فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (30):

{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)}
قوله جلّ ذكره: {فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ مِن شَطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ في الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن...} الآية.
أخفى تعيين قَدَم موسى على الظنون بهذا الخطاب حيث قال: {من شاطئ الواد الأيمن}، ثم قال: {في البقعة المباركة} ثم قال: {من الشجرة}.
وأخْلِقْ بأن تكون تلك البقعة مباركة، فعندها سَمِعَ خطابَ مولاه بلا واسطة؛ وأعِزُّ الأماكنِ في العالمِ مَشْهَدُ الأحباب:
وإني لأهوى الدارَ ما يستعزني ** لها الود إلا أنها من دياركا

ويقال كم قَدَمٍ وَطَئَتْ لك البقعة، ولكن لم يسمع أصحابُها بها شيئاً!.. وكم ليلةٍ جَنَّت تلك البقعة ولم يظهر من تلك النار فيها شعلة!.
ويقال: شتَّان بين شجرة وشجرة؛ شجرة آدم عندها ظهور محنتِه وفتنتِه، وشجرة موسى وعندها افتتاح نُبُوَّتِه ورسالتِه!.
ويقالك لم يأتِ بالتفصيل نوعُ تلك الشجرة، ولا يُدْرَى ما الذي كانت تثمره، بل هي شجرة الوصلة؛ وثمرتها القربة، وأصلُها في أرض المحبة وفَرْعُها باسِقٌ في سماء الصفوة، وأوراقها الزلفة، وأزهارها تَنْفَتِقُ عن نسيم الرَّوْح والبهجة:
فلمَّا سمع موسى تغيَّر عليه الحال؛ ففي القصة: أنه غُشِي عليه، وأرسل اللَّهُ إليه الملائكة لِيُرِّوحوه بمراوح الأُنْس، وهذا كان في ابتداء الأمر، والمبتدئ مرفوقٌ به. وفي المرة الأخرى خرَّ موسى صَعِقاً، وكان يفيق والملائكة تقوله له: يا ابن الحيض. أمثالك مَنْ يسأل الرؤية؟!.
وكذا الحديث والقصة؛ في البداية لُطْفٌ وفي النهاية عُنْفٌ، في الأولِ خَتْل وفي الآخرِ قَتْل، كما قيل:
فلمَّا دارت الصهباءُ ** دعا بالنَّطع والسيفِ

كذا مَنْ يشرب الراح ** مع التِّنِّين في الصيفِ

.تفسير الآية رقم (31):

{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31)}
قوله جلّ ذكره: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ}.
يا موسى.. اخْلَعْ نعليكَ وألقِ عصاك، وأقِمْ عندنا هذه الليلة، فلقد تَعِبْتَ في الطريق- وذلك إن لم يكن في النقل والآثار فهو مما يليق بتلك الحال.
يا موسى.. كيف كُنْتَ في الطريق؟ كيف صَعَّدْتَ وكيف صوَّبت وكيف شرَّقْتَ وكيف غَرَّبْتَ؟ ما كنتَ في الطريق وحدَك يا موسى! أحصَيْنا خُطَاكَ- فقد أحصينا كلَّ شيءٍ عَدَداً. يا موسى.. تعِبْتَ فاسترحْ، وبعد ما جِئْتَ فلا تَبْرَحْ- كذلك العبدُ غداً إذا قطع المسافةَ في القيامةِ، وتبوَّأَ مَنْزِلَه من الجنة؛ فأقوامٌ إذا دخلوها رجعوا إلى منازلهم ثم يوم اللقاء يستحضرون، وآخرون يمضون من الطريق إلى بساط الزلفة، وكذا العبد أو الخادم إذا دَخَلَ بَلَدَ سلطانِه. يبتدئ أولاً بخدمة الشُّدَّةِ العَلِيَّةِ ثم بعدها ينصرف إلى منزله. وكذلك أمرنا؛ إذا أصبحنا كلَّ يوم: ألا نشتغِلَ بشيءٍ حتى نَفْتَتِحَ النهارَ بالخطاب مع الحقِّ قبل أن نخاطِبَ المخلوق، نحضر بساط الخدمة- أي الصلاة- بل نحضر بساط الدنوِّ والقربة، قال تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب} [العلق: 19]: فالمُصَلِّي مُنَاج رَبَّه. ولو عَلِمَ المُصَلِّي مَن يناجي ما التفت؛ أي لم يخرج عن صلاته ولم يلتفت يميناً ولا شمالا في التسليم الذي هو التحليل.
قوله جل ذكره: {فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُ كَأَنَّهَا جَآنٌ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ}.
عندما انقلبت العصا حَيَّةً وَلَّى موسى مُدْبِراً ولم يعقب، وكان موضع ذلك أن يقول: حديثٌ أَوَّلُه تسليطُ ثعبان! مَنْ ذا يُطِيقُ أوَّلَه؟!.
فقيل له: لا تَخَفْ يا موسى؛ إن الذي يَقْدِرُ أَنْ يَقْلِبَ العصا حيةً أن يَخْلُقَ لك منها السلامة: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الأَمِنِينَ}: ليس المقصودُ مِنْ هذا أنت، إنما أثبت هذا لأسلطَه على عدوِّك، فهذه معجزتُك إلى قومك، وآيتُك على عودِّك.
ويقال: شتان بين نبيِّنا- صلى الله عليه وسلم- وبين موسى عليه السلام؛ رجع من سماع الخطاب وأتي بثعبان سَلّطَه على عدوِّه، ونبينا- صلى الله عليه وسلم- رجع بعد ما أُسْرِيَ به إلى السماء، وأوحى إليه ما أوحى- لِيُوَافِيَ أُمَّتَه بالصلاة التي هي المناجاة، وقيل له: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين».

.تفسير الآية رقم (32):

{اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)}
قيل له: اسلُكْ يَدَكَ في جيبك، لأنَّ المدرعةَ التي كانت عليه لم يكن لها كُم. وفي هذا إِشارة إلى أنه ينبغي على المرء للوصول إلى مراده ومقصوده أن يتشمَّر، وأن يجِدَّ، وأن يُخْرجَ يَدَه من كُمِّه. وأنه قال لموسى: أدْخِلْ يَدَكَ في جيبك تخرج بيضاءَ، وألق عصاكَ نجعلْها ثعباناً، بلا ضَرْبِكَ بها، وبلا استعمالِك لها يا موسى: الأمرُ بِنَا لا بِكَ، وأنا لا أنت.
{وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}: يا موسى، في وصف خضوعك تَجِدني، وبتبرِّيكَ عن حَوْلِكَ وَقُوَّتِك تَصِل إليَّ.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)}
تَعلَّلَ بكلِّ وجهٍ رَجَاءَ أن يُعَافَى من مشقةِ التبليغ ومقاساةِ البلاءِ؛ لأنه عَلِمَ أنَّ النبوةَ فيها مَشَقّةٌ، فلم يَجِدْ الرُّخصةَ والإعفاءَ مِمَّا كُلِّفَ، وأجاب سُؤْلَه في أخيه حيث سأله أنْ يجعلَ له رِدْءاً، وضمن لهما النصرة.
ثم إنهما لَمَّا أتَيَا فرعونَ قابلهما بالتكذيب والجحد، ورماهما بالخطأ والكذب والسحر، وجاوباه بالحجة، ودَعَوَاه إِلى سَوَاءِ المحجَّة، فأَبَى إِلاَّ الْجَحْدَ.

.تفسير الآية رقم (38):

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)}
ادَّعى الانفرادَ بالإلهية فزاد في ضلالِه على عَبَدَةِ الأصنام الذين جعلوا أصنامَهم شركاءَ، ثم قال لهامان: {ابْن لي صَرْحاً لعلِّي أطلع إِلى إله موسى} وكان هذا من زيادة ضلاله، حيث تَوَهَّم أن المعبودَ من جهة فوق، وأنه يمكن الوصول إليه. ولعمري لو كان في جهةٍ لأمكن تقدير الوصول إليه وتجويزه!.

.تفسير الآيات (39- 40):

{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)}
أبَى إِلا أنْ يدومَ جحودُه، وعُنوده، فأغرقه اللَّهُ في البحرِ، كما أغرق قلبَه في بحر الكُفْر.

.تفسير الآية رقم (41):

{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)}
لا لِشَرَفِهم جعلهم أئمة ولكن لسبب تَلَقِهم قَدَّمَهم في الخزي والهوان على كلِّ أمة، ولكن لم يُرْشدُوا إِلاَّ إلى الضلال. ولم يَدُلُّوا الخَلْقَ إِلاّ على المُحَال، وما حصلوا إلا على سوءِ الحال، وما ذاقوا إلا خِزْيَ الوبال. أفاضوا على مُتَّبِعهم من ظلمات قلوبهم فافتضحوا في خِسَّةِ مطلوبهم.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)}
كانوا في الدينا مُبْعَدين عن معرفته، وفي الآخرة مُبْعَدين عن مغفرته، فانقلبوا من طَرْدٍ إلى طرد، ومن هَجْرٍ إلى بُعْدٍ، ومن فراقٍ إلى احتراقٍ.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}
إنما تطيب المنازلُ إذا خَلَتْ من الأجانب، وأطيبُ المساكنِ ما كانت زينتُها بِفَقْدِ الرُّقباءِ وغَيْبَتِهم، فلمّا أهلك اللَّهُ فرعونَ وقومَه، وأورث بني إسرائيلَ أموالَهم وديارَهم، ومحا عن جميعِها آثارَهم- طابَ لهم العيشُ وطَلَعَتْ عليهم شموسُ السعادة.

.تفسير الآية رقم (44):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}
لم تكن حاضراً فتعرف ذلك مشاهدةً، ولكنهم رأوا انَّ إخبارَك عنهم بحيث لا يكذبك كتابُهم، وبالضرورة عرفوا حالَكَ، وكيف أنّك لم تَعْلَمْ هذا من أحدٍ، ولا قَرَأْتَه من كتاب، لأَنّكَ أُمِّيٌّ لا تُحْسِنُ القراءة، وإذاً فليس إخبارُكَ إلا بتعريفنا إياك، وإطلاعنا لَكَ على ذلك.
ويقال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ}: وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى، وكَلَّمْنَاه، وخاطبناه في بابِكَ وبابِ أُمَّتِكَ، ولم تقدح غَيْبَتُكُم في الحال، وكَوْني لكم خيرٌ من كَوْنِكم لكم.
ويقال: لمَّا خَاطَبَ موسى وكَلَّمَه سأله موسى:؛ إِنَّي أرى في التوراة أُمَّةً صفتهم كذا وكذا.. مَنْ هم؟ وسأل عن أوصاف كثيرة، وعن الجميع كان يُجابُ بأنِّها أمة أحمد، فاشتاق موسى إلى لقائنا، فقال له: إنه ليس اليومَ وقتُ ظهورِهم، فإِنْ شئْتَ أَسمعتُكَ كلامَهم، فأراد أن يسمعَ كلامنا، فنادانا وقال: يا أمةَ أحمد...، فأجاب الكلُّ من أصلاب آبائهم، فَسمِعَ موسى كلامَهم ولم يُدْرِكْهُم. والغنيُّ إذا سأله فقيرٌ وأجابه لا يرضى بأن يردَّه من غير إحسان إليه. (وفي رواية عن ابن عباس) أن الله قال: «يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، ورحمتكم قبل أن تسترحموني».
قوله جلّ ذكره: {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أُهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسلِينَ}.
ومما كان موسى عليه السلام يتلوه عليهم من الآيات ذِكْرُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم بالجميل. وذكر أمته بحسن الثناء عليهم، فنحن في الوجود مُحْدَثٌ مخلوقٌ وفي ذكره متعلق لا باستفتاح. ولم نكن في العَدَم أعياناً، ولا أشياء، ولكنا كنا في متعلق القدرة ومتناول العلم والمشيئة. وذكرنا في الخطاب الأزليّ، والكلام الصمديّ والقول الأبديّ.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}
ما طلبه موسى لأمته جعلناه لأمتك، وكما نادينا موسى- وهو في الوجود والظهور- ناديناكم وأنتم في كتم العَدَمِ، أنشدوا:
كُنْ لي كما كُنْتَ ** في حالِ لم أكُنِ

.تفسير الآيات (47- 48):

{وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)}
تمنوا في زمانِ الفترة أن يبعث اللَّهُ إليهم رسولاً ليهتدوا به، ووعدوا من أنفسِهم الإيمانَ والإجابة، فلمَّا أتاهم الرسولُ كذَبوه، وقالوا: هلاّ خُصَّ بمثل معجزات موسى في الظهور، وكان ذلك منهم خطأ، واقتراحاً في غير موضع الحاجة، وتَحكُّماً بعد إزاحة العِلّةِ:
وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً ** مَلَّ الوصالَ وقال كان وكانا

ثم قال: أفلا تَذْكُرُون كيف كفروا بموسى وأخيه ورموهما بالسحر؟
وقال: إنْ ارتبتم أنَّ هذا الكتاب من عند الله فَأْتوا بكتابٍ مِثْلِه، واستعينوا بشركائكم. ومِنْ وقته إلى يومنا هذا لم يأتِ أحدٌ بسورة مِثْلِه، وإلى القيامة لا يأتون بكتابٍ مثله.

.تفسير الآيات (51- 55):

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}
قوله جلّ ذكره: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
أتبعنا رسولاً بعد رسول، وأردفنا كتاباً بعد كتاب، فما ازدادوا إلا كفراً وثبوراً، وجحداً وعتواً فلا إلى الحقِّ رجعوا، ولا إلى الاستقامة جنحوا.
قوله جلّ ذكره: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ}.
مَنْ أكحلنا بصيرتهم بنور الهداية صَدَّقوا بمقتضى مساعدة العناية، ومَنْ أعميناه عن شهود التحقيق ولم تساعده لطائف التوفيق انتكس في غوايته، وانهمك في ضَلالته.
قوله جلّ ذكره: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوآ ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحقُّ مِن رَّبِّنَآ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ}.
إذا سمعوا دعوتنا قابلوها بالتصديق، وانقادوا بِحُسْنِ الاستسلام، فلا جَرَمَ يُؤْتَوْن أجرَهم مرتين بما صبروا على الأوامر وصبروا على المحارم في عاجلهم وآجالهم، مرةً في الآخرة وهي المثوبة وأخرى في الدنيا وهي لطائف القربة.
قوله جلّ ذكره: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ}.
{اللَّغْوَ}: ما يُلْهِي عن الله. ويقال: {اللَّغْوَ} ما لا يوجِب وسيلةً عند الله، ويقال ما لا يكون بالحقِّ للحقِّ، ويقال هو ما صَدَرَ عن قلبٍ غافلٍ، ويقال هو ما يوجِب سماعُه السَّهو.