فصل: تفسير الآية رقم (75):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (75):

{وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}
بيَّن أنه أدخله في رحمته ثم قال: {إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}؛ فلا محالة مَنْ أدخله في رحمته كان صالحاً.
وقوله: {وَأَدْخَلْنَاهُ في رَحْمَتِنَآ} إخبارٌ عن عين الجمع، وقوله: {إٍنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}: إخبار عن عين الفرق.

.تفسير الآيات (76- 77):

{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}
كان نوح- عليه السلام- أطولَهم عمراً، وأكثرهم بلاءً. ففي القصة أنه كان يُضْرَبُ سبعين مرةً، وكان الرجل الهرم يحمل حفيده إليه ويقول. لا تقبل قولَ هذا الشيخ وكان يوصيه بمخالفته. وكان نوح- عليه- يصبر على مقاساة الأذى، ويدعوهم إلى الله، فلمَّا أيِسَ من إيمانهم، وأُوحِيَ إليه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ} [هود: 36] دعا عليهم فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح: 26] فقال تعالى: {ونوحاً إذ نادى من قبل} فأُزْهِقَ الشِّرْكُ وأغْرِقُ أَهلُه.

.تفسير الآيات (78- 79):

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)}
قوله جل ذكره: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}.
أشركهم في حكم النبوة وإن كان بين درجتيهما تفاوت.. ففي مسألة واحدة اثبت لسليمان- عليه السلام- بها خصوصية؛ إذ مَنَّ عليه بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} ولم يَمُنْ عليه بشيءٍ من المُلْكِ الذي أعطاه بمثل ما منَّ عليه بذلك، وفي هذه المسألة دلالة على تصويب المجتهدين- وإن اختلفوا- إذا كان اختلافُهم في فروع الدِّين، حيث قال: {وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ولمن قال بتصويب أحدهما وتخطئه الآخر فله تعلُّقٌ بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}.
قوله جلّ ذكره: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}.
أمَرَ الجبالَ وسخَّرها لتساعدَ داودَ- عليه السلام- في التسبيح، ففي الأثر، كان داود- عليه السلام- يمرُّ وصُفَاحُ الجبالِ تجاوبه، وكذلك الطيور كانت تساعده عند تأويبه.

.تفسير الآية رقم (80):

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)}
سخَّر الله- سبحانه- لداود الحديد وألانه في يده، فكان ينسج الدروع، قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ} [سبأ: 10] ليتحصن من السهام في الحروب، قال تعالى: {وَقَدِّرْ في السَّرْدِ} [سبأ: 11] وأحْكِمْ الصنعة وأوثِقْ المسامير ولكن لما قصدته سِهامُ التقدير ما أصابت إلا حدقَتَه حين نظر إلى امرأة أوريا- من غيرقصدٍ- فكان ما كان.
ولقد خلا ذلك اليوم، وأغلق على نَفْسه بابَ البيت، وأخذ يصلي ساعةً، ويقرأ التوراة مرةً، والزبور أخرى، حتى يمضي وينتهي ذلك اليوم بالسلامة. وكان قد أُوحِيَ إليه أنَّه يومُ فتنةٍ، فأَمَرَ الحُجَّابَ والبواب ألا يُؤْذَنَ عليه أَحَدٌ، فَوَقَعَ مِنْ كَوَّةِ البيتِ طيرٌ لم يَرَ مِثْلَه في الحُسْنِ، فهَمَّ أَنْ يأخذه، فتَبَاعَدَ ولم يَطِرْ كالمُطْمِعِ له في أخذه، فلم يَزَلْ يستأخر قليلاً قليلاً حتى طار من كوَّةِ البيت، فتبعه داودُ ينظر إليه من الكوة من ورائه، فوقع بصرهُ على امرأة أوريا، وكانت قد تجرَّدَتْ من ثيابها تغتسلُ في بستانٍ خَلْفَ البيتِ الذي به داود، فحَصَلَ في قلبه ما حصل، وأصاب سَهْمُ التقدير حَدَقَتَه، ولم تَنْفَعْهُ صَنْعَةُ اللَّبوسِ التي كان تعلَّمها لِتُحَصِّنَه من بأسه.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)}
سخَّرَ اللَّهُ له الريحَ غُدُوُّها شَهْرٌ ورواحُها شَهْرٌ، ولو أراد أن يزيد في قَدْر مسافتها شِبْراً لما استطاع، تعريفاً بأنه موقوفٌ على حكم التقدير، فشهود التقدير كان يمنعه عن الإعجاب بما أُكْرِمَ به من التسخير، ولقد نبَّه- سبحانه- من حيث الإشارة أن الذي مَلَكَه سليمان كالريح إذا مرَّ وفات، أو أنه لا يَبْقَى باليدِ منه شيء.
وفي القصة أنه لاحَظَ ذلك يوماً فمالت الريح بِبسَاطِه قليلاً، فقال سليمانُ لريحِ: استو.
فقالت له الريح: استو أنت. أي إنما مَيْلِي بِبِسَاطِكَ لميلك بقلبك بملاحظتك فإذا استويتَ أنتَ استويتُ أنا.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)}
إنما كان ذلك أياماً قلائل في الحقبقة. ثم إنه أراد يوماً أن يعودَ إلى مكانه فجاءه مَلَكُ الموتِ فطَالَبَه بروحه، فقال: إليَّ حين أرجع إلى مكاني.
فقال له: لا وجه للتأخير، وقَبضه وهو قائم يتكئ على عصاه وبقي بحالته، ولم تعلم الجِنُّ إلى أنْ أكَلَتْ دابة الأرض- كما في القصة- عصاه، فلما خَرّ سليمان عَلِمَتْ الشياطينُ بموته، وتحققوا أنَّ الذي بالعصا قِيامُه فَقَهْرُ الموت يلحقه.

.تفسير الآيات (83- 84):

{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}
أي واذكر أيوبَ حين نادى ربَّه. وسمِّي أيوب لكثرة إيابه إلى الله في جميع أحواله في السرَّاء والضرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاءِ.
ولم يَقُلْ: ارحمني، بل حَفِظَ أدب الخطايا فقال: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
ومن علامات الولاية أن يكونَ العبدُ محفوظاً عليه وقتُه في أوانِ البلاء.
ويقال إخبارُه عنه أنه قال: {مسني الضر} لم يَسْلُبْه اسمَ الصبرِ حيث أخبر عنه سبحانه بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص: 44] لأنَّ الغالبَ كان من أحواله الصبر، فنادِرُ قالتِه لم يَسْلبْ عنه الغالِبَ من حالته. والإشارة من هذا إلى أنَّ الغالبَ من حال المؤمن المعرفةُ، أو الإيمانُ بالله فهو الذي يستغرقُ جميعَ أوقاته، ولا يخلو منه لحظةً؛ ونادِرُ زلاَّتِهِ- مع دائمِ إيمانِه- لا يُزَاحِمُ الوصفَ الغالب.
ويقال؛ لمَّا لم يكن قوله: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} على وجه الاعتراض على التقدير- بل كان على وجه إظهار العجز- فلم يكن ذلك مُنافياً لصفة الصبر.
ويقال: استخرج منه هذا القولَ ليكونَ فيه مُتنفسٌ للضعفاء في هذه الأمة حتى غذا ضَجَّوا في حالِ البلاء لم يكن ذلك منافياً لصفة الصبر.
ويقال لم يكن هذا القولُ منه على جهة الشكوى، وإنما كان من حيث الشكر {أنِّى مَسَّنىَ الضُّرُّ} الذي تخصُّ به أولياءك، ولولا أنك أرحم الراحمين لَمَا خصصتني بهذا، ولكن برحمتك أهَّلْتني لهذا.
ويقال لم يكن هذا القولُ من أيوب ولكنه استغاثةُ البلاء منه، فلم يُطِقْ البلاءُ صُحْبَتَه فضجَّ منه البلاءُ لا أيوبُ ضَجَّ من البلاء.....وفي معناه أنشدوا.
صابَرَ الصبرَ فاستغاثَ به الصبرُ ** فصاح المحبُّ بالصبر صبرا

ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة، ومعناه: أيمسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين؟ كما قال: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ} [الشعراء: 22] أي أتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل؟
ويقال إن جبريلَ- عليه السلام- أتى أيوبَ فقال: لِمَ تسكت؟ فقال: ماذا أصنع؟ فقال: إن الله سيان عنده بلاؤك وشفاؤك.... فاسأل الله العافيةَ فقال أيوب: {أني مسني الضر} فقال تعالى: {فكشفنا ما به من ضر} [الأنبياء: 84] والفاء تقتضي التعقيب، فكأنه قال: فعافيناه في الوقت. وكأنه قال: يا أيوب، لو طلبتَ العافيةَ قبل هذا لاستَجْبْنَا لك.
ويقال سقطت دودةٌ كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوبُ ووضعها على موضعها، فعقرته عقرةً عِيلَ صَبْرُه فقال: مسني الضر، فقيل له: يا أيوب: أتصبر معنا؟ لولا أني ضربتُ تحت كل شَعْرَةٍ من شعراتك كذا خيمة من الصبر..... ما صَبَرْتَ ساعةً!
ويقال كانت الدودات التي تأكل منه أكلت ما عَلاَ بَدَنَه، فلم يَبْقَ منه إلا لسانهُ وقلبه، فصعدت دودوة إلى لسانه، وأخرى إلى قلبه فقال: {مَسَّنِى الضُّرُّ}.... فلم يبق لي إلا لسانٌ به اذكرك، أو قلبٌ به أعرفك، وإذا لم يَبْقَ أو لي ذلك فلا يمكنني أن أعيش وأصبر!
ويقال استعجمت عليه جهةُ البلاء فلم يعلم أن يصيبه بذلك تطهيراً أو تأديباً أو تعذيباً أو تقريباً أو تخصيصاً أو تمحيصاً.
..... وكذلك كانت صحبته.
ويقال قيل لأيوب عليه السلام سَلْ العافية فقال:
عِشْتُ في النِّعم سبعين سنة فحتى يأتي عليَّ سبعون سنة في البلاء..... وعندئذٍ أسأل الله العافية!
وقيل لمَّا كَشَفَ الله عنه البلاء قيل له: ما أشدُّ ما لقيتَ في أيام البلاء؟ فقال شماتة الأعداء.
وفي القصة أن تلامذة أيوب كسروا أقلامهم، وحرَّقوا ماكتبوه عنه وقالوا: لو كان لك عند الله منزلةٌ لمَا ابْتلاكَ بكل هذا البلاء!
وقيل لم يبقَ معه إلا زوجُه، وكانت من أولاد يوسف النبي عليه السلام، فهي التي بقيت معه وكانت تخدمه وتتعهده.
ويقال إنما بقيت تلك المرأة معه لأنها كانت من أهل البلاء من آل يعقوب- عليه السلام.
وقيل إنما قال: مسني الضرُّ لمَّا قال لها الشيطان: إنْ أردتِ أنْ يَشْفَى مريضُكِ فاسجدي لي، ولم تعلم أنه إبليس لأنه ظَهَرَ لها في صورة إنسان، فأخبرت أيوبَ بذلك فقال عندذٍ: {مَسَّنْىَ الضُّرُّ}.
ويقال لمَّا ظهر به البلاءُ اجتمع قومُه وقالوا لها: أخْرِجي هذا المريضَ من قريتنا، فإننا نخاف العَدْوَى وأنْ يَمَسَّنَا بلاؤه، وأنْ تُعْدَى إلينا عِلَّتُه، فأخْرَجَتْه إلى باب القرية فقالو: إنا إذا أصبحنا وقعت أبصارُنا عليه، فنتشاءم به، فأبْعِديه عن أبصارنا، فحملَتْه إلى أرضٍ قَفْرٍ، وكانت تدخل البلد، وتُسْتَأْجَر للخَبْزِ والعمل في الدور، فتأخذ الأجرة وتحملها إليه، فلما عَلِموا أنَّها امرأتُه استقذروها ولم يستعلموها.
ويقال إنها كانت ذات ذوائب وقرون، وكان أيوب يأخذ بذوائبها عند نهوضه، فباعت ذوائبها برغيفٍ أخذته لتحمله إليه، فوسوس له الشيطان بأنها فعلت الفحشاء، وأن شعرها جُزَّ في ذلك فَحَلَفَ أيوبُ أنْ يَجْلِدَها إذا صحَّ حَدْسًه، وكانت المحنةُ على قلبِ تلك المرأة أشَدَّ مما على بَدَنِ أيوب من كل المحن.
وقيل إن امرأته غَابَتْ ودخلَتْ البلدَ، فعافى اللَّهُ أيوبَ عليه السلام، وعاد شاباً طرياً كما قال في قصته قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص: 42] فلما رحعت امرأته ولم تَرَه حسبت أنه أكله سَبْعٌ أو أصابته آفةٌ، فأخذت تبكي وتولول، فقال لها أيوب- وهي لم تعرفه لأنه عاد صحيحاً- مالَكِ يا امرأة؟
قالت: كان لي هاهنا مريض فَفَقَدْته. فقال لها أيوب: أنا ذاك الذي تطلبينه!
وفي بعض الأخبار المروية أنه بقي في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات.
وقيل تعرَّضَ له إبليسُ فقال: إنْ أردتَ العافيةَ فاسجُدْ لي سجدةً، فقال: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ}.
ويقال إن أيوب- عليه السلام- كان مُكَاشَفَاً بالحقيقة، مأخوذاً عنه، فكان لا يُحِسُّ بالبلاء، فَسَتَرَ عليه مرةً، ورَدَّه إليه، فقال: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ}.
ويقال أَدْخَلَ على أيوب تلك الحالة، واستخرج منه هذه القالة ليظهر عليه إقامة العبودية.
ويقال أوحى الله إلى أيوب- عليه السلام- أنَّ هذا البلاء اختاره سبعون نبياً قَبْلَكَ فما اخْتَرْتُه إلا لَكَ، فلمَّا أراد كَشْفَه عنه قال: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ}.
وقيل كوشف بمعنىً من المعاني فلم يَجِدْ أَلَمَ البلاء فقال: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} لِفَقْدِي ألَمْ الضُّرِّ.
وقال جعفر الصادق: حَبَسَ عنه الوحيَ أربعين يوماً فقال: {مَسَّنِىَ الضُّرُّ} لما لِحَقَه من الضعف بقيام الطاعة فاستجاب إليه بأنْ ردَّ عليه قُوَّتَه ليقوم بحقِّ الطاعة.
ويقال طلب الزيادةَ في الرضا فاستُجِيبَ له بكَشْفِ ما كان به من ضعف الرضا.
ويقال إن الضرَّ الذي شكا منه أنه بقيت عليه بقية، وبليته كانت ببقيته، فلمَّا أُخِذَ عنه بالكلية زال البلاء، ولهذا قال: {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} [الأنبياء: 84] وكانت نَفْسُه ضُرَّه، ورَدَّ عليه السلامةَ والعافية والأمل- في الظاهر- لمَّا صار مأخوذاً بالكلية عنه، مُنْقَّىً عن كل بقية، وعند ذلك يستوي البلاء والعافية، والوجود والفقد.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)}
أي واذكر هؤلاء الأنبياء ثم قال: {كُلٌ مِّنَ الصَّابِرِينَ}.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}
بيَّنَ الحُكْمَ والمعنى؛ الحكمُ صبرُهم وصلاحُهم، والمعنى إدخالُه إياهم في الرحمة.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}
{مُغَاضِباً}: على مَلِكِ وقته حيث اختاره للنبوة، وسأله: لِمَ اخترتَني؟ فقال: لقد أوْحَى اللَّهُ إلى نَبِي: أنْ قُلْ لفلانِ المَلِك حتى يختار واحداً لِيُرْسَلَ إلى نينوى بالرسالة. فَثَقُلَ على ذي النون لما اختارَه المَلِكُ، لأن علم أن النبوةَ مقرونةٌ بالبلاء، فكان غضبُه عليه لذلك.
ويقال مغاضباً على قومه لمَّا امتنعوا عن الإيمان وخرج من بينهم.
ويقال مغاضباً على نفسه أي شديد المخالفة لهواه، وشديداً على أعداء الدين من مُخَالِفيه.
{فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} أي أنْ لن نُضَيِّقَ عليه بطن الحوت، ومن قوله: {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أي ضيَّق.
ويقال فظنَّ أن لن نقدر عليه من حَبْسِه في بَطْنِ الحوت.
وخرج من بين قومه لَمَّا أُخْبِرَ بأنَّ الله يُعَذِّب قومَه، وخرج بأهله.
ويقال إن السبعَ افترس أهله في الطريق، وأخذ النَّمِرُ ابناً صغيراً له كان معه، وجاء موج البحر فأغرق ابنَه الآخر، وركب السفينة، واضطرب البحر، وتلاطمت أمواجُه، وأشرفَتْ السفينةُ على الغرق، وأخذ الناسُ في إلقاء الأمتعة في البحرتخفيفاً عن السفينة، وطلباً لسلامتها من الغَرَقِ، فقال لهم يونس: لا تُلْقُوا أمْتِعَتَكم في البحر بل أطرحوني فيه فأنا المجرم فيما بينكم لتخلصوا. فنظروا إليه وقالوا: نرى عليكَ سيماء الصلاح، وليست تسمح نفوسُنا بإلقائك في البحر، فقال تعالى مخبراً عنه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] أي فقارعهم، فاستهموا، فوقعت القُرْعَةُ عليه.
وفي القصة أنه أتى حَرْفَ السفينة، وكان الحوتُ فاغراً فاه، فجاء إلى الجانب الآخر فجاء الحوت إليه كذلك، حتى جاز كل جانب. ثم لمَّا عَلِمَ أنه مُرَادٌ بالبلاء ألقى نَفْسَه في الماء فابتلعه الحوت: {وهو مليم}: أي أتى بما يُلام عليه، قال تعالى: {فَالَتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142].
وأوحى الله إلى السمك: لا تَخْدِشْ منه لَحْماً ولا تَكْسِرْ منه عَظْماً، فهو وديعةٌ عندك وليس بِطُعْمَةٍ لك. فَبَقِي في بطنه- كما في القصة- أربعين يوماً.
وقيل إن السمك الذي ابتلعه أُمِرَ بأن يطوف في البحر، وخلق الله له إدراك ما في البحر، وكان ينظر إلى ذلك.
ويقال إن يونس عليه السلام صَحِبَ الحوتَ أياماً قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظَنُّكَ بِعَبْدٍ عَبَدَه- سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طولَ عمره.... ترى أيبطل هذا؟ لا يُظَنُّ بِكَرَمِهِ ذلك!
{فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ} يقال ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت- هذا بيان التفسير، ويحتمل أن تكون الظلمات ما التبس عليه من وقته واستبهم عليه من حاله.