فصل: تفسير الآية رقم (71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (64):

{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)}
ظَنُّوا أَنَّ الحقَّ- سبحانه- لا يفضحهم، فَدَلَّسُوا عليكم، وأنكروا ما انطوت عليه سرائرهم، فأرخى الله- سبحانه- عنانَ إمهالهم، ثم هتك الستر عن نفاقهم؛ فَفَضَحَهم عند أهل التحقيق، فتقنعوا بِخِمار الخجل، وكشف لأهل التحقيق مكامنَ الاعتبار. ونعوذ بالله من عقوبة أهل الاغترار! {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].

.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)}
مَنْ استَهانَ بالدِّين، ولم يَحْتَشِمْ مِنْ تَرْكِ حُرْمةِ الإسلام جعله الله في الحال نكالاً، وسامَه في الآخرة صِغَراً وإذلالاً، والحقُّ- سبحانه- لا يرضى دون أن يذيق العُتَاةَ بَأْسَه، ويَسْقِيَ كُلاًّ- على ما يستوجبه- كأسَه.

.تفسير الآية رقم (66):

{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}
جَرَّدَ العفوَ والعذابَ من عِلَّة الجُرْمِ، وسببَ الفِعْل مِنْ حُجّةِ العبد؛ حيث أَحالَ الأمر على المشيئة.. إذ لو كان الموجِبُ لعفوِه أو تعذيبِه صفةَ العبد لَسَوَّى بينهم عند تساويهم في الوصف، فَلَمَّا اشتركوا في الكفر بعد الإيمان، وعفا عن بعضهم وعذَّب بعضَهم دَلَّ على أنه يفعل ما يشاء، ويختصُّ من يشاء بما يشاء.

.تفسير الآية رقم (67):

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}
قوله جلّ ذكره: {المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ}.
المؤمِنُ بالمؤمِن يَتَقَوَّى، والمنافقُ بالمنافق يتعاضد، وطيور السماء على أُلاَّفِها تَقَعُ. فالمنافِقُ لصاحبه أسٌّ به قوامه، وأصلٌ به قيامه؛ يُعِينُه على فساده، ويُعَمِّي عليه طريقَ رشادِه.
والمؤمِنُ ينصر المؤمنَ ويُبَصِّره عيوبَه، ويُبغضُ لديه ويُقَبِّحُ- في عينيه- ذنوبَه، وهو على السدادِ يُنْجِدُه، وعن الفسادِ يُبْعِده.
قوله جلّ ذكره: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ}.
عن طلب الحوائج من الله تعالى.
قوله جلّ ذكره: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}.
جازاهم على نسيانهم، فسمَّى جزاءَ النسيانِ نسياناً. تركوا طاعتَه، وآثروا مُخالَفَته، فَتَرَكَهُم وما اختاره لأنفسهم، قال تعالى: {وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17].

.تفسير الآية رقم (68):

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}
وَعَدَهم النارَ في الآخرة، ولهم العذابُ المقيمُ في الحاضرة، فمؤجَّلُ عذابِهم الحُرقَةُ، ومُعَجَّلُه الفُرْقةُ.

.تفسير الآية رقم (69):

{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)}
يقال: سلكتم طريقَ مَنْ قَبْلَكم من الكفار وأهل النفاق وأهل النفاق وقد كافأناهم. ويقال الذين تقدموكم زادوا عليكم فكافأناهم كما نكافئ أهل الشقاق والنفاق؛ في كثرة المدَّةِ وقوةِ العُدَّةِ، والاستمتاع في الدنيا، والاغترار بالانخراط في سِلْك الهوى.. ولكن لم تَدُمْ في الراحة مُدَّتُهم، ولم تُغْنِ عنهم يومَ الشِدَّةِ عُدَّتُهم، وعما قريبٍ يَلْحَقُ بِكُم ما لَحِقَ بالذين هم قبلكم.

.تفسير الآية رقم (70):

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}
ألم يَنْتَهِ إليهم خبرُ القرون الماضية، ونبأُ الأمم الخالية كيف دَمَّرْنا عليهم جَمْعَهُم، وكيف بَدَّدْنَا شمْلَهم؟ قَضَيْنَا فيهم بالعدْل، وحَكَمْنَا باستئصالِ الكُلِّ، فلم يَبْقَ منهم نافخُ نار، ولم يحصلوا إلاَّ على عارٍ وشنار.

.تفسير الآية رقم (71):

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}
يُعين بعضُهم بعضاً على الطاعات، ويتواصَوْن بينهم بترك المحظورات؛ فَتَحَابُّهم في الله، وقيامُهم بحقِّ الله، وصحبتُهم لله، وعداوتُهم لأجْلِ الله؛ تركوا حظوظَهم لحقِّ الله؛ وآثروا على هواهم رِضاءَ الله. أولئك الذين عَصَمَهم اللهُ في الحالِ، وسيرحمهم في المآل.

.تفسير الآية رقم (72):

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}
وَعَدَهُم جميعاً الجنةَ، ومساكنَ طيبة، ولا يطيب المَسْكَنُ إلا برؤيةِ المحبوبِ، وكلُّ مُحِبٍ يطيب مَسْكَنُه برؤية محبوبه، ولكنهم مختلفون في الهمم؛ فَمِنْ مربوطٍ بحظِّ مردودٍ إلى الخَلْق، ومِنْ مجذوب بحقِّ موصول بالحق، وفي الجملة كما يقال:
أجيرانَنَا ما أوحشَ الدارَ بَعْدَكُم ** إذا غِبْتُمُ عنها ونحن حضورُ!

ويقال قومٌ يطيب مسكنُهم بوجودِ عَطَائِه، وقومٌ يطيب مسكنُهم بشهود لقائه، وأنشدوا:
وإنِّي لأَهْوى الدارَ لا يستقرُّ لي ** بها الودُّ إلا أَنَّها من دِيارِكا

ثم قال: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ}: وأمارةُ أهلِ الرضوانِ وجدانُ طَعْمِه؛ فهم في روْح الأُنْسِ، وروْح الأنْسِ لا يتقاصر عن راحة دار القُدْس بل هو أتمُّ وأعظم.

.تفسير الآية رقم (73):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}
دعا نَبِيُّنا- صلى الله عليه وسلم- كافةَ الخَلْقِ إلى حُسْن الخُلُق.
قال لموسى عليه السلام: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} [طه: 44].
وقال لنبيِّنا- صلى الله عليه وسلم-: {واغلُظْ عليهم} [التحريم: 9] ويقال إنما هذا بعد إظهار الحجج، وبعد أن أزاح عُذْرَهُم بأيام المهلة؛ ففي الأول أَمَرَه بالرِّفق حيث قال: {إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46]، فلما أصروا واستكبروا أَمَرَه بالغِلظة عليهم. والمجاهدة أولها اللسان لشرح البرهان، وإيضاح الحجج والبيان، ثم إنْ حَصَلَ من العدوِّ جُحْدٌ بعد إزاحة العذر، فبالوعيد والزجر، ثم إنْ لم ينجعْ الكلامُ ولم ينفع الملامُ فالقتالُ والحربُ وبَذْلُ الوسعِ في الجهاد.

.تفسير الآية رقم (74):

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}
قوله جلّ ذكره: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلََقدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ}.
تَسَتَّروا بأَيْمانِهم فَهتَكَ اللهُ أستارهم وكشف أسرارهم.
قوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ}: وهي طَعْنُهُم في نُبوَّةِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكلُّ مَنْ وَصَفَ المعبودَ بصفاتِ الخَلْق أو أضاف إلى الخلْق ما هو من خصائص نعت الحقِّ فقد قال كلمة الكفر.
قوله جلّ ذكره: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ}.
أي أظهروا من شعار الكفر ما دَلَّ على جُحْدِهم بقلوبهم بعد ما كانوا يُظْهِرون الموافقة والاستسلامَ، وهمُّوا بما لم ينالوا من قتلٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سوَّلت أنفسهم أنه يُخْرِج الأَعَزُّ منها الأذلَّ، وغير ذلك.
يقال تمنوا زوالَ دولةِ الإسلام فأبى اللهُ إلا إعلاء أمْرِها.
ثم قال: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ}: أي ما عابوه إلا بما هو أَجَلّ خصاله، فلم يحصلوا من ذلك إلا على ظهور شأنهم للكافة بما لا عذر لهم فيه.
قوله جلّ ذكره: {فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيمًا في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ في الأَرْضِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
وأقوى أركان التوبة حلُّ عقْدة الإصرار عن القلب، ثم القيام بجميع حقِّ الأمر على وجه الاستقصاء.

.تفسير الآيات (75- 76):

{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)}
قوله جلّ ذكره: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مَنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخَلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ}.
منهم مَنْ أَكَّدَ العَقْدَ مع الله، ثم نَقَضَه، فَلَحِقَه شُؤْمُ ذلك؛ فَبقِي خالداً في نِفاقِه.
ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه.
وحدُّ البخل- على لسان العلم- مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحيائه. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه.

.تفسير الآية رقم (77):

{فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)}
أعقبهم ببخلهم نفاقاً في قلوبهم، ويصحُّ أعقبهم الله نفاقاً في قلوبهم، وفي الجملة: مَنْ نَقَضَ عهده في نفسه رفض الودَّ من أصله، وكلُّ من أظهر في الجملة خيراً واستبطن شراً فقد نافق بقسطه. والمنافق في الصف الأخير في دنياه، وفي الدَرْكِ الأسفل من النار في عقباه.

.تفسير الآية رقم (78):

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}
خوَّفَهم بعلمه كما خوَّفهم بفعله في أكثر من موضعٍ من كتابه.
و{سِرَّهُمْ} ما لا يطلع عليه غير الله.
و{نَجْوَاهُمْ} ما يتسارون بعضهم مع بعض. ويحتمل أن يكونَ ما لنفوسهم عليه إشرافٌ من خواطرهم.

.تفسير الآية رقم (79):

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)}
عابوا الذين قَصُرَتْ أيديهم عن الإكثار في الصَدَقة وجادوا بما وصَلَتْ إليه أيديهم، فَشَكَرَ اللهُ سَعْيَ من أخلص في صدقته بعدما عَلمَ صِدْقَه فيها. وقليلُ أهلِ الإخلاص أفضلُ مِنْ كثيرِ أهلِ النفاقِ.
ولمَّا أوجدوا المسلمين بسخريتهم وَصَفَ اللهُ- سبحانه وتعالى- نفْسَه بما يستحيل في وصفه- على التحقيق- هو السخرية بأحدِ.. تطيباً لقلوبِ أوليائه، فقد تقدَّس عن ذلك لعِزَّة ربوبيته.

.تفسير الآية رقم (80):

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)}
خَتَمَ القضايا بأنَّه لا يغفر لأهل الشِرْكِ والنفاق، فلا تنفعهم الوسائل، ولا ينتعش منهم الساقط.
ويقال: مَنْ غَلَبَتْه شِقْوتُنا لم ينفعه تضرعه ودعوته.
ويقال: صريعُ القدرة لا يُنْعِشُه الجُهد والحيلة.

.تفسير الآية رقم (81):

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)}
استحوذ عليهم سرورُهم بتخلفهم، ولم يعلموا أن ثبورَهم في تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله، والخروج في صحبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فنزع الله الراحةَ بما عاقَبَهم، وسَيَصْلَوْنَ سعيراً في الآخرة بما قدَّموه من نفاقهم، وسوف يتحسَّرُون ولات حينَ تحسُّر.

.تفسير الآيات (82- 83):

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}
قوله جل ذكره: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
بدل الله مَسَرَّتهم بِحَسرةِ، وفَرْحَتَهم بتَرْحَةٍ، وراحتهم بِعَبْرَةٍ، حتى يكثر بكاؤهم في العقبى كما كثر ضحكهم في الدنيا، وذلك جزاءُ مَنْ كَفَرَ بِرَبِّه.
قوله جلّ ذكره: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}.
يقول: بعدما ظهرت خيانَتُهم، وتقرر كذبهم ونفاقهم، لا تَنْخَدِعْ بتملقهم، ولا تَثِقْ بقولهم، ولا تُمَكِّنْهم مِنْ صُحبتك فيما يُظْهِرونه مِنْ وفاقك. فإذا وَهَنَ سِلْكُ العهدِ فلا يَحْتَملُ بَعْدَهُ الشَّدَّ، وإذا اتسع الخَرْقُ لا ينفع بَعءدَهُ الرَّقْعُ.