فصل: تفسير الآيات (97- 100):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (97- 100):

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أنها تحدّث عن مواطن حرمات اللّه، التي بينت الآيات السابقة بعضا منها.
وقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ}.
القيام: التقويم، والإصلاح.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى جعل الكعبة، والبيت الحرام، المقام عليها- جعلها موطن إصلاح وهداية ورشاد للناس، حيث جعلها حرما آمنا، يفيض الأمن منها على كل كائن، من إنسان أو حيوان أو نبات.. بل لقد شمل هذا البلد كله الذي أقيم حول الكعبة، واحتمى بحماها، فكان هذا البلد أيضا حمى لكل من لاذبه، واحتمى فيه، وسكن إليه، استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً}.
وقوله: {وَالشَّهْرَ الْحَرامَ} أي والشهر الحرام كذلك جعله اللّه ظرف أمن وسلام، وإصلاح لأمر الناس، حيث لا قتال فيه، والمراد بالشهر الحرام، الأشهر الحرم.. ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم ورجب، والتعبير عنها، بالشهر الحرام باعتبارها كيانا واحدا في حرمة القتال فيها، وإن تفرقت أزمانا، واختلفت أسماء.. فهى بمنزلة شهر واحد.. وفى هذا ما يقيم شعور المسلم على حال واحدة فيها، وألا ينعزل عن هذا الشعور بانتقاله من شهر إلى شهر.. بل إن من الخير له أن يصل بعيدها بقريبها.. فشهر رجب وإن سبق الأشهر الثلاثة بشهرين، وتأخر عنها بستة أشهر، جدير به أن يوصل بها من طرفيه، وبهذا يكون العام كله شهر حرام، لا قتال فيه، وإن كانت الأشهر الحرم قد أفردت بهذا الحكم، فهو حكم واجب فيها، مستحبّ في غيرها.
قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} معطوف على الشهر الحرام، الذي هو معطوف على الكعبة.. أي أن الحيوان المساق إلى البيت الحرام هديا له، والقلائد التي يقلّدها ويعلّم بها، هي من حرمات اللّه، التي ينبغى ألا يتعرض لها أحد بأذى أو عدوان، وفى هذا تأديب للناس، وتهذيب لهم، وإصلاح لأمرهم.. حيث يعفّ الإنسان عن الاعتداء على حرمات الناس، إذا هو امتثل أمر اللّه وكفّ يده عن العدوان على حرماته.. في رعاية كل حرمة من هذه الحرمات هداية للناس، وتقويم لانحراف المنحرفين منهم، وتدريب لهم على الامتثال والطاعة، ورعاية الحرمات فيما بينهم. وبهذا تكون كل تلك الحرمات:
{الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد} قياما للناس وتسديدا لسلوكهم في الحياة.
قوله تعالى: {ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
الإشارة هنا إلى هذه الحرمات، التي جعلها اللّه قياما للناس، وإصلاحا لهم.. وقوله تعالى {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل للحكمة التي تختفى وراء هذه الحرمات التي بيّن اللّه سبحانه وتعالى معالمها، وحدد حدودها، وأنها منصوبة للمؤمنين لتكون امتحانا لإيمانهم، وابتلاء لما في قلوبهم من توقير للّه، واحترام لحرماته، وذلك لا يكون إلا لمن آمن باللّه، واستيقن من أنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شيء.. فمن لم يؤمن باللّه هذا الإيمان لم يقم في كيانه شعور بمراقبة اللّه، أو التوقي من العدوان على حرماته، والتعدي على حدوده.
فهذه الحرمات التي نصبها اللّه لأعين المؤمنين هي تدريب لهم على التعرف على اللّه، حيث ينتهى بهم الوقوف إزاءها، وتحريم حرماتها إلى العلم باللّه، وأنه سبحانه يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنه بكل شيء عليم.
وإذن فليس ثمرة هذه الحرمات فيما يجنى منها من إشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس، بل إنها- مع هذا- تفتح في قلب المؤمن طريقا إلى اللّه، يشهد منه سعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى ما تكن الضمائر، وما تخفى الصدور.
وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هو تعقيب على هذا الحظر الذي أقامه اللّه تعالى على حرماته، وحذّر الناس من العدوان عليها.. فهناك عقاب شديد راصد لمن اعتدى على حرمات اللّه.. وهناك غفران ورحمة لمن تاب ورجع إلى اللّه من قريب، واستغفر لذنبه، وندم على ما فرط منه.
وقدّم عقاب اللّه هنا على مغفرته، لأن ذلك في مواجهة حدود أقامها اللّه، وحذّر من مجاوزتها والاعتداء عليها، فناسب ذلك أن يجيء العقاب أولا لمن اعتدى على هذه الحدود، ثم تجيء الرحمة والمغفرة لمن أثم وأذنب ثم تاب واستغفر.
وقوله تعالى: {ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} هو تنبيه للناس إلى أنه لا سلطان لأحد عليهم فيما يأتون من طاعات، أو يرتكبون من آثام، إلا أنفسهم، وما في قلوبهم من إيمان، وما في كيانهم من عزائم.. إذ ليس مع أوامر اللّه ونواهيه قوى مادية تقهر الناس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وإنما كل ما هنالك، هو دستور سماوى، وقانون إلهى، يحمله رسول من اللّه إلى عباد اللّه، ويبيّن لهم ما حمل إليهم من ربّه.. ثم يتركهم لأنفسهم.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ومن شاء فليستقم، ومن شاء فلينحرف:
{ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} وليس من رسالته أن يقهر الناس على الخير الذي يحمله إليهم: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [99: يونس].
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ} هو بيان لما بعد البلاغ الذي هو من عمل الرسول.. فهناك بعد أن يبلغ الرسول ما أنزل إليه من ربّه، يتولى اللّه سبحانه وتعالى مراقبة الناس فيما بلغهم إياه رسوله، واطلاعه سبحانه على ما يكون منهم من طاعة أو عصيان.. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ}.
لا تخفى عليه منكم خافية، {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [31: النجم] {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} [40: الرعد].
وقوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} هو إلفات للناس إلى ما بين الطيب والخبيث، من بعد بعيد. واختلاف شديد، في الآثار التي تتبع كل منهما، وفى الثمار التي يجنيها الزارعون لهما.. من خير أو شر، ومن طيّب أو خبيث.
فالطيب وإن بدا قليلا في كمّه، هو كثير في كيفه.. إنه نبتة من نبّات الحق، يزكو مع الزمن، ويعلو مع الأيام. إنه أشبه بالكلمة الطيبة، والشجرة الطيبة، لا تغرب شمسه، ولا تنقطع موارد الخير منه.. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها} [54- 25: إبراهيم].
والخبيث وإن زها وازدهر، وانداح وامتدّ، هو كثير في كونه، ضئيل في قدره.. لا ظلّ له ولا ثمر فيه.. {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ} [26: إبراهيم].
هكذا الطيب والخبيث، في كل شيء، ومن كل شيء.. في الناس، وفى الحيوان، والنبات والجماد، وفى المعاني والمحسوسات.. وفى القول وفى العمل.
الطيب حياة دائمة متجددة لا تموت أبدا.. والخبيث موات لا يمسك ماء ولا يطلع نبتا.
فالذين يستخفّون بالطيّب، لضمور شخصه، أو خفوت صوته، أو احتجاب ضوئه- إنما هم مخدوعون في أبصارهم، مصابون في بصائرهم، لا يرون من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يعلمون من الأمور إلا قشورها، أما الصميم فهم في عمّى عنه، وأما اللّباب فهم على جهل به.. {يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ} [7: الروم].
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} هو دعوة إلى أصحاب العقول أن يستعملوا عقولهم، وأن يفيدوا منها في التعرف على الحق والخير، والتعامل مع الطيب والحسن، ففى ذلك يكون الفلاح، ونجاح المسعى.
ودعوة ذوى الألباب إلى التقوى، هي الدعوة المرجوّ لها القبول والنجاح، حيث لا تحصّل التقوى إلا بالعمل الطيب، وحيث لا يتهدّى إلى الطيب، ولا يعمل له، ويتعامل معه، إلا أصحاب العقول السليمة، الذين احترموا عقولهم، وأخذوا بما تكشف لهم بصائرهم من معالم الحق والخير.

.تفسير الآيات (101- 102):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)}.
التفسير:
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن التعرف على الحلال والحرام، والتهدّى إلى تمييز الطيب من الخبيث، يكون عن نظر وتقدير، كما يكون عن مدارسة، ومساءلة لأهل العلم والذكر، كما يقول اللّه تعالى: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [7: الأنبياء].
وقد أشارت الآية السابقة إلى التفرقة بين الخبيث والطيب، وأن الخبيث خسيس لا قيمة له، ولو لبس ثوبا من البريق الزائف الذي يخدع الحمقى والسفهاء.
وكان من هذا أن أكثر المسلمون من التنقيب والبحث، وتقليب الأمور على وجوهها، ليتعرفوا على ما ينكشف منها من طيب أو خبيث، ومن خير أو شر، ومن حق أو باطل.. وقد أغراهم بهذا أن الرسول الكريم قائم فيهم، مقام الشمس في وضاءتها وامتداد سلطانها على الآفاق، فكانوا يلقونه- صلوات اللّه وسلامه عليه- بكل عارض يعرض لهم، وبكل شبهة تقع لأبصارهم، فيلقاهم الرسول الكريم بما يجلو الشّبه، ويكشف معالم الطريق إلى الحق والخير.
وقد تجاوز بعض المسلمين هذه الحدود فيما يعنيهم من أمر دينهم أو دنياهم، فجعلوا يسألون عن أمور لم تقع، قد افترضوا وقوعها، واستعجلوا الحكم الشرعي فيها.. وهذا من شأنه أن يجعل الرسول بين أمرين إما أن يجيبهم إلى ما سألوا، وإما أن يدعهم يسألون ولا يجيب.
والأمر الثاني: إن أخذ به الرسول، ووقف عنده، أقام السائلين على قلق، وحيرة، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتشعب بهم الآراء في كل وجه.
فكان لابد- والحال كذلك- أن يلقى الرسول كلّ سائل بالجواب عما سأل، قبولا أو ردّا، وموافقة أو مخالفة.
وإذا علمنا أن القرآن الكريم كان ينزل منجّما، وأن التشريع الإسلامى جاء متدرجا، شيئا فشيئا، وحالا بعد حال، حسب تقدير العزيز العليم، وحكمة الحكيم الخبير، حتى تتأصل أصول الشريعة، وترسخ أحكامها، وتنزل من النفوس منزلة الاطمئنان والقرار.
فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وهى أركان الإسلام، بعد الإيمان باللّه- هذه العبادات لم تفرض على المسلمين مرة واحدة.. بل فرض بعضها في مكة، قبل الهجرة، كالصلاة التي فرضت بعد الإسراء، ثم فرضت الزكاة، والصوم- في السنة الثانية بعد الهجرة، ثم الحج، الذي كان آخر ما فرض من العبادات!.
إذا علمنا هذا، كان لنا أن نسأل:
ماذا يكون الأمر لو سأل سائل من المسلمين النبيّ صلى اللّه عليه وسلم وهو في مكة لم يهاجر بعد- عن الزكاة، أو عن الصوم مثلا؟
أكان الجواب بأن الزكاة فرض على المسلمين، أو أن الصوم المفروض عليهم هو صوم رمضان؟
كان لابد إذن أن ينزل قرآن في هذا، وأن يعجّل بأمر لم يرد اللّه تعجيله، لحكمة أرادها، ولتقدير قدره.
إذن، فإن من الخير للمسلمين أن يسكتوا عما سكتت السريعة عنه، إلى أن تقول كلمتها فيه، أو تدعه فلا تقول شيئا عنه.. وفى هذا وذاك خير للمسلمين، ورحمة بهم، وإحسان إليهم.
ولهذا جاء قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} والأشياء المنهىّ عن السؤال عنها ليست الأشياء جميعها على إطلاقها، وإنما هي الأشياء التي يترتب على إقرار الشريعة لها، وأخذ المسلمين بها إضافة تكاليف وأعباء، كتحريم أمر كان غير محرم، وحظر طعام كان مباحا.. ونحو هذا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} أي إن انكشف لكم حكم الشريعة فيها ساءكم، وشق عليكم، وأعنتكم.
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ذرونى ما تركتكم.. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
واستمع إلى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [25 محمد].
فقد سأل المسلمون النبيّ أن تنزل عليهم كلمة اللّه في القتال، وحكمة فيه، فلما نزلت سورة محكمة، أي جلية واضحة، لا تحتمل تأويلا، وجاء أمر القتال فيها واجبا ملزما- ساء ذلك كثيرا من النفوس، وثقل عليها احتماله، أما الذين احتملوه فاحتملوه على جهد ومشقة.
واستمع بعد ذلك إلى قوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [77: النساء] فالذى كان مطلوبا أولا من المسلمين أن يكفّوا أيديهم عن الإثم والعدوان وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.. وكان ذلك أول الإسلام، وعلى الخطوات الأولى من مسيرة المسلمين فيه.. ثم كان بعد ذلك أن فرض اللّه عليهم القتال، فرضه عليهم بعد أن قطع بهم على طريق الإسلام تلك المرحلة التي دربوا فيها على الطاعات، وتوثقت فيها صلتهم باللّه فماذا كان بعد أن كتب عليهم القتال؟ لقد تمنى كثير منهم ألا يكون هذا الحكم فريضة واجبة عليهم.. لقد ضاقت به نفوس، ووجفت منه قلوب.
فكيف كان الحال لو أن الأمر بالقتال جاءهم ابتداء، فكان فرضا لازما من أول يوم الإسلام؟
كان من الخير إذن للمسلمين ألا يسألوا عن مثل هذه الأشياء، وألا يفتحوا على أنفسهم أبوابا من الأعباء، سدّها اللّه دونهم، وعافاهم مما يجيئهم منها من تكاليف وواجبات.. لا عن نسيان منه، سبحانه، وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، ولكن كان ذلك رحمة وفضلا وإحسانا.
يقول الرسول الكريم: «إن اللّه تعالى فرض فرائض فلا تصيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها».
وفى الحديث، أنه لما نزلت آية الحج، نادى النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الناس فقال: «أيها الناس.. إن اللّه قد كتب عليكم الحج فحجّوا» فقالوا يا رسول اللّه: أعاما واحدا أم كل عام؟ فقال: «لا، بل عاما واحدا، ولو قلت كلّ عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم!» أي لم تستطيعوا الوفاء بما فرض عليكم، وفى هذا مخالفة لحكم من أحكام اللّه، وتضييع لفريضة من فرائضه، وذلك هو كفر باللّه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ}.
المراد بقوله تعالى: {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} أي حين تجيء آيات اللّه في الوقت المقدور لنزولها، بما تنزل به من أحكام، حتى يتم نزول القرآن الكريم كله.. فإن بقي في نفوسهم شيء بعدها سألوا عنه.. وفى هذا إشارة إلى أن أحكام الشريعة كانت تتنزل بقدر مقدور لها، وبتوقيت محدد لنزولها.
فإذا جاء القرآن بحكم من الأحكام، كان السؤال مطلوبا من المسلمين عما خفى عليهم من هذا الحكم الذي جاء به، على أن يكون ذلك موقوفا به عند حدود الحكم، وفى بيان محتواه.
أما مجاوزة هذه الحدود فهى مما نهى عنه. وهى من التنطع والتكلف الذي لا يجرّ وراءه إلا الحسرة والندم، كهذا السؤال الذي سئله الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، وهو يدعو الناس إلى أداء فريضة الحج.. فقد كان أمر الرسول واضحا محددا، وكذلك ما نزل به القرآن في أمر الحج {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فالسؤال بعد هذا عن الحج، وهل هو كل عام، أو مرة واحدة- فيه تكلف لا مبرر له، ولا حاجة إليه.
وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْها} الضمير هنا يعود إلى تلك الأشياء التي كانت مباحة للمسلمين في أول الإسلام، ثم جاء الإسلام، في زمن متراخ فحرمها عليهم.. كالخمر، والربا، والزواج من زوجات الأبناء من الأصلاب وكثير غير هذا، مما حرمته الشريعة، من أمور كان يأتيها الجاهليون وجرى عليها المسلمون في أول الإسلام.
فهذه الأشياء قد عفا اللّه عنها، فلا يؤاخذهم عليها، وإن كانوا قد فعلوها وهم مسلمون، إذ لم يكن قد جاء حكم الشريعة فيها.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} إشارة إلى أنّ في مغفرته ما يسع هذه المنكرات التي أتاها المسلمون، وهم مسلمون، ووجدوا في أنفسهم حرجا منها، وضيقا بها، وإن كانوا لم يتلقوا حكم- اللّه فيها.
فهذه مغفرة اللّه تدفع عنهم هذا الحرج، وتذهب بما في صدورهم من ضيق.
وهذا حلم اللّه يأخذهم بالأناة واللطف، فيما يشرّع لهم من أحكام.. إنه- سبحانه- يقبلهم مسلمين بما كانوا عليه، وبما فعلوه مما لم ينههم عنه من قبل.
فليرفقوا بأنفسهم، ولا يعجلوا بالسؤال عن حلّ هذا الشيء أو حرمته، حتى يأتيهم أمر اللّه فيه.
وقوله تعالى: {قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ}.
الضمير في {سألها} يعود إلى تلك الأشياء التي لم تقل الشريعة قولا فيها، بحلّ أو حرمة.
والقوم هنا، هم بنو إسرائيل.
والمعنى أن بنى إسرائيل سألوا رسلهم عن كثير من أمور لم يأتهم الرسل بحكم اللّه فيها، فلما جاءهم الحكم فيما سألوا عنه، كفروا به، ولم يمتثلوا حكم اللّه فيه.
وما كان أغناهم عن أن يسكتوا.. ولكن القوم بما ركّب فيهم من لجاج وعناد وخلاف، لا يدعون لرسول من رسل اللّه فيهم، سبيلا، إلا أخذوه عليه، يسألون ويلحفون في السؤال، في كل صغير وكبير، وقريب وبعيد! ثم ما كان أولاهم إذا لم يسكتوا أن يتقبلوا جواب ما سألوه عنه، وأن ينزلوا على مقرراته، ويقفوا عند حدوده.. ولكنهم لم يسألوا ليهتدوا من ضلال، وليبصروا من عمى، ولكن كانت أسئلتهم مماراة، ومماحكة، وإعناتا!