فصل: تفسير الآية رقم (42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (42):

{الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)}
الصبرُ الوقوفُ بحسب جريان القضاء، والتوكل التوقي بالله بُحُسْن الرجاء.
ويقال صبروا في الحال، وتوكلوا على الله في تحقيق الآمال.
ويقال الصبر تحسِّي كاساتِ المقدور، والتوكل الثقة في الله في استدفاع المحذور.
ويقال الصبرُ تجرُّعُ ما يُسْقَى، والتوكل الثقة بما يرجو.
ويقال إنما يقوَوْن على الصبر بما حققوا من التوكل.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}
تعجبوا أن يكون من البَشَرِ رُسلاً، فأخبر أنَّ الرسلَ كلّهم كانوا من البشر، وأَنَّ فيمن سبق مَنْ أَقَرَّ بذلك. {أَهْلَ الذِّكْرِ} هم العلماء؛ والعلماء مختلفون: فالعلماءُ بالأحكام إليهم الرجوعُ في الاستفتاء من قِبَل العوام فَمَنْ أُشْكِل عليه شيءٌ من أحكام الأمر والنهي يرجع إلى الفقهاء في أحكام الله، ومن اشتبه عليه شيءٌ من علم السلوك في طريق الله يرجع إلى العارفين بالله، فالفقيه يوقِّع عن الله، والعارف ينطق- في آداب الطلب وأحكام الإرادة وشرائط صحتها- عن الله، فهو كما قيل: أليس حقاً نطقت بين الورى فاشتهرت، كاشفها يعلم ما منَّ عليها فجرت، فهي عناء به عينيه قد طهرت.

.تفسير الآية رقم (44):

{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)}
أي إن البيانَ إليك، فأنت الواسطة بيننا وبينهم، وأنت الأمين على وحينا.

.تفسير الآيات (45- 47):

{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)}
العبدُ في جميع أحواله عُرْضَةٌ لِسِهام التقدير، فينبغي أن يستشعر الخَوفَ في كلِّ نَفَسِ من الإصابة بها، وألاَّ يأمنَ مَكْرَ الله في أي وقت، وأكثر الأسنة تعمل في الموطأةِ نفوسُهم وقلوبُهم على ما عَوَّدهم الحقُّ من عوائد المِنَّة، ولكن كما قيل:
يا راقدَ الليل مسروراً بأَوَّلِه ** إن الحوادثَ قد يَطْرُقْنَ أسحارا

.تفسير الآية رقم (48):

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)}
كل مخلوقٍ من عين أو أثر، مِنْ حَجَر أو مَدَرٍ أو غَبَرٍ فلله- من حيث البرهان- ساجد، ومن حيث البيان على الوحدانية شاهد.

.تفسير الآية رقم (49):

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)}
ذلك سجود شهادة لا سجود عبادة، فإذا امتَنَعَتْ عن إقامة الشهادة لقوم قالةٌ، فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة.

.تفسير الآية رقم (50):

{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)}
يخافون الله أن يُنزلَ عليهم عذاباً من فوق رؤوسهم.
{وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرَونَ} لا يعصونه ولا يحيدون عن طاعته.
ويقال خيرُ شيء للعبد في الدنيا والآخرة الخوفُ؛ إذ يمنعه من الزَّلة ويحمله على الطاعة.

.تفسير الآيات (51- 52):

{وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}
قوله جلّ ذكره: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَينِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
الحاجة إلى إثبات صانعٍ واحد داعية، وما زاد على الواحد (فالا....) فيه متساوية.
ويقال إثبات الواحد ضرورة، وقُدْرَةُ الاثنين محصورة.
قوله جل ذكره: {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ}.
له الدين خالصاً وله الدين دائماً، وله الدينُ ثابتاً، فاطاعة له واجبة، فلا تتقوا غيره، وأطيعوا شَرْعَه بخلاف هواكم، واعبدوه وَحْدَه، واستجيبوا له في المَسَرَّةِ والمَضَرَّة.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)}
قوله جلّ ذكره: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}.
النْعمة ما يُقَرِّبُ العبدَ من الحق، فأمَّا ما لا يوجِب النسيانَ والطغيان، والغفلةَ والعصيانَ فأَوْلَى أن يكون محبة.
ويقال ما للعبد فيه نفع، أو يحصل به للشر منع فهو على أصح القولين نعمة؛ سواء كان دينياً أو دنيوياً، فالعبد مأمورٌ بالشكر على كل حال. وأكثر الناس يشكرون على نعم الإحسان، {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] على كل حال.
وفائدةُ الآيةِ قَطْعُ الأسرارِ عن الأغيار في حالتي اليُسْر والعُسْر، والثقة بأن الخير والشر، والنفع والضر كلاهما من الله تعالى.
قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ}.
إذ ليس لكم سواه؛ فإذا أَظَلَّتْ العبدَ هواجمُ الاضطرار التجأَ إلى الله في استدفاع ما مَسَّه من البلاء ثم إذا مَنَّ الحقُّ عليه، وجاد عليه بكشف بلائه صار كَأَنْ لم يمسه سوءٌ أو أصابه همٌّ كما قيل:
كأنَّ الفتى لم يَعْرَ يوماً إذا اكتسى ** ولم يَكُ صعلوكاً إذا ما تَمَوَّلاَ

.تفسير الآية رقم (54):

{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)}
الخطاب عام، وقوله: {مِّنكُم}: لأنَّ القومَ منهم.

.تفسير الآية رقم (55):

{لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)}
في هذا تهديد أي أنهم سوف يندمون حين لا تنفع لهم ندامةٌ، ويعتذرون حين لا يُقْبَلُ لهم عُذْرٌ.. ومَنْ زَرَعَ شراً فلن يَحْصُدَ إلا جزاءَ عَمَلهِ.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)}
أي يجعلون لما لا يعلمون وهي أصنامهم التي ليس لها استحقاق العلم نصيباً من أرزاقهم؛ فيقولون هذا لهم وهذا لشركائنا.
{تَاللهِ} أقسم إنهم سيلْقَوْن عقوبةَ فِعْلِهم.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)}
من فَرْطِ جهلهم وصفوا المعبودَ بالولد، ثم زاد اللَّهُ في خذلانهم حتى قالوا: الملائكة بنات الله. وكانوا يكرهون البنات، فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم. ويلتحق بهؤلاء في استحقاق الذمِّ كلُّ مَنْ آثر حَظَّ نَفْسِه على حقِّ مولاه، فإِذا فعل مَالُه فيه نصيبٌ وغرضٌ كان مذمومَ الوصف، ملوماً على ما اختاره من الفعل.
ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه وتصفون به من كراهةِ أَنْ تُولَد لهم الإناثُ.

.تفسير الآيات (58- 59):

{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)}
استولت عليهم رؤية الَخْلق، وملكتهم الحيرة، فَلحَقُّوا على البنات مما يلحقهم عند تزويجهن وتمكين البَعْلِ فيهن.... وهذه نتائج الإقامة في أوطان التفرقة، والغيبة عن شهود الحقيقة.
ثم قال: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} أي يحبس المولودَ إذا كان أنثى على مَذَلَّة، {أَمْ يَدُسُّهُ في التُّرَابِ} ليموت؟ وتلك الجفوةُ في أحوالهم جعلَتْ- من قساوة قلوبهم في أحوالهم- العقُوبةَ أشدَّ مما كانت بتعجيلها لهم. وجَعَلَهُم فرطُ غيظهم، وفَقْدُ رضائهم، وشدة حنقهم على من لا ذنبَ له من أولادهم- من أهل النار في دَرَكَاتِ جهنم، وتكدَّر عليهم الوقتُ، واستولت الوحشةُ.... ونعوذ بالله من المَثَلِ السوء!

.تفسير الآيات (60- 61):

{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)}
مَثَلُ السوءِ للكفار الذين جحدوا توحيدَه فلهم صفة السوء.
ولله صفات الجلال ونعوت العِزِّ، ومَنْ عَرَفَه بنعت الإلهية تَمَّتْ سعادتُه في الدارين، وتعجلت راحته، وتنَّزه سِرُّه على الدوام في رياضِ عرفانه، وطَرِبَتْ روحُه أبداً في هيجان وَجْدِه.
أمَّا الذين وُسِمُوا بالشِّركِ ففي عقوبة مُعَجَّلة وهموم مُحَصَّلة. {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ...} أي لو عاملهم بما استحقوا عاجلاً لَحَلَّ الاستئصالُ بهم، ولكنَّ الحُكْمَ سَبَقَ بإمهالهم، وسَيَلْقَوْن غِبَّ أعمالِهم في مآلهم.

.تفسير الآية رقم (62):

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)}
انخدعوا لمَّا لانَ لهم العيشُ، فظنوا أنهم ينجون، وبما يُؤَمِّلونه يحيطون؛ فَحسُنَتْ في أعينهم مقابحُ صفاتهم، ويومَ يُكْشَفَ الغطاءُ عنهم يعضون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة، فلا تسْمَعُ منهم دعوة، ولا تتعلق بأحدهم رحمة.

.تفسير الآية رقم (63):

{تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}
أنزل هذه الآية على جهة التسلية للنبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك أنه أخبر أن مَنْ تَقدَّمَه من الأمم كانوا في سلوك الضلالة، والانخراط في سِلْكِ الجهالة كما كان من قومه، ولكن اللَّهَ- سبحانه- لم يعجز عنهم. وكما سَوَّلَ الشيطانُ لأُمَّتِه، وكان ولياً لهم، فهو وليُّ هؤلاء. وأمَّا المؤمنون فالله وليُّهم، والكافرون لا مَوْلى لهم.

.تفسير الآية رقم (64):

{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}
أنت الواسطة بيننا وبين أوليائنا، ولك البرهان الأعلى والنور الأوفى؛ تُبَلِّغُ عنَّا وتؤدِّي مِنَّا، فأنت رحمةٌ أرسلناك لأوليائنا فَمَنْ تَبِعَكَ اهتدى، ومَنْ عصاك ففي هلاكه سعى.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)}
أحياء بماء التوفيق قلوبَ العابدين فَجَنَحَتْ إلى جانب الوفاق، وأحيا بماء التحقيق أرواح العارفين فاستروحت على بساط الوصال، وأحيا بماء التجريد أسرار الموحدين فتحررت من رِقُ الآثار، وانفردت بحقائق الاتصال.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)}
سَخَّرَها لكم، وهيأها للانتفاع بلحمها وشحمها، وجِلْدِها وشَعْرِها ودَرِّها، وأصلها ونَسْلِها. ثم عجيبٌ ما أظهر من قدرته من إخراج اللبن- مع صفائه وطعمه ونَفْعِه- من بين الروث والدم، وذلك تقدير العزيز العليم. والذي يقدر على حفظ اللبن بين الروث والدم يقدر على حفظ المعرفة بين وحشة الزَّلَّةِ من وجوهها المختلفة.

.تفسير الآية رقم (67):

{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)}
مَنَّ على العباد بما خَلَقَ لهم من فنون الانتفاع بثمرات النخيل كالتمر والرطب واليابس.. وغير ذلك.
والرزق الحسن ما كان حلالاً. ويقال هو ما أتاك من حيث لا تحتسب، ويقال هو الذي لا مِنَّة لمخلوقٍ فيه ولا تَبِعَةَ عليه.
ويقال هو ما لا يعصي الله مكتسبُه في حال اكتسابه.
ويقال هو ما لا يَنْسَى الله فيه مُكْتَسِبُه.

.تفسير الآيات (68- 69):

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
أوحى إلى النحل: أراد به وحي إلهام.. ولما حَفِظَ الأمر وأكل حلالاً، طَابَ مأكلُه وجعل ما يخرج منه شفاءً للناس.
ثم إن الله- سبحانه- عَرَّفَ الخَلْقَ أَنَّ التفصيل ليس من جهة القياس والاستحقاق؛ إذ أن النحلَ ليس له خصوصية في القامة أو الصورة أو الزينة، ومع ذلك جعل منه العَسَلَ الذي هو شفاء للناس.
والإنسان مع كمال صورته، وتمام عقله وفطنته، وما اختص به الأنبياء عليهم السلام والأولياء من الخصائص جعل فيهم من الوحشة ما لا يخفى....فأيُّ فضيلةٍ للنحل؟ وأيُّ ذنبٍ لإنسان؟ ليس ذلك إلا إختياره- سبحانه.
ويقال إن الله- سبحانه- أجرى سُنَّتَه أَنْ يُخْفِيَ كلَّ شيء عزيز في شيءٍ حقير؛ فجعل الإبْرَيَسْمَ في الدود وهو اضعف الحيوانات وجعل العسل في النحل وهو أضعف الطيور، وجعل الدُّرَّ في الصدف وهو أوحش حيوان من حيوانات البحر، وكذلك أودع الذهب والفضة والفيروزج في الحجر , كذلك أودع المعرفة به والمحبة له في قلوب المؤمنين وفيهم من يعصي وفيهم من يخطئ.