فصل: تفسير الآية رقم (19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (19):

{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا}.
التبسُّمُ من الملوكِ يندر لمراعاتهم حُكْمَ السياسة، وذلك يدلُّ على رضاهم واستحسانهم لما منه يحصل التبسُّم، فلقد استحسن سليمان من كبير النمل حُسْنَ سياسته لرعيته.
وفي القصة أنه استعرض جُنْدَه ليراهم كم هم، فَعَرَضَهم عليه، وكانوا يأتون فوجاً فوجاً، حتى مضى شَهْرٌ وسليمان واقفٌ ينظر إليهم مُعْتَبِراً فلم ينتهوا، ومَرَّ سليمانُ عليه السلام.
وفي القصة: أن عظيم النمل كان مثل البغل في عِظَمِ الجثة، وله خرطوم. والله أعلم.
قوله جلّ ذكره: {رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضاهُ}.
في ذلك دليلٌ على أن نَظَرَه إليهم كان نَظَرَ اعتبارٍ، وأنه رأى تعريفَ الله إِياه ذلك، وتنبيهُه عليه من جملة نِعَمِه التي يجب عليها الشكرُ.
وفي قوله: {وَعَلَى وَالِدَىَّ} دليلٌ على أَنَّ شُكْرَ الشاكر لله لا يختص بما أَنْعَمَ به عليه على الخصوص، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خَصَّ وَعَمَّ من نِعَمِه.
قوله جلّ ذكره: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.
سأل حُسْنَ العاقبة. لأنَّ الصالحَ من عباده مَنْ هو مختوم له بالسعادة.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)}
تَطَلّبَه فَلَمَّا لم يَرَه تَعَرَّف ما سبب تأخره وغيبته.
ودلَّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته، حيث لم تَخْفَ عليه غيبةُ طيرٍ هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعةً واحدةً. وهذا أحسن ما قيل.
ثم تَهَدَّدَه إن لم يكن له عُذْرٌ بعذاب شديدٍ، وذلك يدلُّ على كمال سياسته وعَدْلِه في مملكته.
وقال قومٌ إنما عَرَفَ أن الهدهد يعرف أعماقَ الماء بإلهام خُصَّ به، وأنَّ سليمان كان قد نزل منزلاً ليس به ماء، فطلبَ الهدهد ليهديَهم إلى مواضع الماء، وهذا ممكن؛ لأن في الهدهد كَثْرَةً. وغيبةُ واحدةٍ منها لا يحصل منها خَلَلٌ- اللهم إلاّ إِنْ كان ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة مواضع وأعماق الماء.....والله أعلم.
وروي أن ابن عباس سُئِلَ عن ذلك، وأنه قيل له: إنْ كان الهدهدُ يرى الماءَ تحت الترابِ ويعرفه فكيف لا يرى الفَخَّ مخفيّاً تحت التراب؟
فقال: إذا جاء القضاء عَمِيَ البصر.
ويقال: إن الطير كانت تقف فوق رأس سليمان مُصْطَفّةً، وكانت تستر انبساط الشمس وشعاعها بأجنحتها، فوقع شعاعُ الشمسِ على الأرض، فنظر سليمانُ فرأى موضع الهدهد خالياً منه، فَعَرَفَ بذلك غَيْبَته.. وهذا أيضاً ممكن، ويدل على كمال تَفَقُّدِه، وكمال تَيَقُّظِه- كما ذكرنا.

.تفسير الآية رقم (21):

{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)}
في هذه الآية دليل على مقدار الجُرْمِ، وأنه لا عِبْرَةَ بصغر الجثة وعِظَمِها. وفيه دليل على أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف، ولا يبعد الآن أن يكون عليها شَرْعٌ، وأَنَّ لهم من الله إلهاماً وإعلاماً؛ وإِن كان لا يُعْرَفُ ذلك على وجه القَطْع.
وتعيين ذلك العذاب الشديدِ غيرُ ممكنٍ قطعاً، إلا تجويزاً واحتمالاً.
وعلى هذه الطريقة يَحْتَمِلُ كلَّ ما قيل فيه.
ويمكن أن يقال فإن وُجِدَ في شيءٍ نَقْلٌ فهو مُتَّبَعٌ.
وقد قيل هو نَتْفُ ريُشه وإلقاؤه في الشمس.
وقيل يفرِّق بينه وبين أليفه.
وقيل يشتِّت عليه وقتَه.
وقيل يُلْزِمُه خدمة أقرانه.
والأَولى في هذا أن يقال من العذاب الشديد كيت وكيت، وألا يُقْطَعَ بشيءٍ دون غيره على وجه القطع.
فَمِنَ العذاب الشديد أن يُمْنَعَ حلاوة الخدمة فيجد أَلَمَ المشقة. ومن ذلك أن يقطع عنه حُسْنُ التولي لشأْنه ويوكَلَ إلى حَوْلِهِ ونَفْسِه، ومن ذلك أن يُمْتَحَنَ بالحِرْصِ في الطلب ثم يحال بينه وبين مقصوده ومطلوبه. ومن العذاب الشديد الطمع في اسم العذر ثم لا يرتفع ومن ذلك سَلْبُ القناعة. ومنه عَدَمُ الرضا بما يجري. ومن ذلك توهم الحدثان وحسبان شيءٍ من الخَلْق.
ومن ذلك الحاجة إلى الأَخٍسَّةِ من الناس. ومن ذلك ذُلُّ السؤال مع الغفلة عن شهود التقدير. ومن ذلك صحبة الأضداد والابتلاء بمعاشرتهم. ومن ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر. ومن ذلك التباس طريق الرُّشد. ومنه حسبان الباطل بصفة الحق. والتباس الحقِّ في صورة الباطل. ومنه أن يطالب بما لا تتسع له ذات يده. ومنه الفقر في الغُرْبة.

.تفسير الآية رقم (22):

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)}
فلم يلبث الهدهدُ أن جاء، وعََلِمَ أن سليمانَ قد تَهدَّدَه، فقال: أَحَطْتُ علماً بما هو عليك خافٍ، {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}.
ثم ذكر حديث بلقيس، وأنها ملكتهم، وأن لها من المالِ والمُلْكِ والسرير العظيم ما عَدَّه، فلم يتغير سليمانُ- عليه السلام- لذلك، ولم يستفزّه الطمع فيما سَمِعَ عن هذا كما يحدث من عادة الملوك في الطمع في مُلِكِ غيرهم، فلما قال:

.تفسير الآية رقم (24):

{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)}
فعند ذلك غَاظَ هذا سليمانَ، وغَضِبَ في الله، و:

.تفسير الآية رقم (27):

{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)}
وفي هذا دلالة على أن خَبَرَ الواحدِ لا يوجِب العلمَ فيجب التوقفُ فيه على حدِّ التجويز، وفيه دلالة على أنه لا يُطْرَح بل يجب أن يُتَعَرَّفَ: هل هو صدق أم كذب؟
ولمَّا عَرَفَ سليمان هذا العُذْرَ تَرَكَ عقوبتَه وما تَوَعَّدَه به وكذلك سبيلُ الوالي؛ فإنَّ عَدْلَه يمنعه من الحيفِ على رعيته، ويَقْبَلُ عُذْرَ مَنْ وَجَدَهُ في صورة المجرمين إذا صَدَقَ في اعتذاره.

.تفسير الآية رقم (28):

{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)}
في الآية إشارة إلى أنه لا ينبغي للإنسان أن يذكر بين يدي الملوك كلَّ كلمة، فإنه يَجُرُّ العناءَ بذلك إلى نَفْسه؛ وقد كان لسليمان من الخَدَمِ والحَشَم ومَنْ يأتمر بأمره الكثير، ولكنه لم يستعمل واحداً في هذا التكليف إلا الهدهد لأنه هو الذي قال ما قال، فلزمه الخروج من عهدة ما قال.
ويقال لمَّا صَدَقَ فيما أخبر لِمَلِكهِ عُوِّضَ عليه فَأُهِّلَ للسفارة والرسالة- على ضعف صورته.
فمضى الهدهد، وألقى الكتاب إليها كما أُمِرَ، وانتحى إلى جانبٍ ينتظر ماذا يفعلون وبماذا يُجَاب.

.تفسير الآيات (29- 31):

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}
{كِتَابٌ كَرِيمٌ} الكَرَمُ نَفْيُ الدناءة، وقيل لأنه كان مختوماً، وقيل لأنَّ الرسولُ كان طيراً؛ فَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ تكون الطيرُ مُسَخَّرة لَهُ لابد أنه عظيمُ الشأنِ. وقيل لأنه كان مُصَدَّراً ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل لأنه كتب فيه اسم نَفْسِه أولاً ولم يَقُلْ: إنه من سليمان إلى فلانة. ويقال لم يكن في الكتاب ذكر الطمع في المُلْكِ بل كان دُعَاءً إلى الله: {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ}.
ويقال أَخَذَ الكتابُ بمجامع قلبها، وقَهَرَها؛ فلم يكن لها جواب، فقالت، {إِنِّى أُلْقِىَ إِلّىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} فلمَّا عَرَفَتْ قَدْرَ الكتابِ وصلت باحترامها إلى بقاء مُلكِها، ورُزِقَتْ الإسلامَ وصُحْبَةً سليمان.
ويقال إذا كان الكتابُ كريماً لما فيه من آية التسمية فالكريمُ من الصلاة ما لا يتجرَّدُ عن التسمية. وإذا تجرَّدت كان الأمرُ فيها بالعكس.

.تفسير الآية رقم (32):

{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)}
أَخَذَتْ في المشاورة كما تقتضيه الحال في الأمور العظام؛ فإن المَلِكَ لا ينبغي أن يكون مستبداً برأيه، ويجب أن يكون له قومٌ من أهل الرأي والبصيرة.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)}
أجابوا على شرط الأدب، وقالوا: ليس منا إِلاّ بَذْلُ الوسع، وليس لنا إِلاّ إظهارُ النُّصح وما علينا إلا متابعةُ الأمر- وتمشيةُ الأمرِ وإمضاؤه إليكِ.

.تفسير الآية رقم (34):

{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)}
ويقال إِنَّ: {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} مِنْ قوْلِها.
ويقال: تغييرُ الملوك إذا دخلوا قريةً- عن صفتها- معلومٌ، ثم يُنْظَر فإن كان الداخِلُ عادلاً أزال سُنَّةَ الجَوْرِ، وأثبت سُنَّةَ العَدْلِ، وإِنْ كان الداخلُ جائراً أزال الحَسَنَ وأثبت الباطلَ. هذا معلوم؛ فإنَّ خرابَ البلادِ بولاةِ السُّوءِ، حيث يستولي أسافلُ الناس وأَسقاطُهم على الأعزة منهم، وكما قيل:
يا دولة ليس فيها ** من المعالي شظيهْ

زولى فما أنتِ إِلاّ ** عل الكرام بليهْ

وعمارة الدنيا بولاة الرُّشْدِ، يكسرون رقابَ الغاغة، ويُخَلِّصُون الكرامَ من أَسْرِ السِّفْلة، (ويأخذ القوس باريها)، وتطلع شمسُ العدل من برج شرفها.....كذلك المعرفةُ والخصالُ المحمودة إذا باشَرَتْ قلبَ عبدٍ أخرجت عنه الشهواتِ والمُنى، وسفاسفَ الأخلاقِ من الحقد والحسد والشُّحِّ وصِغَرِ الهمة وغير ذلك من الأوصاف الذميمة وتُثْبِتُ بَدَلَها من الأحوال العَلِيَّةِ والأوصاف المَرْضِيَّةِ ما به نظامُ العبد وتمامُ سعادته. ومتى استولت على قلبٍ غاغةُ النَّفسِ والخصالُ المذمومة أزالت عنه عمارته، وأَبْطَلَتْ نضارتَه، فتخرب أوطانُ الحقائق، وتتداعى مساكنُ الأوصاف الحميدة للأفوال، وعند ذلك، يَعْظُم البلاءُ وتتراكم المِحَنُ.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
جاء في القصة أنها بعثت إلى سليمانَ بهدايا، ومن جملتها لَبِنَةٌ مصنوعةٌ من الفضة وأخرى من الذهب. وأن اللَّهَ أخبر سليمانَ بذلك، وأوحى إليه في معناه. وأمَرَ سليمانُ الشياطينَ حتى بَنَوْا بساحة منزله ميداناً، وأمرهم أن يفرشوا الميدان بهيئة اللَّبنِ المصنوعِ من الذهب والفضة من أوله إلى آخره. وأَمَرَ بأن توقف الدوابُّ على ذلك وألا تُنَظَّفَ آثارُها من رَوْثٍ وغيره، وأن يُتْرَكَ موضعان لِلَبِنَتَيْنِ خالِيَيْن في ممرِّ الدخول. وأقبل رُسُلُها، وكانت معهم اللبنتان ملفوفتين، فلمَّا رَأَوْا الأمر، ووقعت أبصارُهم على طريقهم، صَغُرَ في أعينهم ما كان معهم، وخَجِلوا من تقديم ذلك إلى سليمان ووقعوا في الفكرة كيف يتخلصون مما معهم؟. فلمَّا رأوا موضع اللَّبنَتَيْن فارغا ظنُّوا أن ذلك سُرِق من بينها، فقالوا لو أظهرنا نُسِبْنا إلى أنَّا سرقناهما من هذا الموضع، فطرحاهما في الموضع الخالي، ودَخَلاَ على سليمان.

.تفسير الآيات (36- 37):

{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)}
أتهدونني مالاً؟ وهل مثلي يُسْتَمالُ بمثل هذه الأفعال؟ إنكم وأمثالكم تعامِلُون بمثل ما عوملتم! ارجع إليهم:-
{ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
فلمَّا رجعوا إلى بلقيس، وأخبروها بما شاهدوا وسمعوا علمت أنه لا وَجْه لها سوى الاستسلام والطاعة، فَعَزَمَتْ على المسير إلى خدمته، وأوحى الله إلى سليمان بذلك، وأنها خرجت مستسلمةً، فقال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا}.

.تفسير الآيات (38- 39):

{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)}
بسط اللَّهُ- سبحانه- مُلْكَ سليمان، وكان في مُلْكِه الجِنُّ والإِنسُ والشياطين؛ الجن على جهة التسخير، والإنس على حكم الطوع، والشياطين وكانوا على أقسام.
ولمَّا قال: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} قال عفريت من الجن- وكان أقواهم- {أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌ أَمِينٌ}، فلم يرغب سليمانُ في قوله لأنه بَنَى القولَ فيه على دعوى قُوَّتِه.

.تفسير الآية رقم (40):

{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
{الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ} (قيل هو آصف) وكان صاحب كرامة. وكراماتُ الأولياءِ مُلْتَحِقَةٌ بمعجزات الأنبياء، إذ لو لم يكن النبيُّ صادقاً في نبوته لم تكن الكرامة تظهر على من يُصَدِّقه ويكون من جملة أمته.
ومعلومٌ أنه لا يكون في وُسْعِ البَشَرِ الإتيانُ بالعرش بهذه السرعة، وأن ذلك لا يحصل إلا بخصائص قدرة الله تعالى. وقَطْعُ المسافة البعيدة في لحظةٍ لا يصح تقديره في الجواز إلا بأحد وجهين: إمَّا بأن يُقَدِّم اللَّهُ المسافةَ بين العرش وبين منزل سليمان، وإمَّا بأن يعدم العرش ثم يعيده في الوقت الثاني بحضرة سليمان. وأيُّ واحدٍ من القسمين كان- لم يكن إلاّ من قِبَل الله، فالذي كان عنده علم من الكتاب دعا الله- سبحانه- واستجاب له في ذلك، وأحضر العرش، وأمر سليمان حتى غَيَّرَ صورته فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وأثبته على تركيبٍ آخر غير ما كان عليه.
ولمّا رأى سليمان ذلك أخذ في الشكر لله- سبحانه- والاعتراف بِعِظمِ نِعَمِه، والاستيحاء، والتواضع له، وقال: {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّى}: لا باستحقاقٍ مني، ولا باستطاعةٍ من غيري، بل أحمد النعمةَ لربِّي حيث جعل في قومي ومِنْ أمتي مَنْ له الجاهُ عنده فاستجاب دعاءَه.
وحقيقةُ الشكرِ- على لسان العلماء- الاعترافُ بنعمة المُنْعِم على جهة الخضوع. والأحسنُ أن يقال الشكرُ هو الثناءُ على المُحْسِنِ بِذِكْرِ إحسانه، فيدخل في هذا شكرُ اللَّهِ للعبد لأنه ثناءٌ منه على العبد بذكر إحسان العبد، وشكرُ العبد ثناءٌ على الله بذكر إحسانه ,إلاّ أَنَّ إحسان الحقِّ هو إنعامُه، وإحسانُ العبد طاعتُه وخدمتُه لله، وما هو الحميد من أفعاله.
فأمَّا على طريقِ أهل المعاملة وبيان الإشارة: فالشكرُ صَرْفُ النعمة في وجه الخدمة.
ويقال الشكر أَلاَّ تستعينَ بنعمته على معاصيه.
ويقال الشكر شهودُ المنعِم من غير مساكنةٍ إلى النعمة.
ويقال الشكر رؤية العجز عن الشكر.
ويقال أعظمُ الشكرِ الشكرُ على توفيق الشكر.
ويقال الشكر على قسمين: شكر العوام على شهود المزيد، قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وشكر الخواص يكون مجرداً عن طلب المزيد، غيرَ متعرض لمنال العِوَض.
ويقال حقيقةُ الشكرِ قيد النعم وارتباطها؛ لأَنَّ بالشكر بقاءَها ودوامَها.