فصل: تفسير الآية رقم (112):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (86):

{فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)}
قوله جلّ ذكره: {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً}.
ورجع نبيُّنا- صلى الله عليه وسلم- من المعراج بنعت البسط، وجاء بالنجوى لأصحابه فيما أوجب الله عليهم من الصلاة، وأكرمهم به من القربة بالزلفة.. فشتان ما هما!
ورجع موسى إلى قومه بوصف الغضب والأسف، وخاطبهم ببيان العتاب: {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَم يَعِدْكُمْ رَبُّكُم وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِن رَّبِّكُمْ فَأخْلَفْتُمُ موْعِدِى}.
ظنوا بنبيِّهم ظنَّ السَّوْءِ في خلقه الوعد فَلَحِقَهُمْ شؤمُ ذلك حتى زاغوا عن العهد، وأشركوا في العقد وكذلك يكون الأمر إذا لم يفِ المرء بعقده، فإنه ينخرط في هذا السِّلْكِ.

.تفسير الآية رقم (87):

{قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)}
قالوا لم نكن في ابتداءِ حالِنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا، ولا عالمين بما آلتْ إليه عاقبةُ حالِنَا، وإن الذي حملنا من حُلِيِّ القبط صاغَ السامريُّ منه العجلَ وكذلك الحرامُ من حطام الدنيا لا يخلو من شؤم أثره. فلقد كانت الغنيمة وأموال المشركين حراماً عليهم، فاستعاروا الحليَّ من القبط، وآل إليهم ما كان في أيديهم من الملْكِ، فكان سبب عبادتهم العِجْل كذلك مَنْ انهمك في طلب الدنيا من غير وجهِ حلالٍ يكون على خَطَرٍ من رِقَّةِ دينهِ، قال تعالى: {أفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].

.تفسير الآيات (88- 89):

{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)}
يقال إنهم لمَّا مَرُّوا على قوم يعبدون أصناماً لهم قالوا لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وكان ذلك الصنم على صورة العجل فكان مَيْلُهم إلى عبادته مُسْتَكِنَّاً في قلوبهم، فصاغ السامريُّ العجل على تلك الصورة. وفي هذه إشارة إلى أن خفايا الهوى إذا استكنَّت في القلب فَمَا لم يُنْقَش ذلك الشرك بمنقاش المنازلة يُخْشَى أن يَلْقَى صاحبه (...).
ويقال إن موسى- عليه السلام- خرج من بين أمته أربعين يوماً برَضِيَ قومهُ بعبادة العجل، ونبيُّنا- عليه السلام- خرج من بين أمته وأتت سنون كثيرة ولو ذَكَرَ واحدٌ عند مَنْ أخلص مِنْ أمته في التوحيدِ حديثاً في التشبيه لعدوا ذلك منه كبيرةً ليس له منها مَخْلَصٌ.
كذلك فإنهم استحفظوا كتابهم فبدَّلوه تبديلاً، بينما ضَمَنَ الحقُّ- سبحانه- إعزازَ هذا الكتاب بقوله: {إِنًّا نَحْنُ نَزًّلْنَا الذِّكْرَ وأِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28].
قوله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ ألاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً...} بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لا قول له لا يتكلم، ومن لا يملك الضر والنفع لا يستحق العبادة، وفيه رَدٌ على مَنْ لم يُثْبِتْ له في الأزَل القول، ولم يَصِفْه بالقدرة على الخير والشر:

.تفسير الآية رقم (90):

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)}
إنهم لم يحفظوا أمر موسى وهو فوق هارون، والإشارة في هذا أن من لم يحفظ أمر مَنْ هو أعلى رتبةً يحفظ كيف أمر من هو أدنى منزلةً؟ فَمَنْ تَرَكَ أَمْرَاً الحقِّ.... كيف يُطْمَعُ فيه أن يحترم الشيوخَ وأكلَ الناس؟ لهذا قيل: لا حُرْمَةَ لفاسق؛ لأنه إذا تَرَكَ حقَّ الحقَّ فمتى يحفظ حَقَّ الخَلْقِ؟

.تفسير الآية رقم (91):

{قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)}
كان ذلك تَعَلُّلاً منهم بالباطل، فقالوا إنهم كانوا عازمين على تَرْكِ عبادة العجل؟ إذ به يتحققون أن موسى عليه السلام دعاهم إلى التوحيدِ وتَرْكِ عبادةِ غير اللَّهِ.... ولكنْ كلُّ مُتَعلِّلٍ يَسْتَنِدُ إلى ما يحتج به من الباطل.

.تفسير الآيات (92- 93):

{قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)}
ضاق قلبُ موسى- عليه السلام- لمَّا شاهد من قومه بالمعاينة عبادة العجل. ولقد كان سمع من الله أَنَّ السامريّ أظلَّهم حين قال: {إنَّا قد فتنا قومك} [طه: 85]، ولكن قديماً قيل: ليس الخبر كالعيان، فلمَّا عايَنَ ذلك ضاق قلبهُ، فكان يقول لأخيه ذلك فظهر منه ما ظهر، وقيل: مَنْ ضاق قلبُه استع لسانُه. ولما ظهر لموسى- عليه السلام- ما ظهر أخذ هارون يقابله بالرفق واللطف وحسن المدارة.. وكذلك الواجب في الصحبة لئلا يرتقي الأمرُ إلى الوحشة، فاستلطفه في الخطاب واستعطفه بقوله:

.تفسير الآية رقم (94):

{قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)}
أنت أمَرْتَنِي أَلاَّ أُفارِقَهم. وقد يُقال إن هارون لو قال لموسى: في الوقتِ الذي احتَجْتَ أنْ تَمْضِيَ إلى فرعون قلتَ: {وَأَخِى هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً} [القصص: 34]، وقلت: {فَأَرْسِلْهُ مَعِى} [القصص: 34]، وقلت حين مضيتَ إلى سماع كلام الحق: {أخْلُفْنِى في قَوْمِى...} [الأعراف: 142] فما اكتفيت بأَنْ لم تستصحبني. وخَلَّفْتَنِي! وقد عَلِمْتَ أَني بريءُ الساحةِ مما فعلوا فأخذتَ بلحيتي وبرأسي.... ألم ترضَ بما أنا فيه حتى تزيدني حَرْياً على حَرْي؟!..... لو قال ذلك لكان مَوْضِعَه، ولكنْ لِحلْمِه، ولِعِلْمِه- بأنَّ ذلك كُلَّه حُكْمُ ربِّهم- فقد قابَلَ كلَّ شيءٍ بالرضا.

.تفسير الآية رقم (95):

{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)}
سأل موسى كلَّ واحدٍ منهم بنوعٍ آخر، وإن معاتبته مع قومه، ومطالبته لأخيه، وتَغَيُّرَه في نَفْسِه، واستيلاَءَ الغضب عليه- لم يغيِّرْ التقدير، ولم يُؤَخِّرْ المحكوم.

.تفسير الآية رقم (96):

{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)}
عَلِمْتُ ما لم يعلمه بنو إسرائيل فرأيتُ جبريلَ، فَقَبضْتُ الترابَ من موضع حافرِ دابته، وأُلقِي في رَوْعي أن ذلك سببُ حياةِ العجل فطرحتُها في جوفه.... هكذا زَيَّنَتْ لي نفسي فاتَّبَعْتُ هواها.
ثم كان هلاكُه.... لئلا يأْمَنَ أحدٌ خفي مَكْرِ التقدير، ولا يركنَ إلى ما في الصورة من رِفْقٍ فَلَعَلَّه- في الحقيقة- يكون مكراً، ولقد أنشدوا:
فأَمِنتُه فأَتَاحَ لي من مَأْمَنِي.... مَكْراً، كذا مَنْ يَأْمَنُ الأحبابا

.تفسير الآية رقم (97):

{قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)}
قوله جلّ ذكره: {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ في الحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ}.
لم يَخْفَ على موسى- عليه السلام- تأثيرُ التقدير وانفرادُ الحقِّ بالإبداع، فلقد قال في خطابه مع الحق: {إِنْ هي إِلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155]، ولكنه لم يدع- مع ذلك- بإحلال العقوبةِ بالسامري والأمر في بابه بما يستوجبه؛ ليُعْلَمَ أن الحُكمَ في الإبداع والإيجاد- وإنْ كان لله- فالمعاتبةُ والمطالبة تتوجهان على الخَلْقِ في مقتضى التكليف، وإجراءُ الحقِّ ما يُجْرِيه ليس حُجَّةً للعبد ولا عُذْراً له.
قوله جلّ ذكره: {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَ لَنَنَسِفَنَّهُ في اليَمِ نَسْفاً}.
كلُّ ما تَعَلَّقَ به القلبُ من دون الله يَنْسِفُه الحقُّ- سبحانه بمُجِبِّه ولهذا يُلْقي الأصنامَ غداً في النار مع الكفار، وليس له جُرْمٌ، ولا عليهم تكليف، ولا لها عِلْمٌ ولا خبر.... وإنما هي جماداتٌ.

.تفسير الآية رقم (98):

{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)}
أي إلهكم الذي تجب عليكم عبادتُه بحقِّ أمره هو اللًّهُ الذي لا إله إلا هو، وهو بوصف الجلال، والذي لا يخفى عليه شيءٌ من المعلومات هو الله، وليس مِثْلَ الذي هو جماد لا يَعْلَمْ ولا يَقْدِرُ، ولا يحيا ولا يسمع ولا يبصر. ويمكنه أن يَسْحَقَ هذه الجماد ويحرقه.

.تفسير الآية رقم (99):

{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)}
نعرِّفك أحوالَ الأولين والآخرين لئلا يَلْتَبِسَ عليكَ شيءٌ من طُرُقِهم؛ فتتأدبَ بآدابهم وتجتمعَ فيك مُتَفَرِّقَات مناقِبهم.. ولكن اعلمْ أَنَّا لم نُبلِغْ أحداً مَبْلَغَكَ، ولم يكن لأحدٍ منَّا مالَكَ؛ آتيناك من عندنا شَرَفاً وفخراً لم يشركك فيهما أحدٌ، وذكَّرناك ما سَلَفَ لَكَ من العهد معنا، وجَدَّدْنا لك بينهم تخصيصنا إياك، وكريمَ إقبالِنا عليك.

.تفسير الآيات (100- 101):

{مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)}
قوله جلّ ذكره: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيَامَةِ وِزْراً}.
المُعْرضُون عنه شركاءُ يحملون غداً وزِرْاً وِثقْلاً، أولئك بعُدُوا عن محلِّ الخصوصية، ولم يكن لهم خَطَرٌ في التحقيق؛ فعقوبتُهم لا تزيد على آلام نفوسِِهم وإحراقِ أشباحهم، وأمَّا أهل الخصوصية فلو غفلوا عنه ساعةً ونَسَوْه لحظةً لدَار- في الحال- على رؤوسهم البلاءُ بحيث تتلاشى في جَهنَّم عقوبةُ كلِّ أحدٍ (بالإضافة إلى هذه العقوبة).

.تفسير الآيات (102- 104):

{يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)}
قومٌ يومُ القيامة لهم مُؤجَّل، وهو بعد النفخ في الصُّور على ما وَرَدَ في الكتاب وفي الخبر المأثور.
وللآخرين قيامةٌ مُعَجَّلةٌ؛ فيها محاسبة وعليهم فيها مطالبة، وهوان حاضر وعذاب حاصل، فكما تَرِدُ على ظواهرِ قوم في الآخرة عقوباتٌ، تَرِدُ على سرائر آخرين عقوباتٌ في لاحياة الحاضرة، والمعاملةُ مع كلِّ أحدٍ تخالف المعاملةَ مع صاحبه.
قوله: {يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ...} مَنْ تَفَرَّغَ لِعَدِّ الأوقاتِ والتمييز بين اختلاف الحالات فنوعٌ غير مستوفٍ في بلائه، وأمره سهلٌ , ومَنْ كان يُرَادُ المعنى من حديثه لا يتفرغ إلى نعت الحال؛ فالأحوال تخبر عنه وهو لا يُسْأَلُ عن الخبر.

.تفسير الآيات (105- 107):

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)}
كما أنَّ في القيامةِ الموعودةِ تُغَيَّرُ الجبالُ عن أحوالِها فهي كالعِهْن المنفوش فكذلك في القيامة الموجودة فلا يخبرك عنها إلا الأكابر الذين هم كالرواسي ثباتاً؛ فإنه يُدْخِلُ عليهم من الأحوال مايمحقهم عن شواهدهم، ويأخذهم عن أقرانهم كذا سُنَّتُه سبحانه.

.تفسير الآية رقم (108):

{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)}
تنقطع الأوهام، وتقف الأفهام، وتنخنس العقول، وتندرِِس العلومُ، وتتحير المعارفُ، ويتلاشى ما هو نَعْتُ الخَلْق، ويستولي سلطانُ الحقيقة فعند ذلك لا عينٌ ولا أَثَرٌ، ولا رسم ولا طلل ولا غَبَرٌ، في الحضور خَرَسٌ، وعلى البِساط فَنَاءٌ، وللرسوم امتحاءُ، وإنما الصحة على الثبات.

.تفسير الآية رقم (109):

{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)}
دليلُ الخطابِ أَنَّ مَنْ أَذِنَ له في الشفاعةِ تنفعه الشفاعةُ، وإذا قُبلَتْ شفاعة أحدٍ بإذن الرحنم فَمِنَ المُحالِ ألاَّ تُقْبَلَ شفاعةُ الرسولِ- صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الكافة، وشفاعةُ الأكابر من صفوته مقبولةٌ في الأصاغر في المُؤجَلِّ وفي المُعَجّل. والحقُّ سبحانه يُشَفَّعُ الشيوخَ في مريديهم اليوم.
ويقال شفاعة الرسول عليه السلام غداً للمطيعين بزيادة الدرجة، وللعاصين بغفران الزَّلَّة، كذلك شفاعة الشيوخ- اليوم- للمريدين على قسمين: للذين هم أصحاب السلوك فبزيادة التحقيق والتوفيق، وللذين هم أصحاب التَّخَبُّطِ والغِرَّة فبالتجاوز عنهم، وعلى هذا يُحْمَلُ قولُ قائلهم:
إِذَا مَرِضْتُم أَتْيْناكُم نعودُكُم ** وتُذْنِبُون فنأتيكم ونعتَذِرُ!

وحكاياتُ السَّلفِ من الشيوخ مع مريديهم في أوقات فترتهم معروفة، وهي مُشَاكِلةٌ لهذه الجملة، وإن شفاعتَهم لا تكون إلا بتعريفٍ من قِبَلِ الله في الباطن، ويكون ذلك أدباً لهم في ذلك.

.تفسير الآية رقم (110):

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)}
لا يخفى على الحق شيءٌ مما مضى من أحوالهم ولا مِنْ آتيها، ولا يحيطون به عِلْماً. والكناية في قوله: به يحتمل أن يعود إلى ما بين أيديهم وما خلفهم، ويحتمل أن يعود إلى الحقِّ- سبحانه-، وهو طريقة السَّلَف؛ يقولون: يعلم الخلْقَ ولا يحيط به العلم، كما قالوا: إنه يَرَى ولا يُدْرَك.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)}
ذلَّتْ له الرقاب واستسلم لحُكْمه الخلْقُ، وخَضَعَت له الجبابرةُ، ومَنْ اقترف الظلمَ بقي في ظُلُماته، وعلى حسب ذلك في الزيادة والنقصان.

.تفسير الآية رقم (112):

{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}
العمل الصالح ما يصلح للقبول، وفاعِلُه هو المتجرِّدُ عن الآفات الواقفة لحقيقة الأمر.
ويقال العمل الصالح ما لم يستعجل عليه صاحبُه أجراً.
قوله: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: أي في المآل كما هو مؤمن في الحال.
ويقال هو مؤمنٌ مصدِّق لربِّه أنه لا يعطي المؤمنَ لأَجْلِ إيمانه شيئاً، ولكن بفضله، وإيمانُه أمارةٌ لذلك لا موجِبٌ له.