فصل: سورة المنافقون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآيات (8- 9):

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}
قوله جل ذكره: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِّمُّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ}.
فَمَنْ احتال لوَهنه، أورامَ وهْيَه انعكس عليه كَيْدُه، وانتقض عليه تدبيرُه.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أن يُتِمَّ نُورَهُ}: كما قالوا:
ولله سِرٌّ في عُلاهُ وإنما ** كلامُ العِدَى ضَرْبٌ من الهَذَيانِ

كأنه قال: مَنْ تمنَّى أن يُطْفِئ نورَ الإسلام بكيده كمن يحتال ويزاول إطفاء شعاعِ الشمس بنَفْثه ونَفْخِه فيه- وذلك من المُحال.
قوله جل ذكره: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}.
لمَّا تقاعد قومُه عن نصرته، وانبرى أعداؤه لتكذيبه، وجحدوا ما شاهدوه من صِدْقِه قَيَّض الله له أنصاراً من أمته هم: نُزَّاعُ القبائل، والآحاد الأفاضل، والساداتُ الأماثل، وأفرادُ المناقب- فبذلوا في إعانته ونصرة دينه مُهَجَهم، ولم يُؤثِروا عليه شيئاً من كرائمهم، ووقوه بأرواحهم، وأمََدَّهم اللَّهُ سبحانه بتوفيقه كي ينصروا دينه، أولئك أقوامٌ عَجَنَ الله بماء السعادة طِينَتَهم، وخَلَقَ من نور التوحيد أرواحهم وأهَلَّهم يومَ القيامة للسيادة على أضرابهم.
ولقد أرسل الله نبيَّه لدينه مُوَضِّحاً، وبالحقِّ مُفْصِحاً، ولتوحيده مُعْلِناً، ولجهده في الدعاء إليه مستفرِغاً.. فأقْرَعَ بنُصْحِه قلوباً نُكْراً، وبصَّرَ بنور تبليغه عيوناً عُمْياً.

.تفسير الآيات (10- 13):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}
قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّن عَذَابٍ أَلِيم تُؤْمِنُونَ يِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
سمَّى الإيمانَ والجهادَ تجارةً لِمَا في التجارة من الرِّبح والخسران ونوعٍ تَكسُّب من التاجر- وكذلك: في الإيمان والجهاد رِبْحُ الجنَّة وفي ذلك يجتهد العبد، وخسرانها إذا كان الامرُ بالضِّدِّ.
وقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي في ذلك جهادُكم وإيمانُكم واجتادُكم، وهو خيرٌ لكم.
ثم بَيَّن الربحَ على تلك التجارة ما هو فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ وَمََساكِنَ طَيِّبةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
قدَّم ذِكْرَ أهمِّ الأشياء- وهو المغفرة. ثم إذا فرغَتْ القلوبُ عن العقوبة قال: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ} فبعد ما ذَكَرَ الجنَّةَ ونعيمَهَا قال: {وَمَسَاكِنَ طَيِبَّةً}، وبماذا تطيب تلك المساكن؟ لا تطيب إلاَّ برؤية الحقِّ سبحانه، ولذلك قالوا:
أجيرانَنَا ما اوحشَ الدارَ بعدكم ** إذا غِبْتُموا عنها ونحن حضورُ

نحن في أكمل السرورِ ولكنْ ** ليس إلا بكم يتمُّ السرورُ

عيبُ ما نحن فيه يا أهلَ ودَّي ** أنكم غُيَّبٌ ونحن حضورُ

قوله جل ذكره: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّر الْمُؤْمِنِينَ}.
أي ولكم نعمة أخرى تحبونها: نصرٌ من الله؛ اليومَ حِفْظُ الإيمان وتثبيتُ الأقدام على صراط الاستقامة، وغداً على صراط القيامة.
{وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}: الرؤية والزلفة. ويقال الشهود. ويقال: الوجود أبدَ الأبَد.
{وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ}: بأنهم لا يبقون عنك في هذا التواصل.

.تفسير الآية رقم (14):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}
أي كونوا أنصاراً لدينه ورسوله كما أنَّ عيسى لمَّا استعانَ واستنصرَ الحواريين نصروه. فانصروا محمداً إذا استنصركم.
ثم أخبر انَّ طائفةً من بني إسرائيل آمنوا بعيسى فأُكْرِموا، وطائفةً كفروا فأُذِلُّوا، وأظفرَ أولياءَه على أعدائه.. لكي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الله سبحانه يُظْفِرُ أولياءَه على أعدائه.

.سورة الجمعة:

.تفسير الآيات (1- 2):

{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)}
قوله جل ذكره: {يُسَّبِحُ لِلَّهِ مَا في السَّمَاواتِ وَمَا في الأَرْضِ}.
تَسْبَحُ في بحارِ توحيد الحقِّ أسرارُ أهلِ التحقيق، وبَحْرُهم بلا شاطئ؛ فبعد ما حصلوا فيها فلا خروجَ ولا براحَ، فحازت أيديهم جواهرَ التفريد فرصَّعوها في تاج العرفان كي يَلْبَسُوه يومَ اللِّقاء.
{الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعِزِيزِ الْحَكِيمِ}.
{الْمَلِكِ}: الملك المتفرِّد باستحقاق الجبروت.
{الْقُدُّوسِ}: المُنزَّهُ عن الدرك والوصول: فليس بيد الخَلْقِ إلاَّ عرفان الحقائق بنعت التعالي، والتأمل في شهود أفعاله، فأمَّا الوقوف على حقيقة أنِّيته- فقد جَلَّتْ الصمديةُ عن إشرافٍ عليه، أو طمعِ إدراكٍ في حالٍ رؤيته، أو جواز إحاطةٍ في العِلْم به.. فليس إلا قالة بلسانٍ مُسْتَنْطقٍ، وحالة بشهودِ حقِّ مستغرق.
وقُلْنَ بنا: نحن الأهِلَّة إنما ** نُضيءُ لِمَنْ يَسْرِي بليلٍ ولا نَقْرِي

قوله جل ذكره: {هُوَ الذي بَعَثَ في الأُمِّيِّنَ رَسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيِهمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكَتَابَ وَالْحِِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
جرَّده كلِّ تكلُّفٍ لِتَعَلُّمٍ، وعن الاتصافِ بتطَلُّبٍ. ثم بَعَثَه فيهم وأظْهَرَ عليه من الأوصاف ما فاق الجميع.
فكما أيْتَمَهُ في الابتداء عن أبيه وامِّه، ثم آواه بلُطْفِه- وكان ذلك أبلغَ وأتمَّ- فإنه كذلك أفرده عن تكلُّفِه العلم- ولكن قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} [النساء: 113].
وقال: {مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكَتَابُ وَلاَ الإِيَمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً} [الشورى: 52] ألبسه لباسَ العِزَّة، وتوجَّه بتاج الكرامة، وخَلَعَ عليه حُسْنَ التولِّي. لتكونَ آثارُ البشرية عنه مندرجة، وأنوارُ الحقائقِ عليه لائحة.

.تفسير الآيات (3- 7):

{وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)}
قوله جل ذكره: {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}.
أي بَعَثَه في الأميين، وفي آخرين منهم وهم العجم، ومن يأتي.. إلى يوم القيامة؛ فهو صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى لناس كافَّة.
قوله جل ذكره: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
يقصد به هنا النبوة، يؤتيها {مَن يَشَآءُ}؛ وفي ذلك ردٌّ على مَنْ قال: إنها تُُسْتَحَقُّ لكثرة طاعة الرسول- وردٌّ على من قال: إنها لتخصيصهم بطينتهم؛ فالفضل ما لا يكون مُسْتَحَقّاً، والاستحقاق فَرضٌ لا فضل.
ويقال: {فَضْلُ اللَّهِ} هنا هو التوفيق حتى يؤمِنوا به.
ويقال: هو الأُنْسُ بالله، والعبدُ يَنْسَى كلَّ شيء إذا وَجَدَ الأُنْسَ.
ويقال: قَطَعَ الأسباب،- بالجملة- في استحقاق الفضل، إذا أحاله على المشيئة.
قوله جل ذكره: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا}: ثم لم يعملوا بها.
ويلْحَقُ بهؤلاء في الوعيد- من حيث الإشارة- الموسومون بالتقليد في أي معنى شِئتَ: في علم الأصول، وممَّا طريقُه أدلةُ العقول، وفي هذه الطريقة ممَّا طريقُه المنازلات.
قوله جل ذكره: {قُلْ يَأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُّمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنُّواْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيم بالظَّالِمِينَ}.
هذا من جلمة معجزاته صلى الله عليه وسلم، فَصَرْفُ قلوبِهم عن تمنِّي الموتِ إلى هذه المدة دَلَّ على صِدْقِه صلوات الله عليه.
ويقال: من علامات المحبة الاشتياقُ إلى المحبوب؛ فإذا كان لا يَصِلُ إلى لقائه إلا بالموتِ فتمنِّيه- لا محالة- شرطٌ، فأخبر أنهم لا يتمنونه أبداً.. وكان كما اخبر.

.تفسير الآيات (8- 11):

{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}
قوله جل ذكره: {قُلْ إِنَّ المَوْتَ الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
الموتُ حَتْمٌ مَقْضِيٌّ. وفي الخبر: «مَنْ كَرَهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه» والموتُ جِسْرٌ والمقصدُ عند الله ومَنْ لم يَعِشْ عفيفاً فَلْيَمُتْ ظريفاً.
قوله جل ذكره: {يَاأَيُهَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمَِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَواْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
أوْجَبَ السَّعْيَ يومَ الجمعة إذا نودِيَ لها، وأمَرَ بِتَركِ البيع.
ومنهم من يحمله على الظاهر؛ أي تَرْك المعاملة مع الخَلْقِ، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنىً آخر: هو تَرْكُ الاشتغال بملاحظة الأعراض، والتناسي عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر؛ فمنهم مَنْ يسعى إلى ذِكْرِ الله، ومنهم من يسعى إلى الله، بل يسعون إلى ذِكْرِ الله جَهْراً بِجَهْرٍ، ويسعون إلى الله تعالى سِرًّا بسِرٍّ.
قوله جل ذكره: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ في الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
إنما ينصرف مَنْ كان له جَمْعٌ يرجع إليه، أو شغْلٌ يقصده ويشتغل به- ولكن مَنْ لا شُغْلَ له ولا مأوى.. فإلى أين يرجع؟ وإنما يقال: {وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ} إذا كان له أرَبٌ.. فأمَّا مَنْ سَكَنَ عن المطالبات، وكُفِيَ داءَ الطَّلَبِ.. فما لَه وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رِقِّه؟!
قوله جل ذكره: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةٍ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
مَنْ أسَرَتْهُ أخطارُ الأشياء استجاب لكلِّ داعٍ جَرَّه إليه لَهْوٌ أو حَمَلَه عليه سهوٌ ومَنْ مَلَكَه سلطانُ الحقيقة لم ينحرف عن الحضور، ولم يلتفت في حال الشهود. {قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} وما عند الله للعُبَّاد والزُّهَّاد- غداً- خيرٌ مما نالوه في الدنيا نقداً. وما عند الله للعارفين- نقداً- من واردات القلوب وبواده الحقيقية خيرٌ مما يُؤمَّل المستأنفِ في الدنيا والعُقْبى.

.سورة المنافقون:

.تفسير الآيات (1- 4):

{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}
قوله جل ذكره: {إِذَا جَآءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.
كذَّبهم فيما قالوا وأظهروا، ولكنهم لم يشهدوا عن بصيرة ولم يعتقدوا تصديقك، فهم لم يكذبوا في الشهادة ولكنَّ كِذْبَهم في قولهم: إنَّهم مخلصون لك، مُصَدِّقون لك. فصِدْقُ القالة لا ينفع مع قُبْح الحالة.
ويقال: الإيمان ما يوجِبُ الأمان؛ فالإيمانُ يوجِبُ للمؤمن إذا كان عاصياً خلاصَه من العذاب أكثره وأقّله.. إلاَّ ما ينقله من أعلى جهنم إلى أسفلها.
قوله جل ذكره: {اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} تَسَتَّرُوا بإقرارهم، وتكَشَّفوا بنفاقهم عن أسْتارِهم فافتضحوا، وذاقوا وبالَ أحوالهم.
قوله جل ذكره: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ}.
استضاؤوا بنورِ الإجابة فلم يَنْبَسِطْ عليهم شعاعُ السعادة، فانطفأ نورُهم بقَهرِ الحرمان، وبقوا في ظلمات القسمة السابقة بحُكْم الشقاوة.
قوله جل ذكره: {وَإِذَا رَأَيْتُهمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيِْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللًّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
أي هم أشباحٌ وقوالبٌ وليس وراءهم ألبابٌ وحقائق- فالجوزُ الفارغُ مُزَيَّنٌ ظاهِرُه ولكنه للعب الصبيان.
{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} وذلك لِجُبْنِهم؛ إذ ليس لهم انتعاشٌ بربِّهم، ولا استقلالٌ بغيرهم.
{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} هم عدوٌّ لك- يا محمد- فاحْذَرْهم، ولا يَغُرَّنْكَ تَبَسُّطُهم في الكلام على وجهِ التودُّدِ والتقرُّب.