ولا يركن إليه.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إشارة إلى أن الغيرة على الدين، والانتصار له ممن ينتهك حرمته، هو من تقوى اللّه، وأن موالاة أعداء الإسلام، والكائدين له، والمستهزئين به، هو مما يبعد عن التقوى، ويحجز المؤمن عن أن يكون من المتقين.. فإذا كان المؤمن مؤمنا حقّا، فليتق اللّه.. وأول مداخل التقوى إلى اللّه، هو توقير اللّه، وتوقير دينه، والغيرة على حرماته، والدفاع عنها، واعتبار كل عدوان عليها منكرا، يدفعه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.. كما يقول ذلك النبيّ الكريم في حديثه الشريف.
وقوله تعالى: {وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً} هو استحضار لصورة من صور الهزء والسخرية التي يحارب بها الإسلام، في محيط الكافرين، والمنافقين، ومن في قلوبهم مرض.. وفى عرض هذه الصورة ما يثير مشاعر المسلمين، ويلفتهم إلى هذا العدوان الذي يرميهم به أعداؤهم، وهم في هذا الموقف العظيم، بين يدى رب العالمين.. فإن كل مسلم ينتظم في صفوف المسلمين للصلاة يصيبه رشاش من هذا الأذى الذي يرمى به أعداؤهم في أعقاب المسلمين، وهم ركّع وسجود.. ولن يطهّر هذا الأذى، ويذهب بهذا الرجس، إلا بأن يأخذ المسلم بحقّه من هؤلاء الذين اعتدوا عليه، وآذوه في دينه! وقوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} هو تسفيه لهؤلاء الذين يحادّون اللّه ورسوله، ويهزءون ممن يولّى وجهه إلى اللّه، راكعا وساجدا.
ولو عقلوا لعلموا أنهم بعملهم هذا، يحاربون اللّه ويصدّون الناس عن أداء حقّه عليهم من الولاء لجلاله، والشكران لنعمه إنهم ظلموا أنفسهم ظلما فوق ظلم ظلموها أولا: إذ لم يؤدّوا حق اللّه عليهم، وظلموها ثانيا: إذ يصدّون الناس عن عبادة اللّه، بهذا الاستهزاء الذي يلقونه إليهم وهم بين يدى اللّه.

.تفسير الآيات (59- 60):

{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ} هو نداء مطلق لأهل الكتاب، وخاصة اليهود، وليس المراد بهذا القول أن يلقاهم النبيّ به، وأن يبلغهم إيّاه، وإنما هو قول موجّه إلى النبيّ وإلى المؤمنين. تنكشف به حال أهل الكتاب، وموقفهم العنادىّ من المؤمنين.. وليس يمنع من هذا أن يستمع اليهود إلى هذا القول، وأن يعرفوا رأى القرآن فيهم، إذ كانوا دائما يتتبعون أخبار النبيّ وما ينزل عليه من كلمات ربّه، ليبحثوا فيها عن شبهة، يضلّون بها المؤمنين، ويفتنونهم في دينهم.
وفى هذه الآية يرى المؤمنين أن هذا الموقف العنادىّ من أهل الكتاب الذي يقفونه منهم، لا سبب له، إلا إيمان المؤمنين باللّه، وما أنزل عليهم من قرآن، وما أنزل على النبيين قبلهم من كتب اللّه.. ذلك في حين أن أكثر أهل الكتاب {فاسقون} أي خارجون على دين اللّه، منكرين أو متنكرين لرسل اللّه وكتب اللّه.
تلك إذن هي أسباب هذه الحرب الخبيثة التي يعلنها اليهود على المؤمنين.. إنها عداوة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين من استجاب للّه ورسله، ومن حادّ اللّه ورسله.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} الإشارة هنا إلى موقف أهل الكتاب هؤلاء، ونقمتهم على المؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم مؤمنون.. وهذا موقف يورد صاحبه موارد البوار والهلاك، وهذا هو المصير الذي سيصير إليه المعاندون من أهل الكتاب، الذين وقفوا من النبيّ ومن دعوته إلى الإيمان باللّه، هذا الموقف.. ثم إذ يعرض القرآن اليهود المعاصرين للنبوة في هذا المعرض، ينتقل بهم في لمحة خاطفة تردّهم إلى الماضي البعيد، وتشرف بهم على آبائهم وأجدادهم، الذين كان لهم موقف من رسل اللّه كهذا الموقف الذي يقفونه هم من رسول اللّه، ومن المكر بآيات اللّه، فكان عقابهم أليما شديدا، إذ جعل اللّه منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، بهذه اللعنة التي رماهم اللّه بها، فمسخت آدميتهم، ونسخت طبيعتهم، فإذا هم قردة وخنازير في صور آدمية، يعبدون الطاغوت، ويوالون الشيطان.. والأبناء يعرفون عن يقين خبر هذا البلاء الذي حلّ بآبائهم، فكانوا مثلة في الناس. فإذا كان هؤلاء الأبناء لم يمسخوا بعد قردة وخنازير وعبدة للطاغوت، فإنهم على الطريق الذي يقودهم إلى هذا البلاء، إذا هم ظلّوا على هذا الموقف من النبيّ، ومن دعوته، ولم يفيئوا إلى السلامة والعافية، بموادعة النبيّ أو متابعته على دينه.
وفى التعبير عن العقاب الأليم هنا بلفظ المثوبة، التي يعبّر بها في مقام الجزاء الحسن- في هذا ما يشير إلى أن هذا العقاب هو الجزاء الحسن الذي يحلّ باليهود، إذا هو قيس بما وراءه من ألوان العقاب والنّكال، الراصد لهم!

.تفسير الآيات (61- 63):

{وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)}.
التفسير:
النفاق هو الصفة الغالبة على اليهود، فهو توأم الحسد الذي يملأ قلوبهم ضغينة وحقدا على الناس.
فهم إذا التقوا بالمؤمنين لأمر ما بيّتوه في صدورهم، أظهروا الإيمان، حتى يطمئن إليهم المؤمنون، ويأمنوا جانبهم.. وهم على الحقيقة ليسوا من الإيمان في شيء.
وفى قوله تعالى: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} تغليظ لكفرهم، وتجسيم له، لكثافته، وإطباقه عليهم، حتى لكأنه يكاد يكون كائنا محسوسا، يعيش معهم كما يعيش بعضهم مع بعض.. {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ}.
إنه أشبه بالوليد تحمله أمّه على صدرها، حتى لكأنه قطعة منها، تغدو به، وتروح به، لا تدعه بعيدا عنها لحظة واحدة.. وقد حسبوا أنهم أخفوا هذا الكفر الذي يحملونه في صدورهم، ولكن اللّه أعلم بما يكتمون، لا تخفى على اللّه منهم خافية.
قوله تعالى: {وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أي أن كثيرا من هؤلاء اليهود، يأتون المنكرات في غير تحرّج أو تأثّم، بل يفعلونها وكأنها قربات يتقربون بها إلى اللّه.. فهم يلقون بالكلمات الكاذبة، الآثمة وكأنّهم يرتّلون مزمارا من مزامير داود، وهم يعتدون على حرمات اللّه، ويستبيحون محارمه، وكأنهم يتناولون طعاما شهيا، على جوع وحرمان، وهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وكأنها مائدة عيسى المنزلة عليهم من السماء! وهذا كله يكشف عن ضمائر ميتة، ومشاعر متبلّدة، لا تتأثّم من إثم، ولا تعفّ عن محرّم.
وفى قوله تعالى: {لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} حكم يدين أفعالهم تلك، ويدمغها بالسوء، الذي يردى أهله، ويهلك المتلبّسين به.
وقوله تعالى: {لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} هو تشنيع على علماء اليهود، وأهل الرأى فيهم، وأنّهم لا ينكرون هذا المنكر الذي يعيش فيه أتباعهم، ويموج فيه عامتهم، وهم الأعين المبصرة فيهم، ولكنها أعين ترى الحق فتصدّ عنه، وترى النور فتعشى به.
وقوله تعالى: {لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ} هو توبيخ لهؤلاء العلماء، ووعيد لهم، إذ عرفوا الحق وكتموه، ورأوا المنكر وسكتوا عنه أو أجازوه.
ولهذا وصف اللّه عملهم هذا بأنه ليس مجرد عمل، بل هو صنعة، أي عمل مع علم، على حين وصف عمل أتباعهم بأنه عمل لأنه عمل لا يستند إلى علم، وإنما مستنده أوهام وأباطيل.. {لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.

.تفسير الآية رقم (64):

{وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)}.
التفسير:
لم تقف جرائم اليهود عند حدّ التطاول على الأنبياء، والاعتداء على أموال الناس وأكلها سحتا وعدوانا، بل لقد تطاولوا على اللّه سبحانه وتعالى، وتعاملوا معه كما يتعاملون مع النّاس، فقالوا فيه سبحانه تلك القولة المنكرة: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} أي ممسكة، بخيلة، حتى لكأن غلّا يمسكها، وقيدا يقيّدها عن البذل والعطاء!.
إنهم لا يرضون بما في أيديهم من هذا المال الكثير الذي سلبوه من الناس، وجمعوه من كل وجه حرام.. بل هم يريدون أن تتحول الجبال ذهبا، يكون لهم وحدهم، لا ينال أحد غيرهم ذرة منه.
إنهم يريدون اللّه أن يكون مترضيّا لأهوائهم، مستجيبا لهذا الجشع الذي لا يشبع أبدا.. فإن لم يفعل ذلك كان عندهم إلها بخيلا ممسكا، لا يستحق أن يحمد أو يعبد!.
وقد أخذهم اللّه سبحانه بهذه القولة العظيمة، فجعل عقابهم من جنس عملهم: {غلّت أيديهم}.
فهذا هو حكم اللّه عليهم بما جدّفوا هم عليه به.
فجعل أيديهم شحيحة ممسكة، لا تنضح بخير أبدا، ولا تجود بمعروف أبدا.
يجمعون المال، ويشقون في جمعه، ثم لا ينعمون بهذا المال، ولا ينالون منه ما ينال أصحاب المال من أموالهم من متع الحياة ونعيمها.. فهم هكذا أبدا.
كائنات مشتتة في كل وجه من وجوه الأرض، تجمع المال، وترد موارد الهلاك في سبيله، وأيد شحيحة لا تنفق من هذا المال، ولا تنتفع به.
{كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
وليس هذا وحده هو حكم اللّه فيهم، وعقابه لهم، على تلك الكلمة الفاجرة، بل لقد رماهم اللّه بعقوبة أخرى، هي آلم وأنكى.. إذ صبّ عليهم لعنته:
{وَلُعِنُوا بِما قالُوا}.
فهم لعنة تمشى على الأرض، لا يراهم النّاس إلا كانوا منهم في وجه عداوة وبغضه، وإلّا موضع بلاء وانتقام.. {مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [61: الأحزاب].
وقوله تعالى: {بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ}.
تلك هي يد اللّه، عطاؤها جزل، ومواهبها تفيض على الأرض والسماء.. له ملك السموات والأرض.. ينفق كيف يشاء، حسب ما يقضى علمه، وكما تقدّر حكمته.
وفى قوله سبحانه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً} إشارة إلى أن هذا الذي نزل على محمد من هدى ونور، هو مما بسطته يد اللّه لعباده من رزق، وإنه لرزق كريم، فيه الغنى كلّه، والسعادة كلها.
وهؤلاء القوم مدعوّون فيمن دعوا.. إلى هذا الرزق الكريم، وإلى هذا العطاء الجزل، ولكنّهم لم يستقبلوا هذا الخير استقبال النعم، بالحمد والشكر، بل زادهم ذلك طغيانا إلى طغيان وكفرا إلى كفر.. ولن يكون حالهم أحسن من هذا الحال، لو بسط اللّه لهم في الرزق، من مال وغيره.. إنهم لن يزدادوا به إلا طغيانا وكفرا.. فهذا شأنهم مع كل نعمة من نعم اللّه.
قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} هو لعنة من لعنات اللّه على هؤلاء القوم، تقطع معهم مسيرتهم في الحياة، متنقلة بهم من جيل إلى جيل، إلى أن تقوم الساعة.. فالعداوة قائمة بينهم، يطعمون منها طعاما خبيثا، يملأ كيانهم حقدا وبغضا، لا يطمئن لهم قلب، ولا يستريح لهم بال، فهم في حرب مستعرة فيما بينهم، وهم في حرب متصلة بينهم وبين الناس جميعا.. يبغضون الناس، ويبغضهم الناس، وتلك هي اللعنة التي تأخذ الملعونين بالبأساء والضرّاء، مع كل نفس يتنفسونه، من الميلاد إلى الممات.
وفى قوله تعالى: {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} تأبيد لهذه اللعنة التي لا ترفع عن الملعونين أبدا، حتى بعد موتهم.. فتصحبهم إلى قبورهم. وتبعث معهم يوم يبعثون.
قوم تعالى: {كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} النار التي يوقدها اليهود هنا، هي كيدهم لدين اللّه، ولرسول اللّه.. كلّما نزلت آية من آيات القرآن.
الكريم، نظروا فيها، وتأوّلوها تأويلا فاسدا، وعرضوها على ما عندهم من مقولات باطلة مضللة، ليفسدوا بها على الناس دينهم.. وفى كل مرة يفعل اليهود هذا تفضحهم آيات اللّه على الملأ، فلا يرجعون إلا بالخزي وسوء المنقلب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {أَطْفَأَهَا اللَّهُ} أي أنه تعالى بما ينزل من آيات القرآن الكريم على النبي، يبطل ما دبّر اليهود، ويتبّر ما كانوا يعملون، فإذا نارهم التي أوقدوها قد أصبحت رمادا، لم يبق منها إلّا ما اصطبغت به وجوههم وجلودهم، من سواد دخانها، وذرور شررها.
قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً} العطف هنا هو على قوله تعالى: {وَلُعِنُوا بِما قالُوا} وعلى هذا يكون قوله تعالى {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً} حكم من أحكام اللّه عليهم، وأنه بعض معطيات اللعنة التي صبّها اللّه عليهم.. فهم أبدا مأخوذون بهذا الحكم، لا يتحولون عنه أبدا.. أي أن سعيهم في الأرض فسادا هو طبيعة فيهم، لا يتحولون عنها أبدا.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} هو حكم على اليهود، يتناولهم هم أولا، ثم يمتدّ إلى كل مفسد غيرهم ثانيا، فقد وصفهم اللّه سبحانه قبل ذلك بأنهم يسعون في الأرض فسادا.. أي أنهم مفسدون، ثم حكم سبحانه بأنه لا يحبّ المفسدين.. أي لا يحبّ هؤلاء الذين وصفوا بالفساد، ولم يذكرهم اللّه تعالى بقوله واللّه لا يحبهم ليقيم الوصف الملازم لهم- وهو الفساد- مقامهم، فهم والفساد كائن واحد.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)}.
التفسير:
العقوبات التي أخذ اللّه سبحانه وتعالى بها بنى إسرائيل لم تكن إلا جزاء لما كسبت أيديهم من سوء، وما اكتسبت ألسنتهم من إثم.. وإلا فهم خلق من خلق اللّه، وعباد من عبيده، لم يخصّهم بهذه اللعنات التي مسخت وجودهم وغيّرت خلقهم، إلّا لما كان منهم من محادّة اللّه ورسله، ومكر بآياته وكتبه.
ولو أنهم آمنوا كما آمن المؤمنون، واتقوا اللّه كما اتقى المتقون، لكفّر اللّه عنهم سيئاتهم، ولمسّهم برحمته، وأفاض عليهم من رضوانه، ولسلك بهم مسالك الحق والهدى.. ثم كان جزاؤهم في الآخرة أن ينعموا بجناته التي أعدّها للمؤمنين المتقين من عباده.
فهذا مشهد يراه اليهود وكان من حقهم- لو عملوا له- أن ينالوه ويسعدوا به.. ولكنهم- وقد نكصوا على أعقابهم- لن ينالوه أبدا، ولن يأخذوا نصيبهم منه أبدا.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} هو إشارة إلى ما بين أيديهم من خير ضيّعوه، وما معهم من نور أطفئوه! فهذه التوراة.. يقول اللّه فيها.. {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ} [44: المائدة] وهذا الإنجيل.. يقول اللّه فيه.. {وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} [46: المائدة].
وهذا القرآن.. يقول اللّه فيه.. {ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [2: البقرة].
هذه الكتب المنزلة من عند اللّه، تحمل الهدى والنور.. هي بين يدى أهل الكتاب- وخاصة اليهود- فلو أنهم أقاموا هذه الكتب على وجهها وأخذوا عنها بعض ما فيها، واستقاموا على أمرها ونهيها، لا استقام طريقهم في الحياة، ولملأ اللّه قلوبهم غنى ورضى، ولوجدوا فيما أنزل اللّه من رزق. هو خير كثير، يسع الناس جميعا، ويسعد به الناس جميعا.
ولكنّهم كفروا بآيات اللّه، واتبعوا أهواءهم، وجروا على ما تمليه عليهم أنفسهم من حقد وحسد، وشره، وتكالب على المال.. فكان الجري اللاهث في الحياة نصيبهم، وكان الجوع النفسي، والجدب لوجدانى، خاتمة مطافهم وسعيهم.
إنهم لم يتوكلّوا على اللّه، ولم يعطوه أيديهم ليقودهم إلى الخير، ولو فعلوا لكفل لهم رزقا حسنا، وحياة طيبة، كما يقول الرسول الكريم: «لو توكلتم على اللّه حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خمصا (أي جياعا) وتروح بطانا (أي شبعى)».
وقوله سبحانه: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ}.
الأمة: الجماعة، والاقتصاد: هو المتوسط في الأمر، وعدم المبالغة في مجاوزة حدوده.
والمعنى، أن من هؤلاء اليهود جماعة مقتصدة، أي معتدلة في زيغها وانحرافها، لم تبالغ في الزيغ والانحراف، ولم تبعد كثيرا عن طريق الحق.
أما كثرتهم ففى ضلال مبين، وكفر غليظ.