فصل: تفسير الآيات (65- 71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (54):

{كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)}
هيَّأَ لهم أسبابَ المعيشة، وكما نَظَرَ إليهم وَرَزَقَهُم رَزَقَ دوابَّهم التي ينتفعون بها، وأَمَرَهُم أنْ يَتَقَووْا بما تَصِلُ إليه أيديهم، وأنْ ينتفِعُوا- ما أمكنهم- بأَنْعَامِهمِ لِيَكْمُلَ لديهم إنْعَامُهم.

.تفسير الآية رقم (55):

{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)}
إذ خَلَقْنا آدمَ من التراب وإذ أخْرَجْناكم من صُلبه.... فقد خَلْقْنَاكم من الترابِ أيضاً. والأجشادُ قوالِبُ والأرواحُ ودائعُ، والقوالب نسبتها التُّربة، والودائع صفتها القُرْبة، فالقوالب يزِّينها بأفضاله، والودائع يحييها بكشف جلاله ولطف جماله. وللقوالب اليوم اعتكافٌ على بِساط عبادته، وللودائع اتصافٌ بدوام معرفته.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)}
امره بجهره، وأعماه عن شهود ذلك بِسِره، فما نَجَعَ فيه كلامهُ، وما انتفعَ بما حذّره من انتقامه، ويَسَّرَ من إنعامه.

.تفسير الآيات (57- 58):

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)}
دعاهم موسى إلى الله، وخاطَبَهُم في حديث الآخرة من تبشيرٍ بثواب، وإنذارٍ بعذاب فلم يُجِيبُوا إلاَّ من حيث الدنيا، وما زادهم تذكيراً إلا ازدادوا غفلة وجهالة.
كذلك صفةُ مَنْ وَسَمه الحقُّ بالإبعاد، لم يكن له عرفان، ولا بما يقال إيمان، ولا يتأسَّفُ على ما يفوته، ولا تصديق له بحقيقة ما هو بصدده.
قوله: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نَخْلِفُهُ...} تأَهَّبُوا لِمُنَاصَبَةِ الحقيقة، وتَشَمَّرُوا للمُخَالَفة، فَقَصَمْتُهُم المشيئةُ؛ وكَبَسَتْهُم؛ القدرة، وما قيل:
استقبلني وسيفُه مسلول ** وقال لي واحدنا معذول.

.تفسير الآية رقم (59):

{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)}
فكان في ذلك اليوم افتضاحهم.

.تفسير الآيات (60- 64):

{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)}
قوله جلّ ذكره: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتَى}.
كادَ فرعونَ فَكِيد لَه، وأراد فارتدَّ إليه، ودعا للاستعداد فأُذِلَّ وأَذِيقَ البأسَ. ولم يَدَعْ موسى شيئاً من الوعظ والرِّفْقِ، ولم يغادِرْ فرعونَ شيئاً من البَلَهِ والحُمْقِ ولكن: {قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كّذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَد خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُم وَأسَرُّوا النَّجْوَى}.
اعلموا أنه لا طاقةَ لأحدٍ مع الله- سبحانه- إذا عذَّبَه، فحملوا مقالته على الإفك، ورَمَوْا معجزته بالسجر فقالوا: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}.
هما في دعواهما كاذبان يَقْصِدان إلى إخراجِكم من بَلَدِكم، والتشويشِ عليكم في مُعْتَقَدِكم.

.تفسير الآيات (65- 71):

{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)}
قوله جلّ ذكره: {قَالُوا يَامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}.
أظهروا من أنفسهم التجلَّدَ ظنَّا بأَنَّ النصرةَ لهم، وإخلاداً إلى ما كان السَّحَرَةُ يُسوِّلون لهم، فَخَيَّروا موسى في الابتداء بناءً على ما توهموا من الإلقاء، فقال لهم موسى: {قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهْم أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى وَأَلْقِ مَا في يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ ءَامَنتُمْ لًهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السّْحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيِْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُم في جُذُوعِ النَّخْل وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عّذَاباً وَأَبْقَى}.
قال لهم موسى بل ألقوا أنتم، وليس ذلك إذْناً لهم في السحر، ولكن أراد الحقُّ إظهارَ تمويههم، فلمَّا خَيَّلوا للناس بإلقاءِ الحِبال أنها حياتٌ ابتَلَعَتْ عصا موسى جُمْلَةَ أوقار الحِبَال، وصار الثعبانُ عَصَاً كما كان، فسجدوا لله مؤمنين، وانقلب فرعونُ وقومُه خائِبين، وتَوَعَّدَهم بالقتل والصَّلْب، وفنونٍ من العذابِ الصعب، وبعدما كانوا يقْسِمُون بِعِزَّةِ فرعونَ صاروا يَحْلِفُونَ بالله.

.تفسير الآية رقم (72):

{قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)}
أي بالله الذي فطرنا إنَّا لن نُؤْثِرَكَ على ما جاءَنا من البينات. ولما طلعت في أسرارهم شموسُ العرفان، وانبسطت عليهم أنوار العناية أبصروا الحقَّ سبحانه بأسرارهم، فنطقوا ببيان التصديق، وسجدوا بقلوبهم لمشهودهم، ولم يحتشموا مما توعدهم به من العقوبة، ورأوا ذلك من الله فاستعذبوا البلاء، وتحملوا اللأواء، فكانوا في الغَدَاةِ كُفَّاراً سَحَرَةً، وأَمْسَوْا أَخياراً بَرَرَةَ.
قوله: {فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ...} عَلِمُوا أَنَّ البَلاَءَ في لدنيا يَنْقَضي- وإنْ تمادى، وينتهي وإن تناهى.

.تفسير الآية رقم (73):

{إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)}
أَهمُّ الأشياء- على مَنْ عرَفه- مغفرتُه لخطاياه؛ فهذا آدمُ- عليه السلام- لما استكشف من حاله، وحلَّ به ما حلَّ قال: {رَبِّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} [القصص: 16] وقال لنبينا- صلى الله عليه وسلم- {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [غافر: 55]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» ومَنَّ عليه بقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 200].

.تفسير الآيات (77- 79):

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)}
لما عَبَرَ موسى ببني إسرائيل البحر، وقرب منه فرعون، ورأى البحرَ منفلقاً والطريقَ فيه يَبَساً عَيَّرَ قَوْمَه بتلبيسه فقال: إنه بحشمتي انفلق، فأنا ربُّكم الأعلى! وحصل- كما في القصة- من دخوله بعَسْكَرِه البحرَ حتى دخل آخرهم، وهمَّ أن يخرج أَوَّلُهم، فأمر اللَّهُ البحرَ حتى التطمت أمواجه فغرقوا بجملتهم، وآمن فرعون لما ظهر له اليأسُ، ولم ينفعه إقراره، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير.

.تفسير الآية رقم (80):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)}
يُذَكِّرُهم آلاءَه، ويعدُّ عليهم نعماءَه، ويأمرهم بالتزام الطاعة والقيام بالشكر لِمَا أسبغ عليهم من فنون النِّعم، ثم يذكرهم ما مَنَّ به على أسلافهم من إنزال المنَّ والسلوى، وضروب المِحَنِ وفنون البلوى.

.تفسير الآية رقم (81):

{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)}
قوله جلّ ذكره: {كُلُوا مِن طَيِبَّاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوا فِيهِ} الطيبُ ما كان حلالاً. ويقال الطيب من الرزق ما لا يَعْصِي اللَّهَ مُكْتَسِبهُ. ويقال الطيب من الرزق ما يكون على مشاهدة الرزاق. ويقال الطيب من الرزق ما حَصَل منه الشكرُ. ويقال الطيب من الرزق ما يأخذه العبدُ من اللَّهِ، فما لأهل الجنةِ مُؤَجَّلٌ في عقباهم جهراً، معجّلٌ لأصفيائه في دنياهم سِرّاً، قال تعالى: {ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات: 16].
والأرزاقُ مختلفةٌ؛ فلأقوام حظوظُ النفوس ولآخرين حقوقُ القلوب، ولأقوام شهودُ الأسرار؛ فرزق النفوس التوفيق، ورزق القلوب التصديق، ورزق الأرواح التحقيق.
قوله: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بمجاوزة الحلالِ إلى الحرام.
ويقال: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بالزيادة على الكفاف وما لابد منه مما زاد على سدِّ الرمق.
ويقال: {وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ}: بالأكل على الغفلة والنسيان.
قوله جلّ ذكره: {فَيَحِلَّ عَلْيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى}.
فيحل عليكم غضبي بالخذلان لمتابعة الزَّلَّة بعد الزَّلَّة.
ويقال فيحل عليكم غضي لِفَقْدِكم التأسُّفَ على ما فاتكم.
ويقال بالرضا بما أنتم فيه من نقصان الحال.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)}
الغفَّار كثيرُ المغفرة؛ فَمِنْك التوبةُ عن زَلَّةٍ واحدةٍ ومنه المغفرة لذنوب كثيرةٍ، ومنه السِّرِّيةُ التي لا اطلاع لأحدٍ غيره عليها وما للملائكة عليها اطلاع. وهو يغفر لِمَنْ عَمِلَ مثل عَمَلِكَ، وهو يغفر لِمنْ قَلْبُكَ مُرِيدٌ له بالخير والنعمة، وكما قالوا:
إني- على جَفَواتها- فبِرَبِّها ** وبكل مُتَّصِلٍ بها متوسِّلُ

وأُحِبُّها وأُحِبَّ منزلَها الذي ** نَزَلَتْ به وأُحِبُّ أهلَ المنزلِ

قوله: {وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَءَامَنَ}: فلا تَصِحُّ التوبةُ إلا لمن يكون مؤمناً.
وقوله هنا: {وَءَامَنَ}: أي آمن في المآلِ كما هو مؤمِنٌ في الحال.
ويقال آمن بأنه ليست نجاته بتوبته وبإيمانه وطاعته، إنما نجاتُه برحمته.
ويقال: {وَإنِّى لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ}: مِنَ الزَّلَّة {وَءَامَنَ}: فلم يَرَ أعماله من نَفْسه، وآمن بأن جميع الحوادثِ من الحقِّ- سبحانه- {وَعَمِلَ صَالِحاً}: فلم يُخِلْ بالفرائض ثم اهتدى للسُّنَّةِ والجماعة.
ويقال: {ثُمَّ}: للتراخي؛ أي آمن في الحال ثم اهتدى في المآل.
ويقال مَنْ سَمِعَ منه {وَإِنّىِ} لا يقول بعد ذلك: إِنِّي.
ويقال من شَغَلِه سماعُ قوله: {وإِنِّى} اسْتُهْلِكَ في استيلاءِ ما غَلَبَ عليه من ضياء القربة، فإذا جاءت {لَغَفَّارٌ} صار فيه بعين المحو، ولم يتعلق بذنوب أصحابه وأقاربه وكل من يعتني بشأنه.
ويقال: {إني لغفار} كثير المغفرة لمن تاب مرةً؛ فيغفر له أنواعاً من ذنوبه التي لم يَتُبْ منه سِرَّها وجَهْرِها، صغيرها وكبيرِها، وما يتذكر منها وما لا يتذكر. ولا ينبغي أَنْ يقولَ: علمت عملاً صالحاً: بل يلاحظُ عَمَلَه بعينِ الاستصغارِ، وحالته بغير الاستقرار.
وقوله: {ثُمَّ اهْتَدَى}: أي اهتدى إلينا بنا.

.تفسير الآية رقم (83):

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)}
أخَرْجَهُمْ مع نَفْسِه لمَّا استصحبهم، ثم تقدَّمَهم بخطواطِ فتأخروا عنه، فقيل له في ذلك مراعاةٌ لحقِّ صحبتهم.
ويقال قومٌ يُعاتَبون لتأخرهم وآخرون لتقدمهم , فشتان ما هما!

.تفسير الآية رقم (84):

{قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)}
أي عَجِلْتُ إليكَ شوقاً إليك، فاستخرج منه هذا الخطاب، ولولا أنه استنطقه لما أخبر به وموسى.
قوله: {هُمْ أُوْلآءِ عَلَى أَثَرِى} أي ما خَلَّفْتُهم لتضييعي أيامي، ولكني عَجِلْتُ إليك لترضى. يا موسى إنَّ رضائي في أن تكون مَعهم وأَلاَّ تَسْبِقَهم، فكونُكَ مع الضعفاءِ الذين استصحبتَهم- في معاني حصول رضائي- أبلغَ مِنْ تَقَدُّمِكَ عليهم.

.تفسير الآية رقم (85):

{قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)}
قوله جلّ ذكره: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ}.
فَتَّنا قومَك فَضَلُّوا وعبدوا العِجْلَ؛ فأخبر الحقُّ- سبحانه- أنَّ ذلك منه تقدير، وفي هذا تكذيبٌ لُمَنْ جَحَدَ القولَ بالقَدَرِ.
ويقال طَلَبَ موسى- عليه السلام- رِضَاءَ الحق، وقدَّر الحقُّ- سبحانه- فتنةَ قَوْمِه فقال: {إنا قد فتنا قومك من بعدك}، ثم الحُكْمُ لله، ولم يكن بُدٌّ لموسى عليه السلام من الرضاء بقضاء الله- فلا اعتراضَ على الله- ومِنَ العلم بِحقِّ اللَّهِ في أنْ يفعلَ ما يشاء، وأنشدوا:
أُريد وَصَالَه ويريد هجري ** فأتركُ ما أُؤيد لما يُريد

قوله جلّ ذكره: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ}.
بدعائه إياهم إلى عبادة العجل، وهو نوع من التعزير، وحصل ما حصل، وظهر ما ظهر من (...).