فصل: تفسير الآية رقم (43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (41):

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)}
كانت تكون له سلوة لو ذكر حالته وشكا إليه قصته، فإذا أخبر اللَّهُ وقصَّ عليه ما كان يلاقيه كان أَوْجَبَ للسَّلْوَةِ وأقربَ من الأًُنْس، وغايةُ سلوةِ أربابِ المحن أن يذكروا لأحبائهم ما لقوا في أيام امتحانهم كما قال قائلُهم:
يودُّ بأن يمشي سقيماً لَعَلَّها ** إذا سمعت منه بشكوى تراسله

ويهتزُّ للمعروفِ في طَلَبِ العلَى ** لتُذْكَرَ يوماً عند سلمى شمائلُه

وأخبر أنهم كانوا ينظرون إليه- عليه السلام بعين الازدراءِ ولاتصغيرِ لشأنه؛ لأنهم كانوا لا يعرفون قَدْرَه، قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198].

.تفسير الآية رقم (43):

{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)}
كانوا يعبدون من الأصنام ما يَهْوَوْن؛ يستبدلون صنماً بصنم، وكانوا يَجْرُون على مقتضى ما يقع لهم. والمؤمنُ بِحُكْمِ اللَّهِ لا بحكم نفسه، وبهذا يتضح الفرقان بين رجل وبين رجل. والذي يعيش على ما يقع له فعابِدُ هواه، وملتحِقٌ بالذين ذكرهم الحقُّ بالسوءِ في هذه الآية.

.تفسير الآية رقم (44):

{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)}
كالأنعام التي ليس لها هَمٌّ إلاَّ في أَكْلَةٍ وشَرْبَة، ومَنْ استجلب حظوظَ نَفْسِه فكالبهائم. وإنَّ الله- سبحانه- خَلَقَ الملائكةَ وعلى العقلِ جَبَلَهم، والبهائمَ وعلى الهوى فَطَرَهم، وبنى آدم ورَكّبَ فيهم الأمْرَيْن؛ فَمَنْ غًلَبَ هواه عَقْلَه فهو شرُّ من البهائم، ومَنْ غَلَبَ عَقْلُه هواه فهو خيرٌ من الملائكة..كذلك قال المشايخ.

.تفسير الآيات (45- 46):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)}
قيل نَزَلَ الرسول- صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره وقت القيلولة في ظل شجرة وكانوا خَلْقاً كثيراً فَمَدَّ اللَّهُ ظِلَّ تلك الشجرة حتى وسع جميعَهم وكانوا كثيرين، فأنزل الله هذه الآية، وكان ذلك من جملة معجزاته عليه السلام.
وقيل إن الله في ابتداء النهار قبل طلوع الشمس يجعل الأرضَ كلَّها ظلاً، ثم إذا طلعت الشمسُ وانبسط على وجه الأرض شعاعُها فكلُّ شخصٍ يُبْسَطُ له ظِلُّ، ولا يُصيب ذلك الموضعَ شعاعُ الشمس، ثم يتناقض إلى وقت الزوال، ثم يأخذ في الزيادة وقت الزوال. وذلك من أماراتِ قدرة الله تعالى؛ لأنه أجرى العادة بخلق الظلِّ والضوء والفيء.
قوله: {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً}: أي دائماً: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً}؛ أي حال ارتفاعِ الشْمسِ ونُقصانِ الظِّلِّ.
ويقال: ألم تر إلى ربك كيف مدَّ ظل العناية على أحوال أوليائه؛ فقومٌ هم في ظل الحماية، وآخرون في ظل الرعاية، وآخرون في ظل العناية، والفقراء في ظل الكفاية، والأغنياء في ظل الراحة من الشكاية.
ظلٌ هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة؛ فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم في الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ثم قوله: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} ستراً لما كان كاشفه به أولاً، إجراءً للسُّنَّةِ في إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام: {لَن تَرَانِى} [الأعراف: 143] وقال لنبينا عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} وشتان ماهما!
ويقال أحيا قلبه بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} إلى أن قال: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} فجعل استقلاله بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} إلى أن سمع ذكر الظل. ويقا أحياه بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ثم أفناه بقوله: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} وكذا سُنَّتُه مع عباده؛ يُردِّدُهم بين إِفناءٍ وإبقاء.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)}
قوله جلّ ذكره: {وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشوُراً} جعل الليلَ وقتاً لسكون قومٍ ووقتاً لأنزعاج آخرين؛ فأربابُ الغفلة يسكنون في ليلهم، والمحبون يسهرون في ليلهم إنْ كانوا في رَوْحِ الوصال، فلا يأخذهم النومُ لكمال أُنْسِهم، وإن كانوا في ألم الفراق فلا يأخذهم النوم لكمال قلقهم، فالسّهرُ للأحباب صِفَةٌ: إمَّا لكمال السرور أو لهجوم الهموم. ويقال جعل النومَ للأحباب وقتَ التجلِّي بما لا سبيلَ إليه في اليقظة، فإذا رَأَوْا ربَّهم في المنام يؤثِرون النومَ على السَّهر، قال قائلهم:
وإني لأَستغفي وما بي نَعْسَةٌ ** لعلَّ خيالاً منك يلقى خياليا

وقال قائلهم:
رأيتُ سرورَ قلبي في منامي ** فأحببتُ التَّنَعُّسَ والمناما

ويقال النوم لأهلِ الغفلة عقوبةٌ ولأهل الاجتهادِ رحمةٌ؛ فإن الحقَّ- سبحانه- يُدْخِلُ عليهم النوم ضرورةً رحمةً منه بنفوسهم ليستريحوا من كَدِّ المجاهدة.

.تفسير الآيات (48- 50):

{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)}
قوله جلّ ذكره: {وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً}.
يُرْسِلُ رياحَ الكَرَم فتهب على قلوب ذوي الحاجات فتزعجها إلى طلب مبارِّه، ويرسل رياحَ الولاية فتهب على قلوب الخواص فتطهرها من جميع الإرادات فتُكْفَى بالله لله، ويرسِلُ رياحَ الخوفِ على قلوبِ العُصَاةِ فتحملهم على النَّدَمِ، وتطهرها من الإصرار فترجع إلى التوبة، ويرسل رياح الاشتياق على قلوب الأحباب، فتزعجها عن المساكنات، وتطهرها عن كل شيء إلا عن اللواعج فلا يستقِرُّ إلا بالكشف والتجلَّّي.
ويقال إذا تَنَسَّمَ القلبُ نسيمَ القُرْبِ هَامَ في ملكوت الجلال، وامتحى عن كل مرسوم ومعهود.
قوله جل ذكره: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحِْىَ بِهِ بَلَدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}.
أنزل من السماء ماء المطرِ فأحيا به الغياضَ والرياضَ، وأنبت به الأزهار والأنوار، وأنزل من السماء ماء الرحمةِ فغَسَلَ العصاةُ ما تلطخوا به من الأوضار، وما تدنَّسوا به من الأوزار.
و{الطَّهُور} هو الطاهرُ المُطَهِّرُ، وماءُ الحياء يُطِهرُ قلوبَ العارفين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأحيان من الغفلات. وماء الرعاية يُحْيِي به قلوبَ المشتاقين بما يتداركها من أنوار التجلِّي حتى يزول عنها عَطَشُ الاشتياق ويحصل فيها من سكينة الاستقلال، ويحيي به نفوساً ميتةً باتباع الشهوات فيردها إلى القيام بالعبادات.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)}
إنَّ الله- سبحانه- خصَّ نبينا صلى الله عليه وسلم بأن فضَّله على الكافة، وأرسله إلى الجملة، وبألا يُنْسَخَ شَرْعُه إلى الأبد. وبهذه الآية أدَّبه بأدقِّ إشارة، حيث قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} وهذا كما قال: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [الإسراء: 86].
وَقَصْدُ الحقِّ أن يكون خواصُّ عباده أبداً معصومين عن شواهدهم.
وفي القصة أن موسى عليه السلام تَبَرَّمَ وقتاً بكثرة ما كان يُسْأل، فأوحى الله في ليلة واحدة إلى ألف نبي من بني إسرائيل فأصبحوا رُسلاً، وتفرَّقَ الناسُ عن موسى عليه السلام إليهم عليهم السلام، فضاق قلبُ موسى وقال: يا رب، إني لا أطيق ذلك! فقبض اللَهُ أرواحهم في ذلك اليوم.

.تفسير الآية رقم (52):

{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)}
أي كُنْ قائماً بحقِّنا من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا أو مبالاةٌ بِمَنْ سوانا، فإنَّا نَعْصِمُكَ بكلِّ وجهٍ، ولا نرفع عنك ظِلَّ عنايتنا بحالٍ.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)}
البحر المِلْح لا عذوبة فيه، والعَذْبُ لا ملوحة فيه، وهما في الجوهرية واحد، ولكنه سبحانه- بقدرته- غَايَر بينهما في الصفة، كذلك خَلَقَ القلوبَ؛ بعضُها مَعْدِنُ اليقينِ والعرفانِ، وبعضُها مَحَلُّ الشكِّ والكفران.
ويقال أثبت في قلوب المؤمنين الخوف والرجاء، فلا الخوف يغلب الرجاء ولا الرجاء يغلب الخوف.
ويقال خَلَقَ القلوبَ على وصفين: قلبَ المؤمن مضيئاً مشرقاً وقلبَ الكافر أسود مظلماً، هذا بنور الإيمان مُزَيَّن، وهذا بظلمة الجحود مُعَلَّم.
ويقال قلوبُ العوام في أسْرِ المطالب ورغائب الحظوظ، وقلوبُ الخواصِّ مُعْتَقَةٌ عن المطالب، مُجَرَّدَةٌ عن رِقِّ الحظوظ.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)}
الخَلْقُ متشاكلون في أصل الخِلْقة، متماثلون في الجوهرية، متباينون في الصفة، مختلفون في الصورة؛ فنفوسُ الأعداء مطاياهم تسوقهم إلى النار، ونفوس المؤمنين مطاياهم تحملهم إلى الجنة. والخلْقُ بَشَرٌ.. ولكن ليس كلُّ بَشَرٍ كبشر؛ واحدٌ عدوٌّ لا يسعى إلا من مخالفته، ولا يعيش إلا بنصيبه وحظِّه، ولا يحتمل الرياضة ولا يرتقي عن حدِّ الوقاحة والخساسة، وواحدٌ وليٌّ لا يَفْتَرُ عن طاعته، ولا يَنْزِل عن هِمَّتِه، فهو في سماء تعززه بمعبوده.
وبينهما للناس مناهل ومشارب؛ فواحِدٌ يكون.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)}
يكتفي بالمنحوتِ من الخشب، والمصنوعِ من الصَّخْرِ، والمُتَّخَذِ من النحاس، وكلُّها جمادات لا تعقل ولا تسمع، ولا تضر ولاَ تنفع.
أما المؤمنُ فإنَّ من صفاته أنّه لا يلتفت إلى العرش- وإن علا، ولا ينقاد بقلبه لمخلوقٍ- وإن اتصف بمناقب لا تُحْصَى.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)}
رسولاً مِنَّا، مأموراً بالإنذار والتبشير، واقفاً حيث وقفناك على نعت التبليغ، غيرَ طالب منهم أجراً، وغير طامع في أن تجد منهم حظَّاً.

.تفسير الآية رقم (57):

{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)}
{إِلاَّ} أداة استثناء منقطع؛ إذ ابتغاؤهم السبيل إلى ربِّهم ليس بأجرٍ يأخذه منهم، فهو لِمَنْ أقْبَلَ بشيرٌ، ولِمَنْ أعرض نذير.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}
قوله جل ذكره: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الذي لاَ يَمُوتُ}.
التوكلْ تفويضُ الأمور إلى الله وحقُّه وأصْلُهُ عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله تعالى، وأنه لا يقدر أحدٌ على الإيجاد غيرُه.
فإذا عَرَفَ هذا فهو فيما يحتاج إليه- إذا عَلِمَ أن مرادَهُ لا يرتفع إلا مِنْ قِبَلِ الله- حصل له أصل التوكل. وهذا القَدْرُ فَرْضٌ، وهو من شرائط الإيمان، فإن الله تعالى يقول: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] وما زاد على هذا القَدْرِ- وهو سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطرار- فهي أحوال تلحق بالتوكل على وجه كماله.
فإن تقرَّرَ هذا فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام، ولكلِّ درجةٍ من هذه الأقسام اسم: إمَّا من حيث الاشتقاق، أو من حيث الاصطلاح.
فأول رتبة فيه أن يكتفي بما فيه يده، ولا يطلب زيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة.. وتسمى هذه الحالة القناعة، وفيها يقف صاحبها حيث وقف، ويقنع بالحاصل له فلا يستزيد ثم اكتفاءُ كلِّ أحدٍ يختلف في القلة والكثرة، وراحة قلوب هؤلاء في التخلص من الْحِرصِ وإرادة الزيادة.
ثم بعد هذا سكونُ القلب في حالة عَدَمِ وجود الأسباب، فيكون مجرداً عن الشيء، ويكون في إرادته متوكلاً على الله. وهؤلاء متباينون في الرتبة، فواحد يكتفي بوعده لأنه صَدَقَه في ضمانه، فيسكن- عند فقد الأسباب- بقلبه ثقةً منه بوعد ربه.. ويسمى هذا توكلاً، ويقال على هذا: إن التوكل سكون القلب بضمان الربِّ، أو سكون الجاش في طلب المعاش، أو الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه، أو الاكتفاء بالوعد عند فقد النقد.
وألطف من هذا أن يكتفي بِعِلْمِ أنه يعلم حاله فيشتغل بما أمره الله؛ ويعمل على طاعته؛ ولا يراعي إنجاز ما وَعَدَهَ؛ بَل يِكلُ أمرَه إلى الله.. وهذا هو التسليم.
وفوق هذا التفويض، وهو أنْ يَكِلَ أمرَه إلى الله. ولا يقترح على مولاه بحالٍ، ولا يختار؛ ويستوي عند وجودُ الأسباب وعَدَمُها؛ فيشتغل بأداء ما ألزمه الله؛ ولا يفكر في حال نَفْسِه؛ ويعلم أنه مملوكٌ لمولاه؛ والسيِّدُ أوْلَ بِعَبْدِهِ من العبد بنفسه.
فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ راحةً في المَنْع؛ واستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ..... وتلك هي مرتبة الرضا؛ ويصلح له في هذه الحالة من فوائد الرضا ولطائفه ما لا يحصل لِمَنْ دونَه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا الموافقة؛ وهي ألا يجد الراحة في المَنْعِ، بل يجد بَدَلَ هذا عند نسيم القربِ زوائد الأُنْس بنسيان كلِّ أرَبٍ، ونيسان وجود سبب أو عدو وجود سبب؛ فكما أنَ حلاوة الطاعة تتصاغر عند بَرْدِ الرضا- وأصحاب الرضا يعدون ذلك حجاباً- فكذلك أهل الأُنْسِ بالله.
بنسيانِ كلِّ فَقْدٍ ووَجْدٍ، وبالتغافل عن أحوالهم في الوجود والعدم يعدون النزول إلى استلذاذ المنع، والاستقلال بلطائف نقصاناً في الحال.
ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة فيؤخذ العبد عن جملته بالكلية، والعبارة عن هذه الحالة أنه يحدث الخمود والاستهلاك والوجود والاصطلام والفناء.. وأمثال هذا، وذلك هو عين التوحيد، فعند ذلك لا أُنْسَ ولا هيبة، ولا لذة ولا راحة، ولا وحشة ولا آفة.
هذا بيان ترتيبهم فأمّا دون ذلك فالخبر عن أحوال المتوكلين- على تباين شِرْبِهم.- يختلف على حسب اختلاف على حسب اختلاف محالِّهم.
فيقال شرط التوكل أن يكون كالطفل في المهد؛ لا شيء مِنْ قِبَلِه إلا أن يرضعه مَنْ هو في حضانته.
ويقال التوكل زوال الاستشراف، وسقوط الطمع، وفراغ القلب من تعب الانتظار.
ويقال التوكل السكون عند مجاري الأقدار على اختلافها.
ويقال إذا وثق القلب بجريان القسمة لا يضره الكسب، ولا يقدح في توكله.
ويقال عوام المتوكلين إذا أُعْطُوا شكروا، وإذا مُنعُوا صبروا. وخواصُّهم إذا أَعْطُوا آثروا، وإذا مٌنِعُوا شكروا.
ويقال الحقُّ يجود على الأولياء- إذا توكلوا- بتيسير السبب من حيث يُحْتَسَبُ ولا يُحْتَسَبُ، ويجود على الأصفياء بسقوط الأرب وإذا لم يكن الأرَبُ فمتى يكون الطلب؟
ويقال التوكل في الأسباب الدنيوية إلى حدَّ، فأمَّا التوكل على الله في إصلاحه- سبحانه- أمورَ آخرِة العبد فهذا أشدُّ غموضاً، وأكثرُ خفاءً. فالواجبُ في الأسباب الدنيوية أن يكون السكونُ عن طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً. فأمَّا في أمور الآخرة وما يتعلَّقُ بالطاعةِ فالواجبُ البِدارُ والجِدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل والجنوح إلى الفشل.
والذي يتَّصِفُ بالتواني في العبادات، ويتباطؤ في تلافي ما ضيَّعَه من أرضاء الخصوم والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله وأنه- سبحانه- يغفو عنه فهو مُتَّهَمٌب معلولُ الحالِ، ممكورٌ مُسْتَدْرَجٌ، بل يجب أن يبذل جهده، ويستفرغ وسعه. ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستنِدُ إلى سكونه وحركته، ويتبرأُ بِسِرِّه من حَوْلِهِ وقوَّتِه. ثم يكون حَسَنَ الظنِّ بربِّه، ومع حُسْنِ ظنه بربه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب؛ فإن ذلك- إذا حَصَلَ- فالوقتُ غالِبٌ، وهو أحد ما قيل في معاني قولهم: الوقت سيف.