فصل: تفسير الآيات (42- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآيات (42- 43):

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)}
إذا ظَهَرَ خسرانُ مَنْ آثر حظَّه على حقِّ الله، قَرَع بابَ ندامته، ثم لا ينفعه.
ولو قرع باب كَرمِه في الدنيا- حين وقَعتْ له الفترةُ- لأشكاه عند ضرورته، وأنجاه من ورطته.. ولكنه رُبِط بالخذلان، ولُبِّسَ عليه الأمرُ بحُكْمِ الاستدراج.
قوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ}: مَنْ اشْتَهَرَ أمرُهُ بِسُخْطِ السلطانِ عليه لم ينظر إليه أحدٌ من الجُنْدِ والرعية، كذلك مَنْ وَسمَه الحقُّ بكيِّ الهَجْرِ لم يَرْثِ له مَلَكٌ ولا نبيٌّ، ولم يَحْمِه صديقٌ ولا وليٌّ.

.تفسير الآية رقم (44):

{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)}
هو الحقُّ المتفرِّدُ بنعتِ ملكوته، لا يشرك في جلال سلطانه من الحدثان أحداً، وإذا بدا من سلطان الحقيقة شظية فلا دعوى ولا معنى لبشر، ولا وزن فيما هنالك لحدثان ولا خطر، كلاَّ.. بل هو الله الخلاَّق الواحد القهار.
هنالك الوِلاية لله أي القدرة- والواو هنا بالكسر.
وهنالك الوَلاية لله أي النصرة- والواو هنا بالفتح.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)}
منْ وَطَّنَ النَّفْسَ على الدنيا وبهجتها غَرتْه بأمانيها، وخدعته بالأطماع فيها. ثم إنها تُخْفى الصَّابَ في شرابها، والحنظل في عَسَلها، والسرابَ في مآربها؛ تَعِدُ ولا تفي بِعِدَاتِها، وتُوفِي آفاتُها على خيراتها.. نِعمُها مشوبةً بِنِقَمِها، وبؤسُها مصحوبٌ بمأفوسها، وبلاؤها في ضمن عطائها. المغرورُ مَنْ اغترَّ بها، والمغبونُ مَنْ انخدع فيها.

.تفسير الآية رقم (46):

{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)}
قوله جلّ ذكره: {المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
مَنْ اعتضد بعتاده، واغترَّ بأولاده، ونَسيَ مولاه في أوان غَفَلاَتِهِ.. خَسِرَ في حاله، ونَدِمّ على ما فاته في مآله.
ويقال زينةُ أهل الغفلة في الدنيا بالمال والبنين وزينة أهل الوصلة بالأعمال واليقين.. فهؤلاء رُتَبُهم لظواهرهم , وهؤلاء زينتهم لعبوديته، وأفتخارهم بمعرفة ربوبيته.
ويقال ما كان للنَّفْس فيه حُظُّ فهو منزينة الحياة الدنيا، ويدخل في ذلك الجاهُ وقبول المدح، وكذلك تدخل فيه جميع المألوفات والمعهودات على اختلافها وتفاوتها.
ويقال ما كان للإنسان فيه شِرْبٌ ونصيبٌ فهو معلول: إن شئت في عاجله وإن شئت في آجله.
قوله جلّ ذكره: {وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}.
وهي الأعمال التي بشواهد الإخلاص والصدق.
ويقال: {والبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}: ما كان خالصاً لله تعالى غيرَ مُشوب بطمعٍ، ولا مصحوبٍ بِغَرَضٍ.
ويقال: {والبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ}: ما يلوح في السرائر من تحلية العبد بالنعوت، ويفوح نَشْرُه في سماءِ الملكوت.
ويقال هي التي سبقت من الغيب له بالقربة وشريف الزلفة.
ويقال هي ضياءُ شموسِ التوحيد المستكِنِّ في السرائر مما لا يتعرَّضُ لكسوف الحجبة.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}
كما تُسيَّرُ جبالُ الأرض يوم القيامة فإنها تُقْتَلَعَ بموت الأبدال الذين يديم بهم الحقُّ- اليومَ- إمساك الأرض، فهؤلاء السادَة- في الحقيقة- أوتادُ العالَم.
قوله: {فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدَاً}: الإشارة منه أنه ما من أحد إلا ويُسْقَى كأسَ المنية، ولا يغادر الحقُّ أحداً اليوم على البسيطة إلا وينخرط عن نظامه، وإِنَّ شَرَفَهم في الدرجات في تَوَقِّيهم عن مساكنة الدنيا.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}
قوله جلّ ذكره: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً}.
يقيم كُلَّ واحدٍ يومَ العَرْضِ في شاهد مخصوص، ويُلْبِسُ كُلاً مايُؤَهِّله له؛ فَمِنْ لباسِ تقوى، ومن قميصِ هوى، ومن صِدَارِ وَجْدٍ، ومن صُدْرَةِ محبة، ومن رداءِ شوقٍ، ومن حُلَّة وُصْلَة.
ويقال يجرِّدهم عن كل صفة إلا ما عليه نظرهم يوم القيامة وينادي المنادي على أجسادهم: هذا الذي أَتَى وَوَجَدَ، وهذا الذي أَبَى وَجَحَدَ وهذا الذي خالَفَ فأَصَرَّ، وهذا الذي أنعمنا عليه فَشَكَرَ، وهذا الذي أحْسَنَّا إليه فَذَكَرَ. وهذا الذي أسقيناه شرابَنا، ورزقناه محابَّنا، وشَوَّقناه إلى لقائنا، ولَقَّيْنَاه خصائص رِعَائِنا.
وهذا الذي وَسَمْناه بحجتنا، وحرمناه وجُوُهَ قربتنا. وألبسناه نطاق فراقنا، ومنعناه، توفيق وفاقنا، وهذا، وهذا...
واخجلتي من وقوفي وَسْطَ دارِهمُ! ** وقال لي مُغْضَباً: مَنْ أنت يا رجلُ

قوله جلّ ذكره: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداًً}.
جئتمونا بلا شفيعٍ ولا ناصر، ولا مُعينِ ولا مُظاهِر.
قوم يُقال لهم: سلامٌ عليكم.... كيف أنتم؟ وكيف وَجَدَتُم مقيلَكم؟ وكم إلى لقائنا اشتقتم!
وقوم يُقال لهم: ما صنعتُم، وما ضَيَّعْتُم؟ ما قدَّمتُم، وما أخرتم؟ ما أعلنتم، وما أسررتُم؟
قُلْ لي بألسنةِ التنفُّسِ ** كيف أنت وكيف حالك

ويقال يجيب بعضهم عند السؤال فيُفْصِحون عن مكنون قلوبهم، ويشرحون ما هم به من أحوالٍ مع محبوبهم. وأخرون تملكهم الحيرة وتُسْكِتُهم الدهشة، فلا لهم بيان، ولا ينطق عنهم لسان. وآخرون كما قيل:
قالت سكينةُ مَنْ هذا فقلتُ لها: ** أنا الذي أنت ِ من أعدائه زَعمُوا

.تفسير الآية رقم (49):

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)}
قوله جلّ ذكره: {وَوُضِعَ الكِتَابُ فَتَرَى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ}.
إنما يصيبهم ما كُتِبَ في الكتاب الأول وهو المحفوظ، لا ما في الكتاب الذي هو كتاب أعمالهم نَسَخَه ما في اللوح المحفوظ.
ويقال إنْْْ عامَلَ عبداً بما في الكتاب الذي أثبته المَلَكَُ عليه فكثيرٌ من عباده يعاملهم بما في كتاب المَلِكِ- سبحانه، وفرقٌ بين من يُعَامَل بما في كتاب الحقِّ من الرحمة. والشفقة وبين مَنْ يحاسبه بما كَتَبَ عليه المَلَكُ من الزَّلة.
ويقال إذا حسابهم في القيامة يتصور لهم كأنهم في الحال، ما فارقوا الزَّلَة، وإن كانت مباشرةُ الزَّلةِ قد مَضَت عليها سنون كثيرة.
قوله جلّ ذكره: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرَاً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَاً}.
يملك الحزنُ قلبَه لأنه يرى في عمله سيئةٌ فهو في موضع الخجل لتقصيره وإنْ رأى حسنةٍ فهو في موضع الخجل أيضاً لِقِلَّةِ توقيره؛فَخَجْلَةُ أَهلِ الصدقِ عند شهود حسناتهم توفي وتزيد على خجلة أهل الغفلة إذا عثروا على زَلاَّتهم.
ويقال أصحابُ الطاعةِ إذا وجدوا ما قدَّموا من العبادات فمآلهم السرور والبهجة وحياة القلب والراحة، وأمَّا أصحاب المخالفات فإنما يجدون فيما قدَّموا مجاوزة الحدِّ ونقضَ العهْدِ، وما في هذا الباب من الزَّلة وسوء القصد.

.تفسير الآية رقم (50):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}
قوله جلّ ذكره: {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأدم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}.
أظْهَرَ للملائكة شَظِيَّة مما استخلص به آدم فسجدوا بتيسيرٍ من الله- سبحانه، وسَكَّرَ بَصَرَ اللعين فما شهد منه غير الْعَيْنِ ففسق عن أمر ربه، ولا صدق في قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} لمَا فَسَقَ عن الأمر، ولكن أَدركته الشقَّاوة الأصيلة فلم تنفعه الوسيلة بالحيلة.
قوله جلّ ذكره: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلَيَاءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوُّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}.
في الآية إشارة إلى أَنَّ مَنْ يُفْرِدْه بالولاية فلا يقتفي غَيْرَه ولا يخافُ غيرَه.

.تفسير الآية رقم (51):

{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)}
قوله جلّ ذكره: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً}.
أكذب المنجمين والأطباء الذين يتكلمون في الهيئات والطبائع بقوله: {مَّا أَشَهَدتُّهُمْ خَلْقْ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ}: وبّيَّنَ أن ما يقولونه من إِيجاب الطبائع لهذه الكائنات لا أصلَ له في التحقيق.
{وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً}: أي لم أجعل للذين يُضِلُّون الناسَ عن دينهم بِشُبَهِهِمْ في القول بالطبائع حجةً، ولم أعطهم لتصحيح ما يقولونه برهاناً.
ويقال إذا تقاصرت علومُ الخَلق عن العلم بأنفسهم فكيف تحيط علومُهم بحقائق الصمدية، واستحقاقِه لنعوته إلا بمقدار ما يخصُّهم به من التعريف على ما يليق برتبة كل أحد بما جعله له أهلاً؟
ويقال أخبر أَنَّ علومَهم تتقاصر عن الإحاطة بجميع أوصافهم وجميع أحوالهم وعن كُلِّ ما في الكون، ولا سبيلَ لهم إلى ذلك؛ ولا حاجةَ بهم إلى الوقوفَ على ما قَصَرَتْ علومهُم عنه، إذ لا يتعلَّق بذلك شيء من الأمور الدينية. فالإشارة في هذا أن يَصْرِفُوا عنايتَهم إلى طلب العلم بالله وبصفاته وبأحكامه، فإنه لابد لهم- بحكم الديانة- من التحقق بها؛ إذ الواجبُ علىلعابد معرفة معبوده بما يزيل التردد عن قلبه في تفاصيل مسائل الصفات والأحكام.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)}
عِلمَ الحقُّ- سبحانه- أَنَّ الأصنامَ لا تغني ولا تنفع ولا تضر، ولكن يعرِّفهم في العاقبة بما يُصَيِّر معارفَهم ضرورية حَسْماً لأوهام القوم؛ حيث توهموا أنّ عبادتهم للأصنام فيها نوع تقرب إلى الله على وجه التعظيم له كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرْبُونَا إِلَى اللَّه زُلْفَى} [الزمر: 3].
فإذا تحققوا بذلك صدقوا في الندم، وكان استيلاء الحسة عليهم، وذلك من أشد العقوبات لهم.

.تفسير الآية رقم (53):

{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)}
إذا صارت الأوهامُ منقطعة، والمعارفُ َ ضروريةً، والنارُ مُعَاينَةً استيقنوا أنهم واقعون في النار، فلا يُسْمَعُ لهم عُذْرٌ، ولا تنفع له حيلةٌ، ولا تُقْبَلُ فيهم شفاعة، ولا يؤخذ منهم فداء ولا عدل.. لقد استمكنت الخيبةُ، وغَلَبَ اليأسُ، وحَصَلَ القنوط، وهذا هو العذاب الأكبر.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)}
أوضح للكافة الحججَ، ولكن لَبَّسَ على قوم النهج فوقعوا في العِوَج.
{وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شيءٍ جَدَلاً} الجَدَلُ في الله محمود مع أعدائه، والجدل مع الله شِرْكٌ لأنه صَرْفٌ إلى مخالفةٍ تُوهِمُ أن أحداً يعارض التقدير، وتجويزُ ذلك انسلاخ عن الدِّين. ومن أمارات السعادة للمؤمن فَتْحُ بابِ العملِ عليه، وإِغلاقُ بابِ الجدل دونه.

.تفسير الآية رقم (55):

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)}
لا عُذرَ لهم إذا لجأوا إلى ما تعاطوه من العصيان وترْكِ المبادرة إلى المأمور، ولا توفيقَ يساعدهم فيخرجهم عن حوار الداعي إلى عزم الفعل، فَهُمْ- وإن لم يكونوا بنعت الاستطاعة على ما ليسوا يفعلونه- ليسوا عاجزين عن ذلك؛ ولكنهم بحيث لو أن العبدَ منهم أراد ما أُمِرَ به لَتَأَبَّى منه ذلك، وتعذَّر عليه؛ ففي الحال ليس بقادرٍ على ما ليس يفعله ولا هو عاجزٌ عنه، وهذا يسميه القوم حال التخلية وهي واسطة بين القدرة والعجز.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)}
أرسل الرسل- عليهم السلام- تترى، وأَيَّدَهم بالحجج والبراهين، وأمرهم بالإنذار والتخويف، والتشريف في عين التكليف، وتضمين ذلك بالتحقيق، ولكن سَعِدَ قومٌ باتباعهم، وشَقِيَ آخرون بخلافهم.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
لا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكرِّ ووُعِظَ بما لوَّح له من الآيات وبما شاهده وعرفه من أمرٍ أُصْلِحَ أو شُغِل كُفِيَ أو دعاءٍ أُجِيب له، أو سوءِ أدبٍ حصل منه، فأُدِّبَ بما يكون تنبيهاً له، أو حصلت منه طاعة وكوفئ في العاجل إمَّا بمعنى وَجَدَه في قلبه من بَسْطٍ أو حلاوةٍ أو أُنْسِ، وإما بكفاية شُغْلٍ أو إصلاح أمرٍ ثم إذا استقبله أمرٌ نَسِيَ ما عُومل به، أو أعرض عن تَذَكُّرِه، ونَسِيَ ما قَدَّمَتْ يداه من خيره وشرِّه، فوجدَ في الوقت موجبه ومَنْ كانت هذه صِفَتُه جعل على قلبه ستراً وغفلة وقسوة حتى تنقطع عنه بركاتُ ما وُهِبهَ.
ويقال مَنْ أظلم من يستقبله أمرٌ مجازاةً لما أسلفه من تَرْكِ أَرَبِه فَيَتَّهِمُ رَبَّه، ويشكو مِما يلاقيه، وَيْنسَى حُرْمة الذي بسببه أصابه ما أصابه؟ وكما قيل:
وعاجزُ الرأيِ مِضياعٌ لِفُرصته ** حتى إذا فاتَ أمرٌ عَاتَبَ القَدَرَا