فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآية رقم (93):

{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)}.
التفسير:
الجناح: هو اللّوم، والمؤاخذة، على أمر فيه حرج وضيق.
وفى قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا} بيان لسعة فضل اللّه على المؤمنين، وأنّه وقد أحل لهم الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث، فإنهم في سعة من أمرهم فيما يطعمون، حيث لا تطلب أنفسهم إلا الطيب، على حين تعاف الخبيث وتنفر منه.. فهم- والأمر كذلك- لا يجدون حظرا على أي طعام يشتهونه، ولا يستشعرون حرجا إزاء أي طعام حرّم عليهم.. إذ كان في الطيب ما يصرفهم عن الخبيث الذي لا تشتهيه إلّا نفس خبيثة.
وقوله تعالى: {إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} هو قيد وارد على رفع الحرج عن المؤمنين فيما يطعمون، وفى استغنائهم عن الحرام بالحلال، وعن الخبيث بالطيب.
فالمؤمن إذا ما اتقى اللّه وعمل الصالحات.. صلحت نفسه، وطابت طبيعته فلا يجد فيما حرّم اللّه عليه من خبائث، تضييقا عليه، ولا حرجا على أي طعام يشتهيه، إذ كان إيمانه وتقواه، وملازمته لتقوى اللّه وطاعته- إذ كان كل ذلك قد عزل نفسه، وغضّ بصره عن النظر إلى هذه المحرّمات، وحسابها فيما يطعمه الناس.
ولا شك أن هذه منزلة لا يبلغها الإنسان إلا بعد أن يروض نفسه على التقوى، ويذلّلها بالعبادات والأعمال الصالحة، التي تقيمها على الصبر، والتعفّف والقناعة.. إذ كانت شهوات النفس غالبة، وأهواؤها متسلطة، والخبائث محمولة إليها على يد شيطان يزين الخبيث ويغرى به.. {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
فالمؤمنون الذين تخلو أنفسهم من التلفّت إلى تلك المحرمات، ولا يجدون لها في صدورهم وسواسا يوسوس بها، أو داعيا يدعوهم إليها- هؤلاء المؤمنون هم قلّة في المؤمنين.. هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم إزدادوا إيمانا بالتقوى والأعمال الصالحة، ثم لزموا طريق التقوى والإيمان، ثم انتهوا إلى التقوى والإحسان- فهؤلاء هم الذين يبلغون تلك المنزلة التي تطمئن فيها قلوبهم إلى الطيبات، وتنقطع فيها وساوس الشيطان لهم بالمحرمات، حيث ييأس من أن يلتفتوا إليه، أو ينزع بهم منزع إلى شيء مما في يديه، من خبيث كل مطعوم ومشروب.
فالآية الكريمة تكشف عن حقيقة الإيمان وأثره في إقامة النفس على طريق تلتقى فيه لقاء مصافحا لما أحلّ اللّه من طيبات، حيث تجد في ذلك راحتها، وسعادتها، ولا تستشعر ضيقا عليها، ولا حرجا في إقامتها على حدود هذا الحلال الطيب المباح لها.
وهذا هو السرّ في التكرار الذي جاء عليه النظم القرآنى في تلك الآية الكريمة، والذي اضطرب فيه المفسّرون اضطرابا مزعجا، وذهبوا في تأويله مذاهب تدور لها الرءوس.
فقد وصف المؤمنون وصفا مكررا بالإيمان والتقوى، والعمل الصالح، والإحسان.
{الذين آمنوا وعملوا الصالحات} {اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا}.
والسبب في هذا الذي وقع فيه المفسرون من اضطراب هنا، هو أنهم نظروا جميعا إلى الحرج على أنه رفع الإثم والمؤاخذة على ما يناله المؤمنون باللّه من أطعمة، بعد أن يتّصفوا بتلك الصفات.
ولو أنهم نظروا- كما نظرنا بتوفيق اللّه- إلى الحرج على أنه ما يقع في صدور المؤمنين من ضيق، إذا هم واجهوا المحرمات من المطعومات والمشروبات، حين يدعوهم إيمانهم وامتثالهم لأمر اللّه إلى التعفف عنها، والإمساك بأنفسهم عن الإلمام بها- لو أنهم نظروا تلك النظرة- لرأوا أن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة في موقفهم إزاء هذه المحرمات، وأنهم على منازل مختلفة منها.
فبعضهم ينتهى عنها، وفى صدره حرج وضيق، وفى كيانه مكابدة ومجاهدة.
وبعضهم ينتهى عنها وفى نفسه ميل إليها، ورغبة فيها، ولكنّ خوف اللّه يغلّ يده، وخشية اللّه تكسر حدة مشاعره.
وبعضهم تراوده نفسه عليها، وتؤامره على الإلمام بها، ثم التوبة عنها.
وهكذا تتغاير منازل المؤمنين، وتتعدد مواقفهم، إزاء هذه المنكرات، بعدا وقربا، وصبرا، وجزعا، واطمئنانا وقلقا، واجتنابا ومقارفة.
أما المنزلة التي يكون فيها المؤمن، وقد انعزلت مشاعره، وسكنت بلابله، فلم يكن لهذه المنكرات من المطاعم والمشارب نخسة في نفسه، أو همسة في صدره- فلن يبلغها المؤمن إلا بعد مجاهدة ومصابرة، وبعد طريق شاق طويل يقطعه مع الإيمان والتقوى والعمل الصالح، متنقلا من حال إلى حال، مرتفعا من منزلة إلى منزلة، حتى يكون المؤمن الرّبانى الذي يكون على الوصف الذي ورد في الحديث القدسي: «ما يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه».
ففى هذا الإنسان الرباني تموت كل نوازع الهوى، وتسكن كل دواعى الشهوة إلى محرم أو مكروه.
وفى الفاصلة التي ختمت بها الآية الكريمة: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} في هذه الفاصلة ما يكشف عن هذه المنزلة التي تهتف الآية الكريمة بالمؤمنين أن يسعوا إليها، وأن يعملوا على بلوغها.
وتلك هي منزلة الإحسان، تلك المنزلة التي ذكرها الرسول الكريم في قوله، وقد جاءه جبريل عليه السلام، وهو مع أصحابه في صورة رجل يسأله عن الإيمان والإحسان.. فقال جبريل يا رسول اللّه: «ما الإسلام؟ قال ألّا تشرك باللّه شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان قال: صدقت.. ثم قال يا رسول اللّه: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن باللّه وملائكته وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله» قال صدقت.. قال يا رسول اللّه.. ما الإحسان قال: «أن تخشى اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك....» الحديث كما رواه مسلم.
فالإحسان هو أعلى درجات الإيمان: «أن تخشى اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه براك».
وتلك منزلة لا ينالها إلا المصطفين من عباد اللّه. ولهذا ضمهم اللّه إليه، وجعلهم من أصفائه وأحبابه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.

.تفسير الآية رقم (94):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنها تعرض للمؤمنين امتحانا يمتحن به إيمانهم، وتختبر به تقواهم، فيما هو من طعامهم، الذي بيّنت لهم حدود ما بين الحلال والحرام منه.. وأنه ليس على هذه الحدود وازع يزع المؤمنين عن الوقوف عندها إلا ما في قلوبهم من إيمان وتقوى وإحسان.
والمؤمنون المخاطبون هنا هم الذين في حال إحرامهم بالحج أو العمرة.
والصيد المبتلون به، والممتحنون فيه، هو صيد البر، لا صيد البحر.
وقد يراد بالمؤمنين من هم في البيت الحرام.. ويكون المراد بالصيد ما احتمى بالبيت الحرام من طير، وحوّم في سمائه.
وقوله تعالى: {تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ} أي تطوله وتبلغه أيديكم ورماحكم، أي هو صيد واقع تحت قدرتكم على صيده من غير معاناة، أو بحث عنه، إذ هو قريب دان، يغرى بصيده.
ومعنى الآية: أن اللّه- سبحانه وتعالى- سيضع المؤمنين موضع امتحان وابتلاء، في هذا الصيد الذي يدنو منهم، ويعرض لهم، ويقع في متناول أيديهم، ورماحهم، وهو لائذ بالحرم، ساكن إليه أو هو في غير هذا الحمى، وهم محرمون بالحج أو العمرة.
وقد حرّم اللّه على المؤمنين صيد هذا الحيوان المتعرّض لهم، الواقع لأيديهم مباشرة، أو على قيد رمح منهم- وهو لائذ بالحرم، أو هو خارج الحرم وهم محرمون، فمن صاد شيئا من هذا الحيوان، وهو في حاله تلك، أو هم في حالهم هذه، فقد أثم، وخان اللّه على ما أتمنه عليه من أحكام شرعه.
وقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ} إشارة إلى أن هذا الامتحان هو امتحان لما في القلوب من إيمان وتقوى وإحسان.. حيث لا وازع يزع الإنسان هنا إلا إيمانه وتقواه.. فلا سلطان يحول بين المؤمن وبين هذا الصيد الذي بين يديه.. فمن غفل في كيانه وازع إيمانه وتقواه كان له أن ينال من هذا الصيد ما يشاء، وعليه أن يلقى العقاب وأصوله.
ومعنى علم اللّه هنا، هو العلم المسلط على الواقع بعد أن يقع، أما علمه سبحانه، فهو علم شامل محيط بكل ما كان وما سيكون، وما وقع أو سيقع.
وفى هذا العلم المتسلط على الواقع يؤخذ الإنسان متلبسا بعمله، من خير أو شر، ومن هنا تصح محاسبته، ويكون ثوابه أو عقابه.
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
الإشارة هنا في {ذلك} واقعة على ما نصبه اللّه سبحانه وتعالى للمؤمنين من معالم الهدى، وما رسم لهم من حدود.. فمن اعتدى منهم بعد هذا البيان المبين فلا عذر له، وعليه جزاء المتعدى، وهو العذاب الأليم.

.تفسير الآيات (95- 96):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}.
التفسير:
ما زالت الآيات، تتحدث إلى المؤمنين، ويناديهم الحق سبحانه وتعالى بهذه الصفة، صفة الإيمان، فيما يشرّع لهم من حدود ما يطعمون من طيبات، وما يتجنبون من خبائث.
وواضح من هذا، عناية الشريعة الإسلامية بهذا الأمر، والتفاتها إليه، والتقاؤها بالمسلمين على كل طريق يكون لهم فيه داع يدعوهم إلى مطعوم أو مشروب.
ذلك أن أكثر ما يبتلى به المؤمنون في دينهم ما كان مورده من جهة طعامهم.. إذ الطعام قوام الحياة، وإليه ينصرف أكثر جهد الإنسان وعمله، فإذا لم يتحرّ الحلال فيما يأكل، لم يتحرّ الحق فيما يعمل ويكسب.. ولهذا أعطى اللّه سبحانه وتعالى صفة الأكل لكل مال يقع ليد الإنسان من حرام، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [10: النساء] وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ} [275: البقرة] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [188: البقرة].
من أجل هذا كانت عناية الشريعة تلك العناية البالغة ببيان الحلال والحرام، من طعام الإنسان وشرابه، ليقيم وجهه على ما أحلّ اللّه له من طيبات. وليعرض عما حرّم عليه من خبائث.
وفى هاتين الآيتين يبيّن اللّه سبحانه وتعالى للمؤمنين حكم الصيد، وما لهم منه، وما عليهم فيه، وهم محرمون.
فيقول سبحانه وتعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والخطاب للمؤمنين، لأنهم أهل لأن يستمعوا لهذا النداء الكريم، وأن يستجيبوا له، وهم متحلّون بهذه الصفة، صفة الإيمان، وإلا فقد آذنوا أنفسهم بأن يتخلّوا عنها، وأن يكونوا من غير جماعة المؤمنين.
والمراد بالصيد المنهي عن صيده هنا، هو صيد البرّ، ويكشف عن هذا المراد قوله تعالى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} لأن صيد البحر لا يقتل، وإنما الذي يقتل هو صيد البر، كما يكشف عنه قوله تعالى بعد ذلك: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ}.
فهو استثناء وارد على تحريم الصيد، وبهذا يعرف المراد من الصيد المنهي عن صيده، وهو صيد البر.
والنهى عن صيد حيوان البر مقيد بحال الإحرام فقط، أما بعد أن يتحلل المسلم من إحرامه فالصيد مباح له.
وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وهو بيان للكفارة الواجبة، والدية المطلوبة من كل من قتل صيدا متعمدا وهو محرم.
وهذه الدية لا تفى بالمطلوب إلا إذا كانت مثل الحيوان المقتول، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي فجزاء القاتل أن يغرم حيوانا مثل هذا الحيوان الذي قتله، إن لم يكن مثله عينا كان مثله قيمة وثمنا.
وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ} هو بيان للعملية التي يتم بها تقويم الحيوان الذي قتل، وتحديد قيمته.. وذلك يكون بالرجوع إلى رجلين عدلين لهما نظر وخبرة، يحتكم إليهما في تقدير قيمة هذا الحيوان.
وقوله تعالى: {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} هو حال من الضمير في {به} الذي يعود إلى قوله تعالى: {فَجَزاءٌ}.
أي أن ما يحكم به الحكمان يساق هديا إلى إلى البيت الحرام {بالغ الكعبة} أي مساقا إلى الكعبة.
وقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً} هو تخيير فيما يجبر به هذا الذنب، ويقع كفارة له.. فالكفارة إما أن تكون هدايا يساق إلى الكعبة أي البيت الحرام، مقدّرا قيمته بقيمة الحيوان الذي قتل، وإما أن يكون بإطعام مساكين بقدر هذه القيمة، وإما بصيام يعدل ما كان يمكن أن يطعم من مساكين، من قيمة هذا الصيد المقتول.
وهل يكون حساب الصوم باعتبار اليوم الواحد مقابلا لإطعام مسكين واحد، كما في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ}، أو أن يكون الحساب قائما على أن يكون صوم كل ثلاثة أيام مقابلا لإطعام عشرة مساكين، كما قوله تعالى: {إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}؟ وهل يكون الصوم هنا متتابعا متصلا، أو مفرّقا غير متصل؟
والذي عليه أكثر المفسرين والفقهاء أن يكون الصوم يوما واحدا، في مقابل كل مسكين يمكن أن يطعم من قيمة الحيوان المقتول.
كما أنّ الذي عليه الرأى في إفراد الصيام أو تتابعه، أن يكون باختيار الصائم، إن شاء أفرد أو إن شاء تابع ووصل.
كذلك اتفق رأى المفسرين والفقهاء على أن قتل الصيد خطأ من المحرم، يلحق بقتله عمدا منه، حيث ثبت عندهم أن السّنة ألحقت قتل الخطأ بالقتل العمد في هذا المقام.
وأمر آخر.. لم اختلف النظم في قوله تعالى: {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً}؟ ولم لم يكن العطف عطف نسق بين قوله تعالى: {هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ} وبين ما بعده.. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً}؟ أو بمعنى آخر.. لم كان العطف على القطع، ولم يكن على النسق. مع أن الأمر على التخيير فيها جميعا بحيث يجزئ أىّ منها.. الهدى، أو الإطعام، أو الصيام؟
والجواب على هذا:
أولا: أن تقويم قيمة الصّيد المقتول يكون منظورا فيه إلى حيوان آخر مثله، قيمة وقدرا، وأن ذلك الحيوان هو الأصل في الموازنة بينه وبين الحيوان المقتول، فكان من الحكمة استحضاره في تلك الحال، وجعله حالا قائمة في نظر الحكمين اللذين يرجع إليهما في الحكم في هذا الأمر.. وذلك من شأنه أن يجعل الحيوان المقتول، والحيوان المنظور إلى إحلاله محله في مجال نظر الحكمين، مما يجعل حكمهما أقرب إلى الصحة والسلامة.
وثانيا: تأسيسا على هذا يصبح الحيوان الذي يساق هديا إلى الكعبة أصلا يقاس عليه، عند العدول إلى غيره، مما يساوى قيمته، من إطعام مساكين، أو صيام أيام تعادل ما يطعم من مساكين. ويكون تقدير النظم القرآنى على هذا الوجه يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو ما يقوم مقامه من إطعام مساكين، أو ما يعدل إطعامهم من صيام. ومن هنا كان القطع لازما، بعد تقرير الحكم، وتقدير الحيوان الذي يحلّ محلّ الصيد المقتول.
وفى قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ} الفاعل هنا هو المحرم الذي قتل الصيد، والوبال: هو السوء والضرّ، ومنه قولهم طعام وبيل، وماء وبيل، إذا كانا فاسدين لم تسفهما النفس، ومن ذلك قوله تعالى في فرعون: {فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا} [16: المزمل].
وفى قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ} تشنيع على الاعتداء على حرمات اللّه، وعلى العدوان على من لاذبحماه، ولو كان حيوانا أحل اللّه ذبحه وأكله، فمن فعل ذلك فقد عرّض نفسه لبلاء شديد يلقاه من عذاب اللّه.
وتظهر بشاعة هذا الفعل، وشناعته من وجوه:
فأولا: هذه الكفارة التي تقدّم بها قاتل الصيد في الحرم، أو وهو محرم- هذه الكفارة عن تقديم هدى مثله إلى الكعبة أو إطعام مساكين أو صيام-
لم تكن لتغسل هذا الدّم الذي أريق، فمازال عالقا بمن أراقه بعض الإثم، ولهذا جاء التعبير القرآنى- في أعقاب تقديم هذه القربات- بهذا اللفظ المؤذن بأن تلك القربات كانت ضربا من العقاب والنكال لمن قدمها: {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ}.
وثانيا: أن الشريعة هنا لم تعف القتل الخطأ من إلحاقه بالعمد، وأخذ القاتل خطأ بما أخذ به القاتل عمدا.
وفى ذلك ما يشعر بأن القاتل عمدا هنا أشبه بمن قتل نفسا مؤمنة عمدا، وأنه إذا كان قد أخذ بما أخذ به القاتل خطأ، فذلك من فضل اللّه ورحمته بعباده.
فالشريعة الإسلامية قد رفعت الإثم عمّا وقع من المسلم خطأ من المنكرات.
ولكنها في باب الدماء، قد جعلت للخطأ وضعا خاصا، فلم تعف الذي قتل نفسا خطأ من الأخذ بشيء من العقاب، صيانة لدم الإنسان، وتكريما له أن أن يذهب هدرا من غير حساب.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [91: النساء] وقد ألحق الحيوان اللائذ بحمى اللّه، بالإنسان.. وفى ذلك ما يوقع في نفس المسلم كثيرا من التأثم والتحرج لأيّة قطرة دم تراق بغير حقّ، ولو كانت دم حيوان! ثالثا: في التعبير عن صيد الحيوان بالقتل في قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}- في هذا ما يشعر بأن عملية الصيد في هذا الموطن، وفى تلك الحال هي عملية قتل.
تلك الكلمة التي تثير في النفس مشاعر القتل الذي يقع على الإنسان، والذي يكاد يكون لفظا خاصا به.
وإذا ذكرنا أن الأمة العربية- في جاهليتها- كانت مستخفة بالدماء، مستبيحة لحرماتها، مستهينة بإزهاق الأرواح وإراقة الدماء- إذا عرفنا ذلك- لم نستغرب، ولم ندهش لهذا التدبير الحكيم في أخذ النّاس بتلك الأحكام في قتل الحيوان، في حال ما، وهو الذي أبيح ذبحه وأكله، في غير هذه الحال، فما كان لمجتمع ألف الولوغ في دم الإنسان، أن تنتزع منه هذه المشاعر المتحجرة إلا بمثل هذا الأدب السماوي الحكيم.
ثم إن هذا الأدب، لن يبطل حكمه، ولن تفتقد حكمته في أي مجتمع، وفى أي زمان أو مكان.. فالناس هم الناس، في عدوان بعضهم على بعض، وفى إراقة بعضهم دم بعض.. وحسب هذه الحروب المشبوبة اليوم، في كل آفاق الأرض، وما يراق فيها من دماء، وما يزهق فيها من أرواح- شاهدا على أن الناس هم اليوم أشد حاجة إلى هذا الأدب السماوي من حاجة العرب الجاهليين إليه.
وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} هو رفع للحرج، وغسل الإثم الذي وقع لبعض المسلمين من قتل الصيد عمدا أو خطأ، قبل أن ينزل هذا الحكم، ويصبح أمرا ملزما، بعد أن بلّغه الرسول، وعرفه المسلمون.
قوله تعالى: {وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ} هو وعيد لمن تجاوز اللّه سبحانه وتعالى له، عما كان منه من هذا الأمر، قبل أن يأتى حكم اللّه فيه، ثم وقع منه هذا المحظور بعد النهى عنه.. فهو حينئذ معرّض لنقمة اللّه، واقع تحت عقابه.. {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} لا يفلت من سلطانه أحد {ذُو انْتِقامٍ} يأخذ بمن اعتدى على حرماته، بنقمته، وعذابه.
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} هو بيان من اللّه سبحانه وتعالى، يفرّق به بين حكم صيد البرّ وصيد البحر.. فإذا كان صيد البر قد أقيم عليه هذا الحظر في حال الإحرام، فإن صيد البحر حلّ مباح، لا حرج على المحرم أن ينال منه ما يشاء، فيصطاده، ويبيعه، ويأكل منه.. {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ} أي والأكل منه.. {مَتاعاً لَكُمْ} أي زادا لكم تتزودن به، وتطعمون منه.. {وَلِلسَّيَّارَةِ} أي وللسائرين الذين ليسوا في حال إحرام.. أي أن صيد حيوان البحر يستوى فيه المحرم وغير المحرم، حيث لم يكن للإحرام أثر في هذا النوع مما يصاد من حيوان.
وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً} هو توكيد لحرمة صيد البر في حال الإحرام، واحتراس من أن يكون رفع الحظر عن صيد البحر مؤذنا يرفع الحظر عن صيد البر، الذي تقرر حكمه من قبل، وفى هذا مزيد عناية بتقرير هذا الحكم الواقع على صيد البر وحراسة له من أن يقع فيه لبس، أو شك، ولو على سبيل الاحتمال البعيد.
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} هو حراسة مشدّدة على الحدّ الذي أقامه اللّه سبحانه وتعالى على حرمة صيد البرّ في حال الإحرام أو في الحرم.. وتلك الحراسة هي الخوف من اللّه، والتحذير من عقابه للخارجين على حدوده، والمعتدين على حرماته.