فصل: تفسير الآية رقم (111):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (111):

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}
غداً كلٌّ مشغولٌ بنْفسه، ليس له فراغ إلى غيره. وعزيزٌ لا يشتغل بنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان بحالٍ لقي الله بها» إنما يكون الفارغ غداً من كان اليوم فارغاً، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمامٌ بنفسه. والمؤمن لا نَفْسَ له؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111] اشتراها الحقُّ منهم، وأودعها عندهم، فليس لهم فيها حق، وإنما يراعون فيها أمرَ الحق.

.تفسير الآية رقم (112):

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)}
فراغ القلبِ من الاشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر عبدٌ بهذه النعمة بأَن فتح على نَفْسِه بابَ الهوى، وانجرف ففي فساد الشهوة، شَوَّشَ الله عليه قلبه، وسَلَبَه ما كان يَجِدُه من صفاء وقته؛ لأنَّ طوارقَ النفسِ تُوجِبْ غروبَ شوارقِ القلب، وفي الخبر: «إذا أقبل الليلُ من هاهنا أدبر النهارُ من ها هنا» وكذلك القلبُ إذا انقطع عنه معهودُ ما كان الحقُّ أتاحه له أصابه عطَشٌ شديد ولهبٌ عظيم.

.تفسير الآية رقم (113):

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}
كما جاءهم الرسولُ جهراً فإنه تتأدَّى إليهم منْ قِبَل خواطرهم إشاراتٌ تترى، فمَنْ لم يستجِبْ لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق أخذه العذابُ من حيث لا يشعر.

.تفسير الآية رقم (114):

{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)}
الحلالُ الطيبُ ما يتناوله العبدُ على شريطة الإذن بشاهد الذكر على قضية الأدب في ترك الشبهة، وحقيقةُ الشكر على النعمةِ الغيبةُ عن شهودِ النعمة بالاستغراق في شهود المنعِم.

.تفسير الآية رقم (115):

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)}
يُبَاحُ تناولُ المحرماتِ عند هجوم الضرورات حسب بيان الشرع، ولا يُرَخَّصُ في ذلك إلا على أوصاف مخصوصة، وبِقَدْرِ ما يَسُدُّ الرَّمق، كذلك عند استهلاكِ العبدِ بغلبات الحقيقة لابد من رجوعه إلى حال الصحو بقدر ما يؤدى الفرض الواجب عليه، صم لا يُمكّن من التعريج في أَوْطان التفرقة والتمييز بعد مضي أوقات الصحو من أجل أداء الشرع، كما قيل:
فإنْ تَكُ منه غيبة بعد غيبةٍ ** فإنَّ إليه بالوجود إيابي

.تفسير الآيات (116- 117):

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)}
الصدق في كل شيء أَوْلَى من الكذب، وكثيرٌ من أقوالهم في الاعتراض عَيِّناتُ من الكذب.
والصِّدِّيق لا يكذب صريحاً، ولا يتداول أقوال كاذب مهين. وصاحبُ الكذبِ تظهر عليه المذَلَّةُ لما هو فيه من الزّلَّةِ، وله في الآخرة عذاب أليم.

.تفسير الآية رقم (118):

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)}
بيَّن أنه أوضح لِمَنْ تَقَدَّمَ الحلالَ والحرامَ، فمنهم مَنْ أتى بما أُمِرَ به ومنهم مَنْ خالف.. وكلٌّ عُومِل بما استوجبه؛ فمن أطاع قلبُه قرَّبَه، ومَنْ عَصَى رَدَّه وحَجَبَه.

.تفسير الآية رقم (119):

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)}
إذا نَدِمُوا على قبيح ما قَدَّمُوا، وأَسِفُوا على كثيرٍ مما أسلفوا وفيه أسرقوا، ومَحَا صِدْقُ عَبْرَتِهم آثارَ عَثْرَتِهم- نظَرَ اللَّهُ إليهم بالرحمة، فتابَ عليهم إذا أصلحوا، ونجَّاهم إذا تضرَّعوا.

.تفسير الآية رقم (120):

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)}
قيل آمن بالله وحدَه فقام مقام الأمة، وفي التفسير: كان معلِّماً- للخير- لأمةٍ.
ويقال اجتمع فيه من الخصال المحمودة ما يكون في أمةٍ متفرقاً.
ويقال لمَّا قال إبراهيمُ لكلِّ ما رآه: {هَذَا رَبِّى} [الأنعام: 77] ولم ينظر إلى المخلوقات من حيث هي بل كان مُسْتَهْلَكاً في شهودِ الحقِّ، ورأى الكوْنَ كُلَّه بالله، وما ذكر حين ذكر غيرَ الله.. كذلك كان جزاء الحق فقال: أنت الذي تقوم مقام الكلِّي، ففي القيامِ بحق الله منك على الدوام غُنْيةٌ عن الجميع.
والحنيف: المستقيم في الدِّين، أو المائل إلى الحق بالكلية.

.تفسير الآية رقم (121):

{شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)}
الشاكرُ في الحقيقة- مَنْ يرى عَجْزَه عن شكره، ويرى شُكْرَهُ من الله عزَّ وجل، لِتَحَقُّقِه أنه هو الذي خَلَقَه، وهو الذي وَفَقَّه لشكره، وهو الذي رزقه الشكرَ، وهو الذي اجتباه حتى كان بالكلية له- سبحانه.
{وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي تحقَّق بأنه عَبْدُه، وأنه رقَّاه إلى محلِّ الأكابر.

.تفسير الآية رقم (122):

{وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)}
قوله جلّ ذكره: {وَءَاتَيْنَاهُ في الدَّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ في الأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}.
الحسنةُ التي آتاه اللَّهُ هي دوامُ ما آتاه حتى لم تنقطِعْ عنه.
ويقال هي الخلة. ويقال هي النبوة والرسالة.
ويقال آتيناه في الدنيا حسنةً حتى كان لنا بالكلية، ولم تكن فيه لغير بقية.

.تفسير الآية رقم (123):

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}
{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي الكون بالحق، والامتحاء عن شاهد نفسه؛ فكان نبينا- صلى الله عليه وسلم- في اتباعه إبراهيم مؤْتَمِرَاً بأمر الله. وكانت ملةُ إبراهيم- عليه السلام- الخُلُقَ والسخاءَ والإيثارَ والوفاءَ، فاتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم وزاد عليه، فقد زاد على الكافة شأنه، وبانت مَزِيَّتُه.

.تفسير الآية رقم (124):

{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)}
قومٌ حرَّموا العملَ فيه وقومٌ حللوه معصيةً منهم، وقيل جعل الجمعةَ لهم فقالوا: لا نريد إلا يومَ السبت.. فهذا اختلافهم فيه.
والإشارة من ذلك أنهم حادوا عن موجب الأمر، ومالوا إلى جانب هواهم. ثم إنهم لم يراعوها حق رعايتها فصار سبب عصيانهم.

.تفسير الآية رقم (125):

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)}
الدعاءُ إلى سبيل الله بحثِّ الناسِ على طاعةِ الله، وزجرهم عن مخالفة أمر الله. والدعاءُ بالحكمة ألا يخالفَ بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق.
والموعظة الحسنة ما يكون صادراً عن علمٍ وصوابٍ، ولا يكون فيها تعنيف.
{وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هي أَحْسَنُ}: بالحجة الأقوى، والطريقة الأوضح. قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]: فَشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تأمر به، والانتهاء عما تنهي عنه.

.تفسير الآية رقم (126):

{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)}
إذا جرى عليكم ظُلُمٌ من غيرَكم وأردتم الانتقامَ.. فلا تتجاوزُوا حَدَّ الإذنِ بما هو في حكم الشرع.
{وَلَئِن صَبَرْتُمْ}: فتركتم الانتصافَ لأِجْلِ مولاكم فهو خيرُ لكم إِنْ فَعَلْتُمْ ذلك. والأسبابُ التي قد يترك لأجلها المرءُ الانتصافَ مختلفة؛ فمنهم من يترك ذلك طمعاً في الثواب غداً فإنه أوفر وأكثر، ومنهم من يترك ذلك طمعاً في أن يتكفَّل اللَّهُ بخصومه، ومنهم من يترك ذلك لأنه مُكْتَفٍ بعلم الله تعالى بما يجري عليه، ومنهم من يترك ذلك لِكَرَم نَفسِه، وتَحرُّرِه عن الأخطار ولاستحبابه العفوَ عند الظَّفَرِ، ومنهم مَنْ لا يرى لنفسه حقاً، ولا يعتقد أَنَّ لأحدٍ هذا الحق فهو على عقد إرادته بِتَرْكِ نَفْسِه؛ فمِلْكُه مُبَاحٌ ودَمَهُ هَدَر. ومنهم من ينظرإلى خصمه- أي المتسلط عليه- على أنَّ فِعْلَه جزاءٌ على ما عمله هو من مخالفة أمر الله، قال تعالى: {وَمَآ أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فِبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فاشتغاله باستغفاره عن جُرْمِه يمنعه عن انتصافه من خصمه.

.تفسير الآية رقم (127):

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)}
{واصبر} تكليف، {وما صبرك إلا بالله}: تعريف. {واصبر} تحققٌ بالعبودية، {وما صبرك إلا بالله} إخبارٌ عن الربوبية.
{ولا تحزن عليهم...} أي طالِعْ التقدير، فما لا نجعلُ له خطراً عندنا لا ينبغي أن يوجِبَ أثراً فيك، فمَنْ أَسْقَطْنا قَدْرَه فاستَصْغِر أَمْرَه. وإذا عرفتَ انفرادَنا بالإيجادِ فلا يضيق قلبُك بشدّة عداوتهم، فإِنَّا ضَمَنَّا كِفايتَك، وألا نُشْمِتَهم بك، وألا نجعلَ لهم سبيلاً إليك.

.تفسير الآية رقم (128):

{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}
إن الله معهم بالنصرة، ويحيطهم بالإحسان والبسطة.
{الذين اتقوا} رؤيَةَ النصْرةِ مِنْ غيره، والذين هم أصحاب التبري من الحَوْلِ والقوة.
والمحسن الذي يعبد الله كأنه يراه، وهذه حال المشاهدة.

.سورة الإسراء:

.تفسير الآية رقم (1):

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}
افتتح السورةَ بِذِكْرِ الثناء على نَفْسه فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي} [الإسراء: 1]: الحقُّ سبَّحَ نَفْسَه بعزيزِ خطابِه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قَدْرِه، وعن توحُّده بعلوِّ نُعُوتِه.
ولمَّا أراد أَنْ يَعْرفَ العبِادُ خَصَّ به رسولَه- صلى الله عليه وسلم- ليلةَ المعراجِ من عُلوٍّ ما رقَّاه إليه، وعِظَمِ ما لَقَّاه به أَزالَ الأعُجوبةَ بقوله: {أَسْرَى}، ونفى عن نبيِّه خَطَرَ الإعجاب بقوله: {بِعَبْدِهِ}؛ لأَنَّ مَنْ عَرَفَ ألوهيته، واستحقاقَه لكمالِ العِزِّ فلا يُتَعَجَّبُ منه أن يفعل ما يفعل، ومَنْ عرف عبوديةَ نَفْسِه، وأَنَّه لا يَمْلِكُ شيئاً من أمره فلا يُعْجَبُ بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين: نَفَى التعجَّبِ من إظهارِ فِعْلِ اللَّهِ عزَّ وجل، ونفَى الإعجاب في وصف رسول الله عليه السلام.
ويقال أخبر عن موسى عليه السلام- حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة- فقال: {وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143]، وأخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وليس مَنْ جاءَ بنفْسِه كمنْ أَسْرَى به ربُّه، فهذا مُحتَمَلٌ وهذا محمول، هذا بنعت الفَرْقِ وهذا بوصف الجمع، هذا مُرِيدٌ وهذا مُرَادٌ.
ويقال جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد، كما قيل:
ويقال جعل المعراجَ بالليل ليُظْهرَ تصديقَ مَنْ صَدَّقَ، وتكذيبَ مَنْ تعجَّب وكَذَّّبَ أو أنكر وجحد.
ويقال لما كان تعبُّدهُ صلى الله عليه وسلم وتهجُّدُه بالليل جَعَلَ الحقُّ سبحانه المعراجَ بالليلِ.
ويقال:
ليلةُ الوَصْلِ أَصْفَى ** من شهور ودهور سواها.

ويقال أرسله الحقُّ- سبحانه- ليبتعلَّم أهلُ الأرضِ منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماءِ ليتعلَّمَ الملائكةُ منه آدابَ العبادة، قال تعالى في وصفه- صلى الله عليه وسلم-: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]، فما التَفَتَ يميناً وشمالاً، وما طمع في مقامٍ ولا في إكرام؛ تجرَّد عن كلِّ طلبٍ وأَرَبٍ.
قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَآتِنَا}: كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كَشّفٌ بالذات. ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله- سبحانه- شيءٌ في جلالهِ وجماله، وعِزِّه وكبريائه، ومجده وسنائه.
ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عَرَفَ به صلوات الله عليه- أنه ليس أحدٌ من الخلائق مثْلَه في نبوته ورسالته وعلوِّ حالته وجلال رتبته.

.تفسير الآية رقم (2):

{وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)}
أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ نَبِيَّنَا- صلوات الله عليه- كان أوفى- سماعاً-؛ فإنَّ الشمسَ في طلوعها وإشراقها تكون أقربَ ممن طلعت له من حقائقها.