فصل: تفسير الآية رقم (103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (103):

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}
تطهرهم مِنْ طَلَبِ الأَعواض عليها، وتزكيهم عن ملاحظتهم إياها.
تطهرهم بها عن شُحِّ نفوسهم، وتزكيهم بها بألا يتكاثروا بأموالهم؛ فَيَرَوْا عظيم مِنَّةِ الله عليهم بوجدان التجرُّد منها.
{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ}: إنْ تُعاشِرْهم بِهِمَّتِكَ معهم أثْمنُ لهم من استقلالهم بأموالهم.

.تفسير الآية رقم (104):

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
تمدَّحَ- سبحانه- بقبول توبة العاصين إذ بها يُظْهِرُ كَرَمَه، كما تمدَّح بجلال عِزِّه ونَبَّههم على أَنْ يَعرِفوا به جَلاله وقِدَمَه.
وكما تَوحَّدَ باستحقاق كبريائه وعظمته تَفَرَّدَ بقبول توبة العبد عن جُرْمِه وزَلَّتِه. فكما لا شبيهَ له في جماله وجلاله لا شريكَ له في أفضاله وإقباله؛ يأخذ الصدقاتِ- قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، فَقَدْرُ الصَّدَقَةِ وخَطرُها بِأَخْذِه لها لا بكثرتها وقِلَّتها؛ قَلَّتْ في الصورة صَدَقَتَهُم ولكِنْ لمَّا أَخَذَها وقِبِلها جَلَّتْ بقبوله لها، كما قيل:
يكون أُجاجاً دونكم فإِذا انتهى ** إليكم تَلَقى طيبَكم فيطيبُ

.تفسير الآية رقم (105):

{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
خوَّفَهم برؤيته- سبحانه- لأعمالهم، فلمَّا عَلِمَ أَنَّ فيهم مَنْ تتقاصر حالتُه عن الاحتشام لاطِّلاع الحقِّ قال: {وَرَسُولِهِ}، ثم قال لِمَنْ نَزَلَتْ رتبتُه: {وَالمُؤْمِنُونَ}. وقد خَسِرَ مَنْ لا يمنعه الحياءُ، ولا يردعه الاحتشامُ، وسَقَطَ من عينِ اللهِ مَنْ هَتَكَ جلبابَ الحياءِ، كما قيل:
إذا قَلَّ ماءُ الوَجْهِ قَلَّ حياؤه ** ولا خيرَ في وجهٍ إذا قَلَّ ماؤه

ومَنْ لم يَمْنَعْه الحياءُ عن تعاطي المكروهاتِ في العاجل سيلقى غِبَّ ذلك، وخسرانُه عن قريبٍ في الآجل.

.تفسير الآية رقم (106):

{وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
لم يُصَرِّحْ بقبول توبتهم، ولم يَسِمْهُم باليأسِ من غفرانه، فوقفوا على قَدَم الخَجلِ، متميلين بين الرهبة والرغبة، متردِّدِين بين الخوف والرجاءَ. أخبر اللهُ- سبحانه- أنَّه إنْ عَذَّبَهم فلا اعتراضَ يتوجّه عليه، وإنْ رَحِمَهم فلا سبيلَ لأحدٍ إليه، قال بعضهم:
ويشبعني من الأمال وعدٌ ** ومن علمي بتقصيري وعيد

.تفسير الآية رقم (107):

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون}.
مَنْ لم يكن مخلصاً في ولائه لم يأنس القلبُ بكدِّه وعنائه، فَتَوَدُّدُه في الظاهر ينادي عليه بالتوائه، وبقوله بالتكلُّفِ شهادةُ صِدْقٍ على عَدَمِ صَفَائه:
مَنْ لم يكنْ للوصال أهلاً ** فكلُّ إحسانِه ذنوبُ

.تفسير الآية رقم (108):

{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
المقام في أماكن العصيان، والتعريج في أوطان أهل الجحود والطغيان- من علامات الممالأة مع أربابها، وسُكَّانِها وقُطَّانِها.
والتباعدُ عن مَسَاكِنِهم، وهجرانُ مَنْ جَنَحَ إلى مَسالِكهم عَلَمٌ لِمَنْ أشرب قلبه مخالفتهم، وباشرت سِرَّه عداوتُهم.
{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا}: يتطهرون عن المعاصي وهذه سِمَة العابدين، ويتطهرون عن الشهوات والأماني وتلك صفة الزاهدين، ويتطهرون عن محبة المخلوقين، ثم عن شهود أنفسهم بما يتصفون وتلك صفة العارفين.
قوله: {وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ}: أسرارَهم عن المساكنةِ إلى كل مخلوق، أو ملاحظةِ كل مُحْدَثٍ مسبوق.

.تفسير الآية رقم (109):

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}
المريدُ يجب أن يؤسِّسَ بنيانَه على يقينٍ صادقٍ فيما يعتقده، ثم على خلوص في العزيمة ألا ينصرِفَ قبل الوصولِ عن الطريق الذي يسلكه، ثم على انسلاخه عن جميع مُناه وشهواتِه، ومآرِبه ومطالبِه، ثم يبني أَمْرَه على دوام ذِكْرِه بحيث لا يعترِضُه نِسيان، ثم على ملازمة حق المسلمين وتقديم مصالحهم بالإيثار على نفسه. والذي ضَيَّع الأصولَ في ابتدائه حُرِمَ الوصول في انتهائه، والذي يَحْكِمُ الأساسَ في بنائِه سَقَطَ السَّقْفُ على جدرانه.

.تفسير الآية رقم (110):

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
عروقُ النِّفاقِ لا تُقْتَلَعُ من عَرَصَاتِ اليقين إلا بِمِنْجَل التَّحَقُّقِ بصحيح البرهان؛ فَمَنْ أُيِّدَ لإدامة المسير، وَوفِّقَ لتأمل البرهان وَصَلَ إِلى ثَلَجِ الصدور ورَوْحِ العرفان.
ومَنْ أقام على مُعْتَادِ التقليد لم يسترِحْ قلبُه من كَدِّ التردُّدِ، وظلمةِ التجويز، وَجَوَلاَنِ الخواطر المشكلة في القلب.

.تفسير الآية رقم (111):

{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
لمّا كان من المؤمنين تسليمُ أَنفسهم وأموالهم لحُكْمِ الله، وكان من الله الجزاءُ والثوابُ؛ أي هناك عِوَضٌ ومُعَوض، فَلِمَا بَين ذلك وبين التجارة من مشابهة أطلق لفظَ الاشتراءِ، وقد قال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ...} [الصف: 10]، وقال: {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16].
وفي الحقيقة لا يصحُّ في وصف الحق- سبحانه- الاشتراء لأنه مَالِكُ سِوَاه، وهو مالِكُ الأعيانِ كلِّها. كما أَنَّ مَنْ لم يستَحْدِثْ مِلْكاً لا يُقَال إنه- في الحقيقة- باع.
وللمقال في هذه الآية مجال، فيقال: البائعُ لا يستحقُّ الثمنَ إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبدُ الجزاءَ الموعودَ إلا بعد تسليمِ النَّفسِ والمالِ على موجب أوامر الشرع، فَمَنْ قَعَدَ أو فَرَّطَ فغيرُ مستحقٍ للجزاء.
ويقال لا يجوز في الشرع أن يبيع الشخصُ ويشتري شيئاً واحداً فيكونَ بائعاً ومشترياً إلا إذا كان أباً وجَدَّاً! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة؛ فالحقُّ بإذنه كانت رَحْمَتُه بالعبد أتمَّ، ونظرُه له أبلغَ، وكان للمؤمِن فيه من الغبطة، ما لا يخفى، فصحَّ ذلك وإن كان حُكمه لا يقاس على حكم غيره.
ويقال إنما قال: {اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} ولم يقل قلوبهم لأنَّ النَّفْسَ محلُّ الآفات فجعل الجنة في مقابلتها، وجعل ثَمَنَ القلبِ أَجَلَّ من الجنة، وهو ما يخصُّ به أولياءه في الجنة مِنْ عزيزِ رؤيته.
ويقال النَّفْسُ محلُّ العيب، والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره.
ويقال مَنْ اشترى شيئاً لينتفع به اشترى خيرَ ما يجده، ومن اشترى شيئاً لِيَنْتَفِعَ به غيرهُ يشتري ما رُدَّ على صاحبه لِيَنْفَعَه بثمنه.
وفي بعض الكتب المنزلة على بعض الأنبياء- عليهم السلام-: يا بني آدم، ما خلقتُكم لأربحَ عليكم ولكن خَلَقْتُكم لتربحوا عليَّ.
ويقال اشترى منهم نفوسَهم فرهبوا على قلوبهم شكراً له حيث اشترى نفوسَهم، وأمَّا القلبُ فاستأثره قهراً، والقهر في سُنَّةِ الأحبابِ أعزُّ من الفضل، وفي معناه أنشدوا:
بُنِيَ الحبُّ على القَهْرِ فلو ** عَدَلَ المحبوبُ يوماً لَسَمُج

ليس يُسْتَحْسَنُ في حكم الهوى ** عاشِقٌ يَطْلُبُ تأليفَ الحُجَج

وكان الشيخ أبو علي الدقاق رحمه الله يقول: لم يقل اشترى قلوبَهم لأن القلوبَ وَقْفٌ على محبته، والوقفُ لا يُشترى.
ويقال الطيرُ في الهواء، والسَّمَكُ في الماءِ لا يصحُّ شراؤهما لأنه غير ممكن تسليمهما، كذلك القلبُ.. صاحبُه لا يمكنه تسليمه، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].
وفي التوراة: الجنَّةُ جنتي والمالُ مالي فاشتروا جنتي بمالي فإنْ ربحتم فلكم وإِنْ خَسِرْتُمْ فعليَّ.
ويقال عَلِمَ سوءَ خُلقِك فاشتراك قبل أَنْ أوجدك، وغَالِي بثمنك لئلا يكونَ لَكَ حقُّ الاعتراض عند بلوغك.
ويقال ليس للمؤمن أن يتعصَّبَ لنفسه بحالٍ لأنها ليست له، والذي اشتراها أَوْلى بها من صاحبها الذي هو أجنبيٌّ عنها.
ويقال أخبر أنه اشتراها لئلا يَدَّعِيَ العبدُ فيها؛ فلا يساكنها ولا يلاحظها ولا يُعْجَبُ بها.
قوله: {فَيَفْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} سيّان عندهم أن يَقْتُلُوا أو يُقْتَلُوا، قال قائلهم:
وإنَّ دَمَاً أجريتَه لك شاكرٌ ** وإِنَّ فؤاداً خِرْتَه لكَ حامدُ

ويقال قال: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ} ولم يقل بثمن مبيعكم لأنه لم يكن مِنَّا بَيْعٌ، وإنما أخبر عن نفسه بقوله: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ} فجعل بَيْعَه بَيْعَنا، وهذا مثلما قال في صفة نبيه- صلى الله عليه وسلم- {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وهذا عين الجَمْع الذي أشار إليه القوم.

.تفسير الآية رقم (112):

{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}
قوله جلّ ذكره: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ}.
مَدَحَهُم بعد ما أوقع عليهم سِمَةَ الاشتراء بقوله: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ...} ومَنْ رَضِيَ بما اشتراه فإنَّ له حقَّ الردِّ إذا لم يَعْلَمْ العيبَ وقتَ الشِّراء، فأَمَّا إذا كان عالماً به فليس له حقُّ الردِّ؛ قال تعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ} [الدخان: 32].
ويقال مَنْ اشترى شيئاً فَوَجَدَ به عيْباً ردَّه على مَنْ منه اشتراه ولكنه- سبحانه- اشترى نفوسَنا منه، فإذا أراد الردَّ فلا يردُّ إلا على نَفْسِه؛ قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ} وكما أنَّ الردَّ إليه فلو ردَّنا كان الردُّ عليه.
قوله تعالى: {التَّائِبُونَ} أي الراجعون إلى الله، فَمِنْ راجعٍ يرجع عن زلَّتِه إلى طاعته، ومِنْ راجع، يرجع عن متابعة هواه إلى موافقة رضاه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن شهود نفسه إلى شهود لطفه، ومِنْ راجعٍ يرجع عن الإحساس بنفسه وأبناء جِنْسِه إلى الاستغراق في حقائق حقِّه.
ويقال تَائِبٌ يرجع عن أفعاله إلى تبديل أحواله؛ فيجد غداً فنونَ أفضاله، وصنوفَ لطفه ونواله، وتائبٌ يرجع عن كل غيرٍ وضدٍ إلى ربِّه بربِّه لربِّه بِمَحْوِ كلِّ أَرَبٍ، وعَدَمِ الإحسان بكلِّ طلب.
وتائب يرجع لحظِّ نَفْسِه من جزيل ثوابه أو حَذَراً- على نفسه- من أليم عذابه، وتائب يرجع لأمره برجوعه وإيابه، وتائب يرجع طلباً لفرح نفسه حين ينجو مِنْ أوضاره، ويخلص من شؤم أوزاره، وتائب يرجع لَمَّا سمع أنه قال: إنَّ اللهَ أَفْرَحُ بتوبةِ عَبْدِه من الأعرابي الذي وَجَدَ ضَالَّتَه- كما في الخبر، «وشتَّان ما هما»! وأنشدوا:
أيا قادماً من سَفْرَة الهَجْر مَرْحَبَا ** أُنَادِيكَ لا أنساكَ ما هبَّتْ الصَّبَا

وأمَّا قوله: {العَابِدُونَ}: فهم الخاضعون بكلِّ وجه، الذين لا تَسْتَرِقُّهم كرائمُ الدنيا، ولا تستعبدهم عظائمُ العُقْبَى. ولا يكون العبدُ عبداً لله- على الحقيقة- إلا بعد تجرُّدِه عن كل شيءٍ حادثٍ. وكلُّ أحدٍ فهو له عَبْدٌ من حيث الخِلْقة؛ قال تعالى: {إن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ ءاتِى الرَّحْمَنَ عَبْدًا} [مريم: 93]. ولكنَّ صاحبَ العبودية خاصٌّ.
قوله جلّ ذكره: {الحَامِدُونَ}.
هم الشاكرون له على وجود أفضاله، المُثْنُونَ عليه عند شهود جلاله وجماله.
ويقال: الحامدون بلا اعتراضٍ على ما يحصل بقدرته، وبلا انقباضٍ عما يجب من طاعته.
ويقال الحامدون له على منعه وبلائه كما يحمدونه على نفعه وعطائه.
ويقال الحامدون إذا اشتكى مَنْ لا فُتُوَّة له المادحون إذا بكى مَنْ لا مروءةَ له.
ويقال الشاكرون له إنْ أدناهم، الحامدون له إن أقصاهم.
قوله جلّ ذكره: {السَّائِحُونَ}.
الصائمون ولكن عن شهود غير الله، الممتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله.
ويقال السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الاعتبار طلباً للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها بالتفكُّر في جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيُّرها على مُنْشِئِها، والتحقق بحكمةِ خالِقها بما يَرَوْنَ من الآيات فيها، ويسيحون بأسرارهم في الملكوتِ فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ بالتحقق بشهود الحق.
قوله جلّ ذكره: {الرَّاكِعُونَ}.
الخاضعون لله في جميع الأحوال بخمودهم تحت سلطان التجلِّي، وفي الخبر. «إن الله ما تجلَّى لشيءٍ إلا خَشَع له».
وكما يكون- في الظاهر- راكعاً يكون في الباطن خاشعاً، ففي الظاهر بإحسان الحقِّ إليه يُحْسنِ تولِّيه، وفي الباطن كالعيان للعيان للحقِّ بأنوار تجلِّيه.
قوله جلّ ذكره: {السَّاجِدُونَ}.
في الظاهر بنفوسهم على بِساط العبودية، وفي الباطن بقلوبهم عند شهود الربوبية. والسجود على أقسام: سجود عند صحة القصود فيسجد بنعت التذلل على بساط الافتقار، ولا يرفع رأسه عن السجود إلا عند تباشير الوصال. وسجودٌ عند الشهود إذا تجلَّى الحقُّ لقلبه سَجِدَ بقلبه، فلم ينظر بعده إلى غيره، وسجودٌ في حال الوجود وذلك بخموده عن كليته، وفنائه عن الإحساس بجميع أوصافه وجملته.
قوله جلّ ذكره: {الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}.
هم الذين يَدْعُون الخَلْقَ إلى الله، ويُحَذرونهم عن غير الله. يتواصَوْن بالإقبال على الله وتَرْكِ الاشتغال بغير الله. يأمرون أنفسَهم بالتزام الطاعات بِحَمْلِهم إياها على سَنَن الاستقامة، ويَنْهَوْن أنفسَهم عن اتِّباع المنى والشهوات بِتَرْكِ التعريج في أوطان الغفلة، وما تعودوه من المساكنة والاستنامة.
والحافظون لحدود الله، هم الواقفون حيث وقفهم الله، الذين لا يتحركون إلا إذا حَرَّكَهم ولا يَسْكنُون إلا إذا سكنهم، ويحفظون مع الله أنْفَاسَهُمْ.