فصل: تفسير الآية رقم (152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (152):

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)}
قوله جلّ ذكره: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ في الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّنْ بَعْدِ مَا أرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ}.
(إنه سبحانه يجازيك على استنصارك به، ويقال كل من استنصرت به احتجت إلى أن تعطيه شيئاً من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك، فإذا استنصرته- سبحانه- يعطيك كل لطيفة، ولا يرضى بألا ينصرك).
الإشارة من هذه الآية إلى أن الحق سبحانه أقام أولياءه بحق حقه، وأقعدهم عن تحصيل حظوظهم، وقام سبحانه بكفايتهم بكل وجه، فمن لازم طريق الاستقامة، ولم يزغ عن حدِّه ولم يُزغْ في عهده، فإنه سبحانه يصدق وعده له بجميل الكفاية ودوامها، ومن ضلّ عن الاستقامة- ولو خطوة- عثر في مشيته، واضطربت عليه- بمقدار جُرْمه- حاله وكفايته، فمن زَادَ زِيدَ له، ومن نَقَصَ نُقِصَ له.
قوله جلّ ذكره: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤمِنِينَ}.
قيمة كل أحدٍ إرادته؛ فَمَنْ كانت همتُه الدنيا فقيمتُه خسيسةٌ حقيرة كالدنيا، ومن كانت همتُه الآخرة فشريفٌ خطره، ومن كانت همتُه ربانية فهو سيد وقته.
ويقال مَنْ صفا عن إرادته وصل إليه، ومن وصل إليه أقبل- بلطفه- عليه، وأزلفه بمحل الخصوصية لديه.
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ}: الإشارة منه أنه صرف قوماً عنه فشغلهم بغيره عنه، وآخرون صرفهم عن كل غير فأفردهم له؛ فالزاهدون صرفهم عن الدنيا، والعابدون صرفهم عن اتباع الهوى، والمريدون صرفهم عن المنى، والموحِّدون صرفهم عما هو غيرٌ وسوى.

.تفسير الآيات (153- 154):

{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)}
قوله: {إِذْ تُصْعِدُونَ} الإشارة من هذه الآية لأقوام تقع لهم فترة، ودواعي الحق سبحانه- من أنفسهم، ومن جميع الأقطار حتى كأنّ الأحجارَ من الشوارع واللَّبِنَ من الجدران- تناديه: لا تفعل يا عبد الله! وهو مُصِرٌّ في ليِّه، مقيمٌ على غيِّه، جاحد لِمَا يعلم أنه هو الأحقُّ والأولى من حاله، فإذا قضى وطره واستوفى بهمته، فلا محالة يمسك من إرسال عنانه، ويقف عن ركضه في ميدانه، فلا يحصل إلا على أنفاس متصاعدة، وحسراتٍ متواترة؛ فأورثه الحقُّ- سبحانه- وحشةً على وحشة. حتى إذا طال في التحسُّر مقامه تداركه الحق- سبحانه- بجميل لطفه، وأقبل عليه بحسن عطفه، وأنقذه من ضيق أسره، ونقله إلى سعة عفوه وفضله، وكثيرٌ مِنْ هؤلاء يصلون إلى محل الأكابر ثم يقفون بالله لله (....) ويقومون بالله لله بلا انتظار تقريب ولا ملاحظة ترحيب.
قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ}: فأهل التحقيق والتوحيد يصلون بعد فتراتهم إلى القول بتَرْكِ أنفسهم، وغَسلِ أيديهم منهم، ورفع قلوبهم عنهم فيعيشون بالله لله، بلا ملاحظة طمع وطلبة، بل على عقيدة اليأس عن كل شيء. عليه أكّدُوا العهد، وبدَّلُوا اللحظ، وتركوا كل نصيب وحظ، وهذه صفة مَنْ أنزل عليه الأمَنةَ.
فأمَّا الطائفة التي أهمتهم أنفسهم- فبقوا في وحشة نفوسهم، ومِنْ عاجل عقوبتهم سوءُ عقيدتهم في الطريقة بعد إيمانهم بها؛ قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
والإشارة في قوله تعالى: {هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ شَئ} لهؤلاء أنهم يتحيَّرون في أمرهم فلا إقبال لهم على الصواب بالحقيقة، ولا إعراض بالكلية، يحيلون فترتهم على سوء اختيارهم، ويضيفون صفوة- لو كانت لقلوبهم- إلى اجتهادهم، وينسَوْن ربَّهم في الحالين، فلا يبصرون تقدير الحق سبحانه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}: فَمَنْ عَرَفَ أن المنشئ الله انسلخ عن اختياره وأحواله كانسلاخ الشَّعْرِ عن العجين، وسَلَّمَ أموره إلى الله بالكلية. وأمارة مَنْ تحقق بذلك أن يستريح من كدِّ تدبيره، ويعيش في سعة شهود تقديره.
وقوله: {يُخْفُونَ في أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ}: لم يُخْلِصُوا في عقائدهم، وأضمروا خلاف ما أظهروا وأعلنوا غير ما ستروا، وأحالوا الكائنات على أسبابٍ توهموها.
قال تعالى: {قُلْ لَّوْ كُنتُم في بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
أخبر أن التقدير لا يُزَاحَم، والقَدَر لا يُكابَرَ، وأن الكائناتِ محتومة، وأن الله غالب على أمره.
وقوله: {وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا في صُدُورِكُمْ}: فأمّا أهل الحقائق فإنه تعالى ينتزع من قلوبهم كل آفةٍ وحجبة، ويستخلص أسرارهم بالإقبال والزلفة، فتصبح قلوبهم خالصةً من الشوائب، صافيةً عن العلائق، منفردةً للحق، مجرَّدَةً عن الخلق، مُحَرَّرة عن الحظِّ والنَّفْس، ظاهرةً عليها آثارُ الإقبال، غالباً عليها حُسْنُ التَوَلِّي، باديةً فيها أنوارُ التجلي.

.تفسير الآية رقم (155):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)}
الإشارة من هذه الآية إلى أحوال من سَقِمَتْ إرادتُهم، وضَعُفَتِ نِيَّاتُهم، وقادهم الهوى، ومَلَكَتهُم الفترة.
قابَلَهم نصحُ الناصحين، ودعوة المنى، ووساوس الشياطين فركنوا إلى الغيبة، وآثروا الهوى على التُّقَى فبقوا عنه، ولم يتهنَّوا بما آثروه عليه.

.تفسير الآية رقم (156):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}
مَنْ تعوَّد أن يتلهف على ماضيه وسالفه، أو يتدبر في مستقبله وآنِفِه، فأقلُّ عقوبة له ضيق قلبه في تفرقة الهموم، وامتحاء نعت الحياة عن قلبه لغفلته وقالته ليت كذا ولعلَّ كذا، وثمرةُ الفكرة في ليت ولعلَّ- الوحشةُ والحسرةُ وضيق القلبِ والتفرقة.

.تفسير الآيات (157- 158):

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)}
بذل الروح في الله خير من الحياة بغير الله، والرجوع إلى الله خير لمن عرف الله من البقاء مع غير الله، وما يؤثره العبدُ على الله فغير مبارك، إنْ شِئتَ: والدنيا، وإنْ شِئْتَ: والعقبى.
قوله: {وَلَئِن مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ}: إذا كان المصير إلى الله طاب المسيرُ إلى الله: وإنَّ سَفْرةً إليه بعدها نَحُطُّ رِحَالَنا لَمُقَاسَاتُها أحلى من العسل!.

.تفسير الآية رقم (159):

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)}
جرَّده عن أوصاف البشرية، وأفرده بما ألبسه من نعت الربوبية، وأخبر أن ما يلوح إليه فمن أنوار التولي، لا من آثار الوفاق والتبري، ولولا أنه استخلقه بما ألبسه وإلا متى كان بتلك الصفة؟!
ويقال إن من خصائص رحمته- سبحانه- عليه أنْ قَوّاه حتى صَحِبَهُم، وصبر على تبليغ الرسالة إليهم، وعلى ما كان يقاسيه من اختلافهم- مع سلطان ما كان مستغرقاً له ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه، فلولا قوة إلهية لستأثره الحق بها وإلا متى أطلق صحبتهم؟!
ألا ترى إلى موسى عليه السلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه كيف لم يصبر على مخاطبة أخيه فأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه؟
ويقال لولا أنه صلى الله عليه وسلم شاهدهم محواً فيما كان يَجْرِي عليهم من أحكام التصريف، وتحقَّق أن منشئها الله- لما أطاق صحبتهم.
قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}: لو سَقْيتَهم صِرْفَ شراب التوحيدِ غيرَ ممزوجٍ بما فيه لهم حظٌّ لتفرقوا عنك، هائمين على وجوههم، غير مطيقين للوقوف لحظةً، {فَاعْفُ عَنْهُمْ} فيما يكون تقصيراً منهم في حقك وتوقيرك، وما عثرت عليه مِنْ تفريطهم في خدمتنا وطاعتنا- فانتصِبْ لهم شفيعاً إلينا.
ويقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} فاعف- أنت- عنهم فإن حكمك حكمُنا، فأنت لا تعفو إلا وقد عَفَوْنا، ثم ردَّه عن هذه الصفة بما أثبته في مقام العبودية، ونقله إلى وصف التفرقة فقال: ثم قِفْ في محل التذلل مبتهلاً إلينا في استغفارهم. وكذا سُنَّتُه- سبحانه- مع أنبيائه عليهم السلام وأوليائه، يردُّهم مِنْ جمعٍ إلى فرقٍ ومن فَرْقٍ إلى جمع، فقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} جمع، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لهُمْ} فرق.
ويقال: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} وتجاوز عنهم في حقوقك، ولا تكتفِ بذلك ما لم تستغفِرْ لهم إكمالاً للكرم؛ ولهذا كان يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
ويقال ما يُقصِّرون في حقِّك تعلَّق به حقَّان: حقك وحقي، فإذا عفوتَ أنت فلا يكفي هذا القَدْرُ بل إنْ لَمْ أتجاوز عنهم في حقي كانوا مستوجبين للعقوبة؛ فمن أرضى خصمَه لا يَنْجَبِر حالُه ما لم يغفر الله له فيما ترك من أمره.
وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ} أي أثْبِتْ لهم محلاً؛ فإنَّ المعفوَ عنه في صدار الخجلة لا يرى لنفسه مقام الكَرامة، فإذا شاورتَهم أزَلْت عنهم انكسارهم، وطيَّبْتَ لهم قلوبهم.
ويقال تجَنَّسوا في أحوالهم: فَمِنْ مُقَصِّر في حقه أُمِرَ بالعفو عنه، ومن مرتكب لذنوبه أُمِرَ بالاستغفار له، ومن مطيعٍ غير مقصرٍ أُمِرَ بمشاورته.
ثم قال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} أي لا تتكل على رأي مخلوق وكِلْ الأمور إليّ، فإنا لا نخليك عن تصريف القبض بحالٍ.
وحقيقة التوكل شهود التقدير، واستراحة القلوب عن كد التدبير.
{إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} يذيقهم بَرْدَ الكفاية ليزول عنهم كل لغبٍ ونَصَبٍ، وإنه يعامل كلاً بما يستوجبه؛ فقومٌ يغنيهم- عند توكلهم- بعطائه، وآخرون يكفيهم- عند توكلهم- بلقائه، وقوم يرضيهم في عموم أحوالهم حتى يكتفون ببقائه، ويقفون معه به له- على تلوينات قَدَرِه وقضائه.

.تفسير الآية رقم (160):

{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}
المؤمنون نصرته لهم بالتوفيق للأشباح ثم بالتحقيق للأرواح.
ويقال ينصركم الله بتأييد الظواهر وتسديد السرائر.
ويقال للنصرة إنما تكون على العدو، وأعدى عدوك نَفْسُكَ التي بين جنبيك. والنصرة على النَّفْس بأن تهزم دواعي مُنَّتِها بعواصم رحمته حتى تَنْفَضَّ جنود الشهوات بهجوم وفود المنازلات فتبقى الولاية لله خالصةً من شبهات الدواعي التي هي أوصاف البشرية، وشهوات النفوس وأمانيها، التي هي آثارالحجبة وموانع القربة.
{وَإِن يَخْذُلْكُمْ} الخذلان التخلية مع المعاصي، فَمَنْ نَصَرَه قبض على يديه عن تعاطي المكروه، ومن خَذَلَه أَلقى حَبْله على غاربه، وَوَكَلَه إلى سوء اختياره، فيفترق عليه الحال في أودية الشهوات، فمرة يُشَرِّق غير محتشِم، وتارة يُغَرِّب غير مُحترِم، ألا ومن سبَّبه الحق فلا آخذ بيده، ومن أسلمه فلا مجيرَ له.
{وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ}: في وجدان الأمان عند صدق الابتهال، وإسبال ثوب العفو على هناة الجُرْم عند خلوص الالتجاء، بالتبري من المنَّة والحول.
ويقال لما كان حديث النصرة قال: {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ}، ولما كان حديث الخذلان لم يقل فلا ناصر لكم بل قال بالتلويح والرمز: {فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُمْ مِّن بَعْدِهِ}: وفي هذا لطيفةٌ في مراعاة دقائق أحكام الخطاب.

.تفسير الآية رقم (161):

{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)}
نزَّه أحوال الأنبياء عن الدَّنَس بالخيانات، فمن حَمَّلْنَاه من الرسالة إلى عبادنا يوصلها إلى مستحقيها واجباً، ولا يعتني بشأنِ حميمٍ له مِنْ دون أمرنا، ولا يمنع نصيب أحدٍ أمرناه بإيصاله إليه، بحقدٍ ينطوي عليه. ألا ترى كيف قال: اذْهب فوارِه لأبي طالب لمَّا قال له أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: مات عمُّك الضال. وكيف قَبِلَ الوحشي قاتِلَ حمزة لمَّا أسلم؟
ويقال ما كان لنبي من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يضل أسرارنا في غير أهلها، بل يُنْزِلون كل أحدٍ عندما يستوجبه، وفي الأثر «أُمِرْنَا أن نُنْزِلَ الناسَ منازلهم».

.تفسير الآيات (162- 163):

{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}
لا يستوي مَنْ رضي عنه في آزاله ومَنْ سخط عليه فخذله في أحواله، وجعله متكلاً على أعماله، ناسياً لشهود أفضاله، واتباع الرضوان بمفارقة زُجِر عنه، ومعانقة ما أُمِرَ به، فَمَنْ تجرَّد عن المزجور، وتجلَّد في اعتناق المأمور فقد اتبع الرضوان، واستوجب الجنان.
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ}: أي هم أصحاب درجات في حكم الله، فَمِنْ سعيدٍ مُقَرَّب، ومِنْ شَقِيٍّ مُبْعَد.