فصل: تفسير الآيات (70- 71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (70- 71):

{لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)}.
التفسير:
ذكر اللّه سبحانه في الآية السابقة أن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، مدعوون إلى الإيمان باللّه، والعمل الصالح الذي يرضى اللّه، ويستقيم مع ما أمر به ونهى، وأن من قبل ذلك فقد فاز برضوان اللّه.
ثم جاءت هذه الآية: {لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا}.
جاءت لتسجل على اليهود، أنهم غير معذورين، بخروجهم عن طاعة اللّه، وبإفسادهم لدينه الذي في أيديهم.. إذ أخذ اللّه عليهم ميثاقا بعد خروجهم من مصر، وأنقذهم من العذاب المهين الذي كانوا فيه، وأراهم آياته عيانا، ففرق بهم البحر، وأغرق آل فرعون.. وأنزل عليهم المنّ والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظلل عليهم الغمام، وأجرى لهم من صميم الحجر عيونا- بين يدى هذه الآيات الناطقة أخذ اللّه العهد عليهم أن يؤمنوا به، وأن يعملوا بأحكام التوراة، بقلوب سليمة، وعزائم وثيقة، فإن القلوب لتخشع، ولو كانت أقسى من الحجارة، وهى في مواجهة هذه الآيات البينات، فتتقبل الخير وتستجب له، وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [50- 57: البقرة] ثم يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [64- 65: البقرة].
لقد نقض بنو إسرائيل ميثاقهم مع اللّه، الذي أخذه عليهم وهم على بساط هذه النعم الغامرة، فكفروا وعبدوا العجل، فعفا اللّه عنهم، وأرسل إليهم رسله، يجمعونهم من أشتات الطرق التي شردوا فيها.. فما تبدلت حالهم، ولا تغير ما بنفوسهم، فمكروا يرسل اللّه، وأخذوهم بالعنت والعذاب.. كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كفروا به، وبسطوا فيه ألسنتهم بقالة السوء ومدوا إليه أيديهم بالأذى.. فريقا كذبوا وفريقا يقتلون.
وقوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} إشارة إلى أنهم- وقد رأوا نعم اللّه تتظاهر عليهم- أنهم بمأمن من الفتن، وأن لهم أن يفعلوا ما تشتهى أنفسهم، وترتضى أهواؤهم، ولم يعلموا أن هذه النعم هي إبتلاء من اللّه لهم، وأنها ستكون نقمة عليهم إن لم يشكروا اللّه ويحمدوا له، شأن من يتلقى نعم اللّه من عباده المتقين، كما فعل سليمان مثلا، والذي يقول اللّه سبحانه على لسانه: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [40: النمل].
ولكنهم عموا وصموا عن نعم اللّه، فجعلوها أسلحة يحاربون اللّه ورسله بها، ويسعون في الأرض فسادا.
ومع هذا فقد تاب اللّه عليهم، وبسط لهم يد المغفرة، فلم يزدهم ذلك إلا ضلالا وكفرا ثم عموا وصموا كثير {منهم} أي أن كثرتهم الغالبة لم ترجع إلى اللّه، بل ظلت شاردة في طرق الضلالة والغواية، وقليل منهم هم الذين كانت لهم من إلى رجعة.. وهذه القلة منهم هم شهود عليهم بالضلال والعصيان.

.تفسير الآيات (72- 77):

{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)}.
التفسير:
وهؤلاء هم النصارى- بعد اليهود- قد كفروا باللّه، إذ تصوروه في هذه الصورة المجسدة، التي رأوا فيها عيسى عليه السلام، فجعلوه اللّه رب العالمين.. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}.
وهى قولة منكرة، أملتها أهواء مضللة، وتأويلات نضحت بها مشاعر فاسدة.
أما المسيح عليه السلام فإنه لم يقل إلا ما قاله القرآن عنه: {يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} فما جاء المسيح صلوات اللّه وسلامه عليه، إلا ليصحح معتقدات اليهود الفاسدة، وإلّا ليقيمهم على شريعة التوراة التي أفسدوها، وبعدوا عنها.
ومن عجب أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون، ليست فيها لفظة واحدة يؤخذ منها أن المسيح إله أو ابن إله!. وما عرف المسيح بألوهية في حياته، ولا عرف أن أحدا من أتباعه ادّعى له هذه الدعوة، ولا عبده كما يعبد الإله.
ومن طوائف المسيحيين من جعل الإله ثلاثة آلهة: الأب والابن وروح القدس، وهى في مجموعها إله واحد، ولكن لكل من هؤلاء الثلاثة عمل واختصاص في داخل الإله الواحد.. وهذا كفر باللّه.. {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ}.
وقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} هو وعيد للقائلين بهذه القولة، المعتقدين بها، العابدين اللّه عليها، وليس المراد بقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} مجرد الانتهاء عن القول والكفّ عنه، وإنما لأن هذا القول هو ترجمان العقيدة، وعنوانها.. فإذا أمسكوا عن هذا القول، تحوّلوا عن المعتقد القائم عليه، وكان لهم قول غيره، ومعتقد غير معتقدهم.
وقوله تعالى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو نداء كريم، من ربّ رحيم، يدعو به هؤلاء الضالين عنه، ليتوبوا إليه، وليستغفروا لذنبهم العظيم، بتصورهم الإله هذا التصوّر الخاطئ.. فإذا عادوا إلى اللّه، وعرفوه حقّ معرفته، واستغفروا لذنبهم وجدوا ربّا رحيما غفورا، يقبل التائبين، ويتجاوز عن سيئات المسيئين.
قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ}.
هو عرض للمسيح، يكشف عن حقيقته، وأنه رسول من رسل اللّه، وأمّه خلق مما خلق اللّه، وناس من الناس، وأنهما يجوعان كما يجوع الناس، ويأكلان مما يأكل النّاس، ويخضعان للضرورات التي يخضع لها الناس.. ومن كان هذا شأنه، فكيف يكون إلها مع اللّه؟. كيف ومن خلق اللّه من يستعلى على تلك الضرورات المتحكمة على المسيح وأمّه، كالملائكة مثلا؟ فإنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يمرضون! وقوله سبحانه: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} تعجّب من موقف هؤلاء الذين يرون المسيح إلها أو ابن إله، وأنهم مع هذه الآيات البينات، التي تكشف لهم عن المسيح، وتريهم مكانه عيانا بين الناس- إنهم مع هذا لا يزالون على ما هم عليه من إفك وافتراء على اللّه، إذ يقولون فيه هذا القول الشنيع الآثم.
وقوله سبحانه: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً} هو تسفيه لعقول أولئك الذين يعبدون من دون اللّه أربابا من حيوان أو جماد، ثم يرجون عندها النفع والضرّ، وهى في قيد العجز، لا تملك من أمر وجودها شيئا، فكيف يكون لها في هذا الوجود سلطان على العباد؟ ذلك هو الضلال البعيد، والبلاء المبين.
وقد اتخذ المسيحيون المسيح إلها، وأضافوا إليه أنفسهم، بل أضافوا إليه الوجود كلّه.. وما فكّروا أن المسيح عيسى بن مريم مخلوق عاجز ضعيف أمام قدرة اللّه وسلطان اللّه.
لقد كان المسيح جنينا في أحشاء أمّه تسعة أشهر، ثم ولد طفلا، ترضعه أمه وتغذوه، وتحمله قبل أن تحمله رجلاه.
أفهذا يكون إلها يملك الضرّ والنفع، ويدبرّ أمر السموات والأرض؟
ذلك مالا يقبله عقل، ولو كان به مسّ أو خبل!.. إذ أن مسافة الخلف بين الإله والإنسان أوسع من أن يملأها تصوّر، أو يصل بين طرفيها خيال.
وفى تقديم الضرّ على النفع، هو مما يجرى مع طبيعة الإنسان، ويلتقى مع مطالبه- فدفع الضرّ مقدّم عند الكائن الحىّ على جلب النفع.. إذ أن الكائن الحىّ يطلب السلام لنفسه أولا، كى يضمن وجوده وبقاءه، ولا بقاء لحىّ مع وجود الخطر الذي يتهدّد حياته.. فإذا تمكن الكائن الحىّ من استخلاص نفسه من بين الأخطار التي تترصده، وتريد القضاء عليه، كان له بعد ذلك أن يطلب ما ينفع في إمساك حياته، واستمرار وجوده، مما يتصل بمعاشه، من طعام، ولباس، وسكن، وغير هذا.
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} هو إلفات إلى ذات اللّه سبحانه وتعالى، وإلى جلال الذات وعظمتها، التي يختفى أمام بهائها وسلطانها كل ذى جاه وسلطان.. وأنه هو وحده- سبحانه- السميع العليم، لا سمع لأحد مع سمعه، ولا علم لعالم مع علمه.. سبحانه وتعالى عما يشركون.
وقوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} المراد بأهل الكتاب هنا- هم النصارى، والدعوة إليهم هي ألا يغلو في دينهم، أي يبالغوا في الصورة التي ارتسمت لهم من المسيح، في ميلاده وفى المعجزات التي جاءت على يديه.. وأن هذه المبالغة قد أرتهم في المسيح ما ليس له، فما هو إلا إنسان، ولد كما يولد الناس، من رحم امرأة، ربّى في حجرها، ورضع من ثديها.
وقوله تعالى: {غَيْرَ الْحَقِّ} هو قيد للنّهى عن المغالاة، إذ هي مبالغة في طريق الضلال، وغلوّ في متابعة الهوى.
ويجوز أن يكون {غير الحق} مفعول به لقوله تعالى: {لا تَغْلُوا} بمعنى لا تتجاوزوا بدينكم حدود الحق، بل التزموا هذه الحدود، وقفوا عندها، فإن ما بعدها هو الضلال والكفر.. {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [32: يونس].

.تفسير الآيات (78- 81):

{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)}.
التفسير:
الذين كفروا من بنى إسرائيل هم عامّة بنى إسرائيل ومعظمهم، ولم يجيء النصّ القرآنى عامّا شاملا بلعن بنى إسرائيل جميعا حتى لا يدخل الذين سلم لهم دينهم منهم، تحت هذا الحكم، فيكون ذلك مدعاة إلى سوء ظنّهم بأنفسهم.. أولا، وباللّه.. ثانيا.
ومن جهة أخرى فإن النصّ القرآنى قد حمل- معه إلى جانب اللعنة التي رمى اللّه بها هؤلاء القوم- حمل وصفا كاشفا لهم، وهو أنهم كفروا، ولو جاء النظم القرآنى هكذا: لعن بنوا إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم لدخل معهم في هذه اللعنة الذين آمنوا منهم، ثم لم يكن هذا الوصف بالكفر مصاحبا لتلك اللعنة صبّت عليهم.
وقوله تعالى: {عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي أن اللّه وجّه حكمه باللعنة على الذين كفروا من بنى إسرائيل، محمولا على لسان داود وعيسى ابن مريم.. فقد لعنهم اللّه سبحانه مرتين.. مرة على لسان داود، ومرة على لسان عيسى عليهما السلام.
ولا نسأل ماذا كانت لعنة داود لهم، ولا عن أي شيء كانت تلك اللعنة التي رماهم اللّه بها على لسان داود، وكذلك الشأن في اللعنة التي جاءتهم على لسان المسيح.. فقد غيّر القوم وبدّلوا في زبور داود، وفى إنجيل عيسى.
والذي علينا أن نؤمن به، هو أن اللّه لعن اليهود هذه اللعنات على لسان هذين النبيين الكريمين.
قوله تعالى: {كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} هو بيان لسبب آخر من أسباب اللعنة التي لعن اللّه بها بنى إسرائيل، وهى أنهم مع عدوانهم على حرمات اللّه، وتطاولهم على أنبيائه بالتكذيب وبالقتل، فإنه لم يكن فيهم من رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، ويردّهم عن هذا الضلال.. {كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} أي لا ينهى محسنهم مسيئهم، ولا يأخذ عالمهم بيد جاهلهم، فلا تناصح بينهم على معروف، ولا تناهى عن منكر.. وليس هذا شأن الجماعة السليمة، المتنبهة لكل آفة تعرض لأى عضو من أعضائها.
فجماعة اليهود جماعة يعيش كل فرد فيها في ذات نفسه، لا يعنيه إلا ما يتصل به اتصالا مباشرا، ولا عليه أن يهلك الناس جميعا.. وليس هذا شأن عامتهم وحسب، بل هو شأن رؤسائهم وأصحاب السلطة الروحية فيهم، وقد نصّ اللّه عليهم ذلك بقوله: {لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ} [63: المائدة].
وقوله تعالى: {لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ} هو تجريم لأفعال اليهود جميعا، عامتهم وخاصتهم، علماؤهم وجهلاؤهم.. أفعالهم كلها منكرة، لا تتحرّى الحق، ولا تستقيم عليه.
وقوله تعالى: {تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الضمير في {منهم} يعود إلى علماء اليهود، وخاصتهم، وأنّهم يعطون ولاءهم ومودتهم للذين كفروا من مشركى العرب، ومن كافرى اليهود أنفسهم، ليظاهروهم على الدعوة الإسلامية، وليقودوا جبهة الكفر المتصدّية لها.. وهذا منهم هو كفر فوق كفر، وضلال فوق ضلال.. إذ لم يكفهم أنهم عرفوا الحق وكتموه، بل أجلبوا عليه الأعداء، وكانوا لهم في حربه سندا وظهيرا.
فاستحقوا لهذا سخط اللّه عليهم، وأن يصلوا النار التي أعدّها للعصاة المحادّين للّه ورسوله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ}.
وقوله تعالى: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ} هو مصدر مؤول، وهو المخصوص بالذم أي بئس شيئا قدمته لهم أنفسهم، وأعدته ليوم الجزاء، سخط اللّه ولعنته لهم في الدنيا، والعذاب الشديد يوم القيامة في جهنم خالدين فيها أبدا.
قوله تعالى: {وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ} هو بيان لهذا المرض الخبيث المستكنّ في قلوب هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل، وهو أنهم قد أعمى بصائرهم بالحسد، فألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وكفروا باللّه، إذ كفروا بالنبيّ وما أنزل إليه من ربه، وكان ما بأيديهم من دلائل تدل على نبوته، وما عندهم من علم به وبرسالته- جديرا بأن يجعلهم أسبق الناس إلى لقاء هذا النبيّ، والإيمان به، والوقوف من ورائه، والجهاد تحت رايته.. ولكنهم تخلّوا عن مكانهم هذا، الذي كان ينبغى أن يأخذوه مع النبي، وانحازوا إلى جهة الكافرين والمنافقين.
حسدا وبغيا.
وفى قوله تعالى: {وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ} هو حكم على الكثرة الغالبة من علماء اليهود بالفسق، والخروج عن الطريق القويم، طريق الحق والنور، إلى طريق العماية والضلال.. وإن قليلا منهم هو الذي سلم فلم يقع تحت طائلة هذا الحكم.
ولسائل أن يسأل: كيف يحكم على اليهود بالكفر، مع أنهم أهل كتاب، وأنهم يؤمنون باللّه، وأن الإسلام قد وضعهم وضعا خاصا في أحكامه، فجعلهم أهل ذمّة، وسمح لهم أن يعيشوا في المجتمع الإسلامى، وألا تهدم بيوت عبادتهم، وألا يحال بينهم وبين أن يؤدوا شعائر دينهم فيها.. كيف هذا؟
والجواب من وجوه:
فأولا: هم كافرون- لا شك في هذا- لأنهم اجترءوا اللّه، فنبذوا كتاب اللّه الذي في أيديهم، وحرّفوه، ثم ما بقي بأيديهم منه لم يستقيموا عليه، بل تأولوه تأويلا فاسدا، يجرى مع أهوائهم وما يشتهون.. فهم- وإن لم ينكروا اللّه- قد حاربوا اللّه، واستخفّوا بكلماته، وجعلوها تبعا لأهوائهم، ولم يجعلوا أهواءهم تبعا لها.
والكافر باللّه، والمنكر له، وإن غلظ جرمه. وعظم إثمه- هو أخفّ جرما، وأقل إثما، ممن عرف اللّه واستخفّ به، وأعلن الحرب عليه، فشوّه وجه كلماته، وأراق دم أنبيائه.
وثانيا: هم كافرون- لا شك في هذا أيضا- لأنهم أنكروا نبوّة النبيّ، وبهتوه، وكفروا بما أنزل عليه، وهم يعلمون- بما في أيديهم من كتب اللّه- أنه رسول من عند اللّه، وأن الآيات التي بين يديه هي كلمات اللّه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ} [89- 90: البقرة] فلقد دمغهم اللّه- سبحانه- بالكفر أكثر من مرة.. {كَفَرُوا بِهِ} {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ} {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ}.
فهذا بعض ما وصفهم اللّه به في هاتين الآيتين، وقد توعدهم اللّه سبحانه باللعنة، ورماهم بالغضب بعد الغضب، ورصد لهم العذاب المهين يوم القيامة.
وثانيا: إن تصوّر اليهود للّه هو تصور خاطئ فاسد، إذ يرون اللّه هو إله اليهود وحدهم لا يتعامل مع غيرهم، ولا يعمل لأحد سواهم، ولا يشغل إلّا بهم وبمشكلاتهم.. فهو رب الجنود يقودهم في ميادين القتال، بل ويقاتل لهم وهم ينظرون، كما قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ} [24: المائدة].
وهذا تصور خاطئ للّه رب العالمين.. إنهم لا يرونه إلا أشبه بإنسان يملك قوى خارقة لا يملكونها، أشبه بآلهة الأساطير التي تولدت في خيال الوثنيين لتحقق لهم أحلاما قصرت أيديهم عن تحقيقها.. ولهذا، فقد طلبوا إلى موسى أن يريهم اللّه جهرة، أي عيانا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم:
{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [55 البقرة].
هذا هو إله اليهود الذي يؤمنون به.. إنه إلههم وحدهم.. أما هذا الوجود فله إله أو آلهته.. وذلك كفر، أو شرك، أو فسق.. وقد صف صف اليهود بهذه الصفات جميعا.
ورابعا: جعل الإسلام أهل الكتاب أهل ذمّة ولم يأخذهم بما أخذ به غيرهم ممن لا كتاب لهم من المشركين والكافرين، كالصائبين والمجوس، ومشركى العرب وغيرهم، لأنهم على شبهة من دين، ولهذا لم يقم عليهم حدّ القتل، إذ كان من أصول الإسلام: درء الحدود بالشبهات.
فهم- أي أهل الكتاب- كافرون، ولكن كفرهم مشوب بإيمان باهت.. وهذا الإيمان على ما فيه، لا يرفع عنهم الحكم- ديانة- بأنهم كافرون، ولكنه يرفع عنهم إقامة حدّ الكفر عليهم بقتلهم، إذا وقعوا في حوزة المسلمين وصاروا إلى أيديهم، وأبوا أن يدخلوا في الإسلام.
فهذا الكفر المشوب بالإيمان، أو الإيمان المختلط بالكفر، يعصم دماءهم، وأموالهم، ويجعلهم ذمة في يد المسلمين.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ} [29: التوبة].. فهذه الجزية التي تؤخذ منهم، وهذا الصّغار الذي ينضح عليهم من الجزية التي يؤدونها- هو تعزير لهم على جناية الكفر الذي حالت دون إقامة الحدّ عليهم فيه، شبهة الإيمان المختلط بكفرهم.