فصل: تفسير الآية رقم (89):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (89):

{لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن ما قبلها كان بيانا لحدود اللّه، وأن في هذه الحدود سعة تسمح للإنسان أن يتحرك فيها كيف شاء، غير مضيّق عليه في شيء، مادام قائما على تقوى اللّه.. هنالك يجد المؤمن دينا سمحا، وشريعة ميسّرة، تفتح له أبواب العمل في كل مجال، وتملأ يديه من كل خير.
وهنا في هذه الآية باب من أبواب اليسر والسماحة في دين اللّه، الذي يؤمن به المؤمنون.
فما أكثر ما يجرى ذكر اللّه على ألسنة المؤمنين، وما أكثر ما يستحضرونه في كل أمر يعرض لهم، ثم ما أكثر ما يزكّون هذه الأمور بالقسم عليها باسم اللّه، دون أن يكون ذلك بقصد الحلف لإجازتها، وعقد اليمين بها.
فهناك فرق بين القسم، والحلف.. إذ القسم لتعظيم الشيء وتزكيته، ورفع قدره، وقد أقسم اللّه سبحانه ببعض مخلوقاته.. من شمس، وقمر، ونجم، وليل، وضحى.
أما الحلف فهو إقرار يشهد به الإنسان على نفسه، أو غيره. وقد جعل اللّه كفيلا عليه، بالحلف به.. ومن هنا كان لزاما عليه- ديانة- أن يحترم هذه الكفالة، ويقوم على الوفاء بما التزم به، وإلا أثم، بجرأته على اللّه، والاستخفاف بكفالته له، واللّه تعالى يقول: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} [91: النحل].
وكان من رحمة اللّه بعباده، ورفقه بهم، وإسباغ نعمه عليهم، في تعاملهم مع اسمه الكريم- ما حملته هذه الآية الكريمة من لطف، ورحمة، وحكمة:
فأولا: قد عفا اللّه سبحانه عن الأيمان التي لا يقصد بها الحلف، والتي تجرى على الألسنة خارجة عن هذا القصد.. {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ} وتسمية هذه الأيمان لغوا، لأنّها لا تحلّ حراما، ولا تحرّم حلالا، ولا تجلب خيرا، ولا تدفع ضرّا..
والأيمان جمع يمين، وقد سمّى اليمين يمينا، لأنه مشتق من اليمن والبركة، إذ كان الذي يقسم به- عادة- اسم كريم عزيز، عند من أقسم به، وثانيا: الأيمان التي يراد بها الحلف، وينعقد بها أمر من الأمور، بين الإنسان ونفسه، أو بينه وبين غيره- هذه الأيمان كما قلنا- هي أيمان وثّقت عهدا، وجعلت اللّه- سبحانه- شاهدا على هذا العهد وكفيلا له.. فإذا حنث الحالف بيمين اللّه هنا، فإنه يكون قد اقترف ذنبا عظيما في حق اللّه سبحانه وتعالى، وفى حقّ الناس، بما استباح من حقوقهم، بنقض العهد معهم.
أما حقّ اللّه المتعلق بالحانث في يمينه، فقد جعل فيه للحانث ما يكفّر به ذنبه، ويغسل به حوبته، وهو أن يطعم عشرة مساكين، من أوسط ما يطعم هو وأهله، أي مما يغلب أن يكون طعامهم، في حياتهم، في غير أيام السّعة أو الضيق.. فإن لم يكن طعام، فكسوة عشرة مساكين، مقدرة هذه الكسوة بحال الحانث في يمينه.. فإن لم يكن طعام أو كسوة، فتحرير رقبة، أي عتق رقبة من الرّق.. فإن كان الحانث معسرا، لا يستطيع أن يطعم أو يكسو أو يعتق، فصيام ثلاثة أيام.
وقد اختلف في تتابع هذه الأيام، وفى إفرادها، فرأى بعضهم الأخذ بما أطلقه القرآن، حيث لم يقيد الصوم بالتتابع، ولا حجة عنده في قراءة من قرأ {ثلاثة أيام متتابعات}.
لأن الإطلاق هنا والتقييد في قوله تعالى: {فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ} يقوّى الأخذ بمنطوق الآية، وعدم التعويل على هذه القراءة التي لم تتأكد بالتواتر.. على حين يرى البعض الأخذ بالقراءة {ثلاثة أيام متتابعات} حيث وجدت مثبتة في مصحف السيدة عائشة رضى اللّه عنها، فيوجب التتابع في الصوم.
ويقوّى هذا الرأى عندنا: أن صيام ثلاثة الأيام هذه في تتابعها، هي التي تعدل إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، مع أن إطعام مسكين واحد، يجزى عن إفطار أي يوم من أيام رمضان لمن لا يقدر على الصوم، كما يقول اللّه تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ} فتتابع أيام الصوم هو الذي يجعل صيام الأيام الثلاثة على هذا الوجه، موازنا لإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم.
والتكفير عن الحنث في اليمين يجزى بأيّ من هذه الكفارات الثلاث:
إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.. فمن كفّر بأى منها أجزأه ذلك، دون نظر إلى ترتيب فيها، حيث كان الحكم بالتخيير بينها بحرف العطف أو.
ولا يصار إلى الصيام إلا عند فقد القدرة على الوفاء بالإطعام، أو الكسوة، أو تحرير الرقبة.
وقد اختلف في صفة الرقبة التي تحرّر هنا، وهل يلزم أن تكون مؤمنة، أم أن تحرير أي رقبة أعتقها الحانث يجزئ في التكفير عن اليمين؟
يرى بعض الفقهاء أن يكون العتق لرقبة مؤمنة، وكونها لم توصف هنا بأنها مؤمنة، ولم يجعل الإيمان شرطا لعتقها- إحالة على ما وصفت به في قوله تعالى: {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [92: النساء].
ونرى- كما يرى بعض الفقهاء- الوقوف عند منطوق الآية، والأخذ بالحكم على إطلاقه، دون قيد للرقبة بأنها مؤمنة أو غير مؤمنة.
ففى فكّ الرقبة وعتقها إحياء لنفس ميتة، أيّا كانت تلك النفس، مؤمنة أو كافرة.. وإحياء النفس- أي نفس- شيء عظيم، لا يحتاج إلى وصف آخر يرفعه ويعلى من قدره.
وكيف واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}؟ (32: المائدة).
وأما قيد الرقبة بوصف الإيمان في دية القتل الخطأ، فهو لموافقة النفس المؤمنة التي قتلت خطأ.. {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [92: النساء].. وذلك مما يوجبه القصاص.. النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ.. وقياسا على هذا يكون من دبة المؤمن في القتل الخطأ إحياء نفس مؤمنة.. أما هنا فهو إحياء لنفس أيّا كانت هذه النفس، ففى إحيائها كفارة لأى ذنب وإن عظم، إنه إحياء للإنسانية كلها.. ومع هذا، فإن المسلم حين ينظر في أي الرقاب يعتق، فإنه يتجه أول ما يتجه إلى الرقبة المؤمنة، امتثالا لقول اللّه تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ولا شك أن الرقبة المؤمنة أحب إلى مالكها من الرقبة غير المؤمنة.. وقد روى مسلم أن أبا ذر رضى اللّه عنه، سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا».
والرقبة المؤمنة أنفس عند المسلم وأكثر ثمنا.
وفى قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} إشارة إلى اليمين بلفظ المفرد، لأن هذه الكفارة هي كفّارة عن اليمين الواحد.. فإذا حنث الإنسان في أكثر من يمين كان لكل يمين كفارته، على هذا النحو.. وهذا هو السرّ في إفراد الضمير.. وكان النظم يقضى بأن يجيء هكذا: فكفارتها إذ كان الحديث عن الأيمان.
وقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ} إشارة إلى أن هذه الكفارة هي دواء الداء، جلبه الإنسان إلى نفسه، وكان أحرى به أن يتجنب هذا الداء، وأن يظل سليما معافى.. إذ أن الوقاية دائما خير من العلاج.. أما إذا كان الحلف على منكر، فإن الحنث فيه واجب، ولا كفارة فيه، كمن حلف أن يشرب خمرا.. مثلا، فعليه أن يحنث في يمينه، ولا كفّارة عليه.
أما من حلف على غير منكر، ثم بان له أن الحنث في اليمين يترتب عليه إلحاق ضرر به أو بغيره، فإن الحنث خير له من البرّ بيمينه، ولكن عليه كفارة الحنث.. كمن حلف على ألا يسافر إلى جهة ما، ثم بدا له أن في السفر خيرا يعود عليه منه، وكمن حلف ألا يتعامل في تجارة مع فلان.. ثم ظهر له أن هذا يعود عليه أو عليهما بالخسارة والضرر- فالحنث هنا خير من البرّ باليمين، وفى ذلك يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه».
أما حقوق الناس فيما ترتب على الحنث باليمين، فلن تشفع لها هذه الكفارة، ولن تدفع عن الحانث ما نجم عن هذا الحنث من ضرر وقع على الغير بسببه.
فذلك له حسابه عند اللّه، وله العقاب الراصد له.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} إشارة إلى ما تحمل آيات اللّه إلى عباده، من رحمة، ولطف، إذ تقيلهم من عثراتهم، وتقيمهم على طريقه القويم.. وهذا من شأنه أن يستقبله العباد بالحمد والشكر للّه رب العالمين.

.تفسير الآيات (90- 92):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)}.
التفسير:
الخمر: ما خامر العقل، وستره، كما يستر الخمار وجه المرأة.
فكلّ ما ستر العقل، وحجب عنه الرؤية الصحيحة التي يرى بها الأشياء، ويتصور حقائقها- هو خمر، سواء أكان شرابا أو طعاما، وسنعرض لهذا، بعد قليل.
والميسر: هو القمار، والمخاطرة بالمال.
والأنصاب: هي حجارة كانت تنصب حول الأصنام، لتذبح عليها الذبائح، تقربا إليها.
والأزلام: جمع زلم، وهى قداح الميسر، يلعب بها على الذبائح، مقامرة.
وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هو خطاب عام للمؤمنين، واستدعاء لما في قلوبهم من إيمان، ليكون هذا الإيمان بمحضر من تلك المنكرات التي يدعون إلى اجتنابها.. إذ لا يجتمع الإيمان وهذه المنكرات في قلب مؤمن.. حيث أن من شأن الإيمان أن يقيم في كيان المؤمن وازعا يزع كل منكر، ويدفع كل ضلال.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} هو عرض لبعض المنكرات التي تغتال إيمان المؤمن، وتقطع الصلة بينه وبين ربّه.. وهى: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام.. وقد وصفها اللّه سبحانه بصفتين: أنها رجس.. والرجس ما تعافه النفس بفطرتها وتتقذّره بطبيعتها، من غير حاجة إلى من يلفتها إليه، ويحذّرها منه، إذ كان أمره من القذارة والفساد بحيث لا يخفى إلّا على من فسدت طبيعته، وشاهت فطرته.
والصفة الأخرى لهذه المنكرات: أنها من عمل الشيطان.. وإضافة هذه المنكرات إلى الشيطان يجعلها منكرا إلى منكر.. فالرجس في ذاته، على أي وجه ظهر، ومن أي أفق طلع، هو شر وبلاء على من يقبل عليه ويتعامل معه، فإذا كان هذا الرجس هو من عمل الشيطان، ومن صنعة يده، ومن الطعام الممدود على مائدته، لم يكن فيه مظنّة لخير أبدا.. إذ يكفى الخير شناعة وسوءا أن يجيء من قبل الشيطان، وعلى يده.. فكيف إذا كان ما يحمله الشيطان ويدعو إليه هو الرجس؟
أرأيت إلى طعام طيب هنيء تحمله إلى آكليه يد إنسان رعى الجذام وجهه وقضم يديه؟.. أفتجد نفس لهذا الطعام مساغا، أو يمدّ إليه إنسان يدا ولو هلك جوعا؟ فكيف إذا كان ما يحمله هذا الإنسان المجذوم طعاما فاسدا متعفنا تعافه الكلاب؟ ذلك أقرب شيء شبها إلى الرجس الذي يكون من عمل الشيطان وصنعته.
فالرجس- وتلك صفته من السوء- في غير حاجه إلى أمر بحظر يضرب عليه، ويحال بين الناس وبينه.
والرجس الذي هو من عمل الشيطان، أمره أظهر وأبين من أن ينبّه على اجتنابه، إشارة أو عبارة.. ومع هذا فإن بعض الناس تضيع إنسانيتهم، وتنطمس معالم فطرتهم، وتفسد طبيعتهم، فلا تزكم أنوفهم رائحة كريهة، ولا تلفظ أفواههم طعاما خبيثا.
ولهذا كان من فضل اللّه على الناس ورحمته بهم، أن بعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين، ليصلحوا ما فسد منهم، ويصححوا عمل أجهزتهم التي عطبت أو فسدت.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى هنا {فَاجْتَنِبُوهُ} تعقيبا على ما كشف من أمر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ووصفها بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان.. فهذا الأمر باجتناب هذه المنكرات، هو في الواقع توكيد لما تحمل في أوصافها من أكثر من نهى ضمنىّ باجتنابها. وذلك زيادة عناية بالإنسان، وحراسة مضاعفة له من الموبقات والمهلكات.. وضمير الغائب في {فاجتنبوه} يعود إلى الرجس الذي جمع هذه المنكرات كلها في كيانه.
أما الأنصاب- وإن كان الإسلام قد حطم الأصنام التي كانت مشرفة عليها-، فإن الإبقاء على عادة الذبح على هذه النّصب، مما يثير غبار الشرك، ويحرّك ريح الوثنية الكريهة.. فضلا عن أن هذه الذبائح التي تذبح على النصب كانت مجالا للمقامرة، إذ تقسّم لحومها بين المقامرين عليها، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر.
وفى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ترغيب في الاستجابة لهذا الأمر، الذي في الامتثال له مدخل إلى الفلاح والسلامة، وإنه لا فلاح ولا سلامة مع صحبة هذه المنكرات، والولاء لها.
وقوله تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} هو بيان لما يبغيه الشيطان من وراء هذه المنكرات التي عرضها للناس، في معارض مغوياته، ومفسداته.. إنه يريد؟؟؟ أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس في مواطن الخمر والميسر، حيث يفقد الإنسان عقله بالخمر، فلا يدارى قولة سوء، ولا يمسك كلمة شر، وحيث يستنزف الميسر أموال الناس، ويريهم أن بعضهم أكل بعضا، وهم- في الواقع- مأكولون جميعا، فيقع بينهم الشر، وتشتعل نار العداوة والبغضاء.. وبهذا تتمزق وحدة المجتمع، ويصبح الإنسان في مجتمعه إما طالبا أو مطلوبا، لا يبيت على أمن، ولا يستقرّ على حال.
ثم إن هذه المنكرات من خمر وميسر وأنصاب وأزلام، مع ما تزرع بين الناس من أشواك العداوة والبغضاء.. تصدّ عن ذكر اللّه، وعن الصلاة، حيث تلهى أصحابها، وتمسك بهم في مجالها، فلا يخطر ببال أحدهم ذكر اللّه، وقد استولى عليه هذا الرجس، ولا يجيب داعى اللّه إلى الصلاة، إن هو وجد أذنا تستمع إلى هذا الداعي.
وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} يحمل تحريضا قويا على الانخلاع عن هذه المنكرات، ومجاهدة النفس في اجتنابها، ومغالبة الأهواء الداعية إليها.
فهذه المنكرات لها سلطانها المتسلط على النفوس، بما فيها من مغويات تدعو الإنسان إلى التحلل من سلطان العقل، وما يدعو إليه من وقار، وجدّ، لتحمله على أجنحة الخلاعة والعبث والمجون.. ومن وراء ذلك شيطان يستحثّ أهواء النفس، ويثير غرائزها الحيوانية الخسيسة.. فإذا لم يأخذ الإنسان حذره ويتجرد لحرب هذه المغويات المتسلطة عليه، ويلقاها بإيمان وثيق وعزم ثابت، غلبته على أمره، وأخذته من مقوده، وأقامته على هذا المرعى الوبيل، ليطعم منه، ويعيش عليه.
ففى قوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} استفهام مطلوب الجواب عليه، ولن يعطى الجواب الذي ينبغى أن يجيب به المؤمن إلّا من نظر إلى نفسه، وإلى موقفه من ربه الذي يدعوه إليه، فإن استجاب للّه، وانتهى عن هذه المنكرات واجتنبها، كان له أن يلقى اللّه بوجهه، وأن يدخل في عباده المؤمنين، وإلا اختطفه الشيطان، وألقى به بين ضحاياه وصرعاه! قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} هو دعوة مجدّدة إلى المؤمنين، إلى طاعة اللّه ورسوله، والحذر من هذا الرجس، الذي بين يدى الشيطان.. يدعوهم إليه، ويغريهم به.
وليس للمؤمنين بعد هذا البلاغ بلاغ، فإن تولّوا، ولم يستجيبوا لأمر اللّه، فلهم ما اختاروا، وليس لأحد سلطان عليهم إلا وازع ضمائرهم.. {فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.
وقد بلّغ الرسول هذا البلاغ المبين، الذي تلقاه من ربّه، {فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} [108: يونس].
الخمر.. مادتها، وصفتها، وحكم شاربها:
ونودّ أن نشير هنا إلى أمرين:
أولهما: الخمر.. ماهى؟ وثانيهما: الخمر.. ومكانها بين المحرمات.
أما الخمر، فأمرها معروف، ولم تكن بنا حاجة إلى الكشف عن وجهها، لولا أن كثر كلام الفقهاء فيها، وفى المادة التي تصنع منها، والطريقة التي تصنع بها، حتى تكون خمرا.
أما المادة التي تصنع منها الخمر، فقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا بينا، فوقف بها بعضهم عند التمر والعنب، مستدلّين على هذا بما يروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين» وأشار إلى النخلة والعنبة.
بل لقد ذهب بعضهم إلى أن الخمر ما كان من العنب وحده، مستدلا على ذلك بقوله تعالى: {إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً} ومؤولا الحديث: «الخمر من هاتين الشجرتين» على أن المراد به شجرة العنب.. كما في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} والمراد أحد البحرين.
وواضح أن هذا التأويل فاسد، لا يلتفت إليه، ولا يوقف عنده.
أما الوقوف بالخمر عند ما أخذ من العنب والنخل، فهو محمول على قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [67: النحل].. ولكن الحديث، وإن أشار إلى أن الخمر من النخل والعنب، فإنه لم يحصره فيهما، وكذلك الآية الكريمة.. وإن دل ذلك على أن أكثر ما كان معروفا متداولا عند العرب من خمر، هو ما كان من هاتين الشجرتين.
إذ كانت النخيل والأعناب أكثر أشجار الفواكه، وأهمّها عند العرب، ولذلك كان وصف الجنات الدنيوية والأخروية، أبرز ألوانه النخيل والأعناب كقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ} [32: الكهف].
وقوله سبحانه: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [244: البقرة].. وقوله: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً} [90- 91: الإسراء].
وإشارة النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى النخل والعنب، تعنى أنه لم يكن من بين الأشجار القائمة بين يديه، والماثلة أمام عينيه، ما يتخذ منه الخمر غير هاتين الشجرتين.. يومئذ.
ولهذا، فإنه صلى اللّه عليه وسلم في موقف آخر، لم يكن بين يديه أشجار، قال: «إن من العنب خمرا، وإنّ من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن البرّ خمرا، وإنّ من الشعير خمرا».
وحصر النبي صلى اللّه عليه وسلم الخمر فيما صنع من هذه الأشياء، هو تقرير للواقع، ولو كان هناك مواد أخرى متخذ منها العرب الخمر لذكرها.
وفى صحيح مسلم عن أنس قال: لقد أنزل اللّه الآية التي حرّم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب يشرب إلّا من تمر.
وفى صحيح البخاري عن أنس قال: «حرمت علينا الخمر حين حرّمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» وعلى هذا، فمادّة الخمر لا معتبر لها في تحريمه، وإنما المعتبر في أية مادة هنا هو لبوسها لباس الخمر. أي أنها تسكر من يتعاطاها، وينال منها.. فكل ما أسكر فهو خمر، لأنه يخامر العقل، ويستره.
وفى الحديث: «إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، وإنى أنهاكم عن كل مسكر» (مختصر سنن أبى داود:
للمنذرى حديث 332).
وعن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال وهو يخطب: نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهى من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير.. والخمر، ما خامر العقل.
وقد اختلف الفقهاء في صنعة الخمر كما اختلفوا في مادتها، فقال بعضهم:
الخمر ما خمّر، دون أن تمسّه النار، وأن ما طبخ بالنار فليس خمرا.. كذلك اختلفوا في النبيذ وهو ما ينقع، فقال بعضهم: إذا تخمر وغلا ورمى بالزبد فهو خمر، قليله وكثيره حرام، وإذ لم يتخمر ويرمى بالزّبد، فإذا أسكر فهو مكروه، وإذا لم يسكر فلا شيء فيه.
ومن هذه المقولات قول أبى حنيفة في النبيذ: الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء: الخمر، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، ونقيع التمر فإنه السّكر، ونقيع الزبيب.
ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: ولا خلاف عن أبى حنيفة في أن نقيع الدوشاب عنده حلال وإن أسكر، وكذلك نقيع الرّبّ، وإن أسكر.
وقال أبو يوسف- صاحب أبى حنيفة-: كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على الترك فهو مكروه، ولا أجيز بيعه، ووقته عشرة أيام، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام فهو مكروه، فإن كان في عشرة أيام فأقل، فلا بأس.
وقال محمد بن الحسن- صاحب أبى حنيفة-: ما أسكر كثيره مما عدا الخمر أكرهه ولا أحرمه فإن صلّى إنسان وفى ثوبه منه أكثر من قدر الدرهم البغلىّ بطلت صلاته وأعادها أبدا، ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: فاعجبوا لهذه السخافات، لئن كانت تعاد منه الصلاة أبدا، فهو نجس، فكيف يبيح شرب النجس، ولئن كان حلالا فلم تعاد الصلاة من الحلال؟ ونعوذ باللّه من الخذلان!! ثم يعلق ابن حزم على هذه الآراء جميعها- رأى أبى حنيفة وصاحبيه، فيقول: فأول فساد هذه الأقوال أنها كلها أقوال ليس في القرآن شيء يوافقها ولا شيء من السنن، ولا في شيء من الروايات الضعيفة، ولا عن أحد من الصحابة رضى اللّه عنهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من خلق اللّه، قبل أبى حنيفة، ولا أحد قبل أبى يوسف في تحديده عشرة أيام.
فيالعظم مصيبة هؤلاء القوم في أنفسهم، إذ يشرّعون الشرائع، في الإيجاب والتحريم والتحليل، من ذوات أنفسهم، ثم بأسخف قول وأبعده عن المعقول.
وقد تتبع ابن حزم جميع الأدلة والأسانيد التي استند إليها أبو حنيفة وصاحباه في رأيهم في النبيذ، وفندها، فرد ضعيف أخبارها، أو تأولها على وجهها الذي يدعم وجهة نظره، في دفع هذه المقولات، ودحضها.
وفى هذا الجدل بين أصحاب تلك الآراء المختلفة، متعة ذهنية، ورياضة عقلية، لا شك فيها، ولكنها متعة تذهل الإنسان كثيرا عن الحقيقة التي بين يديه، وتفتح لذوى القلوب المريضة طريقا إلى الجمع بين المتناقضات من الآراء، فيأخذ من كل رأى ما يرضيه ويوافق هواه، فإذا دينه رقع مختلفة الألوان.. رقعة من هنا، ورقعة من هناك، وكلها- حسب رأيه- من الدّين ومن مقولات الأئمة الأعلام في الشريعة!! وفى هذه القضية بالذات، أخذ قوم بهذا المذهب الذي يجمع بين متناقضات الآراء، ويتتبع ما يرضى هواه منها، دون نظر إلى حلال أو حرام.. وفى هذا يقول الشاعر متهكما بهذا التضارب في شأن الخمر، التي ليس فيها إلا قولا واحدا، هو أنها الخمر، وأنها الحرام، قليلها وكثيرها سواء.
يقول الشاعر متهكما:
أحلّ العراقىّ النبيذ وشربه ** وقال الحرامان: المدامة والسّكر

وقال الشآمى النبيذ محرّم ** فحلت لنا من بين قوليهما الخمر

ويعنى الشاعر بهذا أن أبا حنيفة ومن تابعه (و هو عراقىّ) قد قال في في النبيذ قولا يخرجه به من الخمر، ويرفع عنه الحرمة المضروبة على الخمر، وأن أقصى ما يكون على شاربه أنه أتى فعلا مكروها إذا شرب حتى سكر.
أما الحرامان عند أبى حنيفة ومن تابعه فهما المدامة (أي الخمر المصنوعة من العنب) والسّكر، وهى الخمر المصنوعة من التمر، فما خمّر من تمر وعنب فهو الخمر، وهو الحرام قليله وكثيره، أسكر أو لم يسكر، أما ما خمّر من غير العنب والتمر، فهو نبيذ وقد عرفنا رأيه فيه.
وأما الشآمى الذي يشير إليه الشاعر، فهو مالك وأصحابه، ومالك يحرّم النبيذ من أي شيء كان، إذا أسكر كثيره فقليله حرام، وهى الخمر التي حرمها اللّه.
والشاعر يرى بين يديه رأيين مختلفين في النبيذ.. وكل رأى هو قول لإمام من أئمة الشريعة.. ولا على الشاعر أن يأخذ برأى أبى حنيفة في النبيذ!! وهذه كلها مماحكات، تفسد على المرء رأيه، وتشرّد مجتمع عزيمته، وتقيمه من هذا المنكر بين الشك واليقين.. إذ ينظر فيرى وجوها من الخلاف في أمر لا خلاف في أنه منكر، وقد جاء القرآن الكريم صريحا قاطعا بتحريمه: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} وجاءت السنة المطهرة تحكم هذا الحكم المحكم، فيقول النبي الكريم: «كل مخمّر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا.. فإن تاب تاب اللّه عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على اللّه أن يسقيه من طينة الخبال، قيل وما طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار».
وعن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
فكيف يزاغ عن هذا الحكم القاطع في الخمر وحرمتها، أيّا كان الوجه الذي تظهر به، وأيّا كان لونها وطعمها؟
إن كل ما أسكر فهو خمر، قليله وكثيره حرام.. هذا هو حكم اللّه، والحلال بيّن والحرام بيّن.. والمرء مؤتمن على دينه، فما عرف أنه مؤثّر على عقله من شراب أو طعام، كان حراما عليه أن يذوق قطرة منه، أو يطعم أقل القليل منه.
هذا هو فيصل الأمر في الخمر.. وإذن فلا قول بعد هذا، ولا بحث في مادتها، ولونها.
فالعلة في تحريم الخمر هي الإسكار والتأثير على العقل، تأثيرا يغيّر طبيعته، ويفقده توازنه، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما.. وليست علة تحريم الخمر قلتها وكثرتها، وإنما علتها أنها الخمر، وأنها الحرام، وليس في الحرام قليل وكثير.. فما حرم كثيره فقليله حرام، سدّا للذرائع.. حيث لا حجاز بين القليل والكثير، فقد يسكر بعض الناس من قطرات من الخمر بينما لا يسكر بعضهم إلا بما يملأ بطنه منها!! وأما مكان الخمر بين المحرمات، فأشهر من أن يدلّ عليه، فهى كبيرة الكبائر، وأم المحرمات.
ولكن الذي دعانا إلى بحث هذا الأمر ما نسمعه يجرى اليوم على أفواه بعض المثقفين من الشبان، الذين لقّنوا تأويلات فاسدة، دخلت عليهم مدخل الدين، من مقولات الملحدين، الذين يكيدون للإسلام، ويثيرون في وجهه العواصف، التي انتزعت أديانا كثيرة من مواطنها، في الغرب والشرق! وهيهات أن تنال العواصف والزوابع من دين هو أرسخ من الجبال الراسيات! يقول بعض المتأولين: إن تحريم القرآن للخمر لم يكن تحريما قاطعا ملزما، وإنما هو تحريم أشبه بالكراهية، الأمر الذي يجعلها لا تدخل في باب الكبائر من المحرّمات! وحجة القائلين بهذا القول، هي أن اللّه سبحانه وتعالى لم يقرنها بالمحرمات التي ورد في القرآن الكريم النصّ على تحريمها بصريح اللفظ: {حرّم} أو {حرمت} مثل قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} [96: المائدة] وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} [3: المائدة] وقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ}.
الآية (23: النساء).
هكذا يجى النصّ القرآنى بلفظ التحريم صريحا، فيما أراد اللّه تحريمه، من منكرات.. تحريما قاطعا جازما!! أما في الخمر، فقد جاء النصّ في معرض الحكم عليها بقوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ولو كان من تدبير الشريعة تحريم الخمر تحريما قاطعا لجاء النصّ صريحا بلفظ التحريم هكذا: حرمت عليكم الخمر! هكذا يهوّن هؤلاء المتألون من شناعة الخمر، ويستخفّون بجريمتها، ويجدون في الإقدام على شربها ما يرفع عنهم كثيرا من آثامها.. فما شربها عندهم- وأمرها على هذا الوصف- إلا من قبيل الصغائر من الذنوب، أو إلّا من اللّمم المعفوّ عنه من الآثام! وكذبوا على الشريعة، وافتروا على كلمات اللّه! وقد بينا من قبل أن الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة- بيّنا أن هذه الأوصاف تضع الخمر على رأس المنكرات كلها، وتقيمها فوق كل كبيرة.
فالميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها مما حرم اللّه من طعام، وجاء تحريمها نصا بلفظ التحريم {حرمت} لم توصف إلا بأنها فسق ولم تلحق بها تلك الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وبأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر اللّه وعن الصلاة!.
ونقول لهؤلاء المتأولين لكلمات اللّه على هذا الوجه الجريء الفاسد: ألا تقوم تلك الصفات التي وصفت بها الخمر شهادة على أنها أشنع المحرمات، وأغلظ المنكرات؟ ثم ألا يكون أمر اللّه باجتنابها، ولو لم توصف بما وصفت به، حكما ملزما لكل مؤمن باللّه أن يجتنبها اجتنابه للعدوّ المتربص به، الراصد لاغتياله والقضاء عليه؟
إن حكم اللّه على شيء، بأمر المؤمنين باجتنابه، هو حكم عليه بأكثر من الحكم بتحريمه.. إذ الأمر باجتناب الشيء يجعله تحت حكم مؤبد بحرمته، بحيث لا يحل أبدا بوجه من الوجوه، أو في حال من الأحوال، وذلك بخلاف الأمور التي حكم اللّه بتحريمها ابتداء بصريح لفظ التحريم، حيث تجدّ ظروف وأحوال تغيّر من صفتها، وتنقلها من الحرمة إلى الحلّ أو الإباحة.
فالمطاعم التي حرمّها اللّه، من الميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها قد أبيح للمضطر أن ينال منها ما يحفظ عليه حياته، ولا إثم عليها فيما طعم منها.
وصيد البرّ، الذي حرّم على المحرم، يصبح مباحا بعد أن يتحلل المحرم من إحرامه.. والمرأة المحصنة- أي المتزوجة- محرمّة على غير زوجها، فإذا طلقت منه، وانتهت عدتها كانت حلّا لأى رجل مسلم، من غير محارمها، إذا هو تزوجها.
أما ما أمر اللّه باجتنابه من منكرات، فلم يرفع عنه هذا الحظر بحال أبدا.
ففى قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [30: الحج] أمر ملزم لكل مؤمن باجتناب هذين المنكرين ما دام على الإيمان:
عبادة الأوثان، وقول الزور.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [26: النحل] هو ملاك دعوة الرسل.. الإيمان باللّه، وترك عبادة الأوثان.. فلا يكون في المؤمنين أبدا من لم يجتنب عبادة الأوثان.. إنه مشرك باللّه بلا ريب.
وكانت دعوة إبراهيم إلى ربه قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} [35: إبراهيم].
فتجنب الشيء واجتنابه هو الابتعاد عنه، اتقاء للخطر المتوقع منه، إذا داناه الإنسان، فكيف إذا اختلط به، وسكن إليه؟
فالأمر باجتناب الخمر، وما أمرنا باجتنابه من منكرات، هو أمر ملزم مؤبد لافكاك منه أبدا، إلا في حال الاضطرار الذي يشمل الخمر وغيرها من المحرمات.
وهذا هو وجه من وجوه إعجاز القرآن، في إلباس المعنى المراد، اللفظ المناسب له، والذي لا يصلح له غيره من ألفاظ اللغة العربية كلها.
والدّين- كما قلنا- هو أمانة بين العبد وربّه، والحلال بيّن والحرام بيّن، وخير للمرء أن يلقى اللّه عاصيا من أن يلقاه منافقا، يمكر به وبآياته، فذلك منكر إلى منكر وبلاء إلى بلاء، إذ هو إلى جانب ارتكاب المنكر، استخفاف باللّه، وإنكار لعلمه به، وقدرته عليه.