فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (30):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
هذا ابتداء إظهار سِرِّه في آدم وذريته. أَمَرَ حتى سلَّ من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينه أربعين صباحاً، وكل واحد من الملائكة يفضي العَجَبَ: ما حكم هذه الطينة؟ فلمَّا ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها في بديع الصنعة وعجيب الحكمة، فحين قال: {إِنِّى جَاعِلٌ في الأَرْضِ} تَرَجَّمَتْ الظنون، وتقسَّمت القلوب، وتجنَّت الأقاويل، وكان كما قيل:
وكم أبصرتُ من حسن ولكن ** عليك من الورى وقع اختياري

ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يَقُلْ في شأن شيء منه ما قال في حديث آدم حيث قال: {إِنِّى جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً}، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة لو كان من المخلوقين. والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل إني خالق عرشاً أو جنة أو مَلَكاً، وإنما قال تشريفاً وتخصيصاً لآدم إني جاعل في الأرض خليفة.
فصل:
ولم يكن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حَمْلَ الخطاب على ما يُوجِب تنزيه الملائكة أَوْلى لأنهم معصومون.. قال تعالى: {لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6].
ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنَّ في قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب؛ فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}. ثم إن الحق سبحانه عرَّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمُّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلاً وأقدمه، وآدم كان أكثر علماً وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته.
ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال: {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، مِنْ غفراني لهم.
ويقال: في تسبيحهم إظهارُ فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم، ومن غفرانه لمعاصي بني آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته، والحق سبحانه غني عن طاعات كل مطيع، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه.
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم في محبتنا، وذكاء سرائرهم في حفظ عهودنا وإن تدنَّس بالعصيان ظاهرهم، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ ** جاءت محاسنُه بأَلْفِ شفيع

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من محبتي لهم، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفي عليهم أسراري فيهم، وفي معناه أنشدوا:
ما حطَّك الواشون عن رتبة ** عندي ولا ضرك مغتاب

كأنهم أثْنَوْا- ولم يعلموا- ** عليك عندي بالذي عابوا

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم، وصولةَ قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم، فأنتم في رتبة وفاقكم وفي عصمة أفعالكم، وفي تجميل تسبيحكم، وهم مُنْكَرون عن شواهدهم، متذللون بقلوبهم، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماماً قوياً.
ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلي، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوي؟ ويقال لبَّسْتُكم طاعتكم ولبستهم رحمتي، فأنتم في صدار طاعتكم وفي حُلَّةِ تقديسكم وتسبيحكم، وهم في تغمد عفوي وفي ستر رحمتي ألبستهم ثوب كَرَمي، وجللتهم رداء عفوي.
ويقال إن أسعدتكم عصمتي فلقد أدركتهم رحمتي.
وإيصال عصمتي بكم عنده وجودكم وتعلُّق رحمتي بهم في أزلي.
ويقال: لئن كان مُحسِنْكم عتيق العصمة فإن مجرمَهُم غريق الرحمة.
ويقال: اتكالهم عليَّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
عموم قوله الأسماء يقتضي الاستغراق، واقتران قوله سبحانه بكُلها يوجب الشمول والتحقيق، وكما علّمه أسماء المخلوقات كلها- على ما نطق به تفسير ابن عباس وغيره- علَّمه أسماء الحق سبحانه، ولكن إنما أظهر لهم محل تخصصه في علمه أسماءالمخلوقات وبذلك المقدار بأن رجحانه عليهم، فأما انفراده بمعرفة أسمائه- سبحانه- فذلك سِرٌّ لم يَطَّلِع عليه مَلَكٌ مُقَرَّب. ومن ليس له رتبة مساواة آدم في معرفة أسماء المخلوقات فأي طمعٍ في مداناته في أسماء الحق، ووقوفه على أسرار الغيب؟
وإذا كان التخصيص بمعرفة أسماء المخلوقات يتقضى أن يصحَّ (به سجود) الملائكة فما الظن بالتخصيص بمعرفة أسماء الحق سبحانه؟ ما الذي يُوجَبُ لِمَنْ أُكْرِمَ به؟
ويقال خصوصية الملائكة بالتسبيح والتقديس وهذه طاعات تليق بالمخلوقين؛ فإنَّ الطاعةَ سِمَةُ العبيد ولا تتعداهم، والعلم في الجملة صفة مدح يجب في نعت الحق سبحانه واجباً لا يصحُّ لغيره، فالذي يُكْرِمهُ بما يتصف هو سبحانه (بيانه وإن كان للمساواة أتم من الكرام بما يكون مخلوقاً على جنس المخلوقات).
ويقال أكرمه في السر بما علَّمه ثم بيَّن تخصيصه يوم الجهر وقدَّمه. ويقال قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ثم: حرف تراخٍ ومهلة.. إمّا على آدم؛ فإنه أمهله من الوقت ما تقررذلك في قلبه، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذٍ استخبره عما تحقَّق به واستيقنه. وإمّا على الملائكة؛ فقال لهم على وجه الوهلة: {أنبئوني} فلمَّا لم يتقدم لهم تعريف تحيَّروا، ولمَّا تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر، ونطق وأفلح، إظهاراً لعنايته السابقة- سبحانه- بشأنه.
وقوله: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيه إشارة إلى أنهم تَعَرَّضوا لدعوى الخصوصية، والفضيلة والمزية على آدم، فعرَّفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه في قديم تخصيصه. ولمَّا عَلِمَ الحقُّ سبحانه تَقَاصُرَ علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات ثم كلَّفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أنَّ الأمر أمرهُ، والحكمَ حُكمُه، فَلَهُ تكليف المستطيع، ردَّاً على من تَوَهَّمَ أن أحكام الحق سبحانه مُعَلَّلَة باستحسان أرباب الغفلة بما يدعونه من قضايا العقول، لا بل له أن يلزم ما يشاء لمن يشاء، الحَسَنُ ما حكم بتحسينه والقبيح ما حكم بتقبيحه.

.تفسير الآية رقم (32):

{قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قدَّموا الثناء على ذكر ما اعتذروا به، ونزَّهوا حقيقة حُكْمِه عن أن يكون يَعرِض وهم المعترضون، يعني لا علم لنا بما سألتنا عنه، ولا يتوجَّه عليكَ لوم في تكليف العاجز بما علمتَ أنه غير مستطيع له، إنك أنت العليم الحكيم أي ما تفعله فهو حقٌّ صِدْقٌ ليس لأحد عليكَ حكمٌ، ولا منك سَفَهٌ وقبح.

.تفسير الآية رقم (33):

{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
من آثار العناية بآدم عليه السلام أنَّه لمَّا قال للملائكة: {أنبئوني} دَاخَلَهُم من هيبة الخطاب ما أخذهم عنهم، لاسيما حين طالَبَهم بإنبائهم إياه ما لم تُحِطْ به علومهم. ولما كان حديث آدم عليه السلام ردَّه في الإنباء إليهم فقال: {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} ومخاطبة آدم عليه السلام الملائكة لم يوجب له الاستغراق في الهيبة. فلما أخبرهم آدم عليه السلام بأسماء ما تقاصرت عنها علومهم ظهرت فضيلته عليهم فقال: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ} يعني ما تقاصرت عنه علوم الخَلْق، وأعلم ما تبدون من الطاعات، وتكتمون من اعتقاد الخيرية على آدم عليه السلام والصلاة.
فصل:
ولمَّا أراد الحق سبحانه أن يُنَجِيَ آدمَ عصمهِ، وعلَّمه، وأظهر عليه آثار الرعاية حتى أخبر بما أخبر به، وحين أراد إمضاء حكمه فيه أدخل عليه النسيان حتى نَسِيَ في الحضرة عهده، وجاوز حدَّه، فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] فالوقت الذي ساعدته العناية تقدم على الجملة بالعلم والإِحسان، والوقت الذي أمضى عليه الحكم ردَّه إلى حال النسيان والعصيان، كذا أحكام الحق سبحانه فيما تجري وتمضي، ذلَّ بحكمه العبيد، وهو فعَّال لما يريد.
فصل:
ولمَّا توهموا حصول تفضيلهم بتسبيحهم وتقديسهم عرَّفهم أن بِساط العز مقدس عن التجمل بطاعة مطيع أو التدنس بزلة جاحد عنيد، فَرَدُّهم إلى السجود لآدم أَظهرَ الغَنَاء عن كل وفاق وخلاف.

.تفسير الآية رقم (34):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
السجود لا يكون عبادة لِعَيْنهِ ولكن لموافقة أمره سبحانه، فكأن سجودَهم لآدم عبادةٌ لله؛ لأنه كان بأمره، وتعظيماً لآدم لأنه أمرهم به تشريفاً لشأنه، فكأن ذلك النوعَ خضوعٌ له ولكن لا يسمى عبادة، لأن حقيقة العبادة نهاية الخضوع وذلك لا يصحُّ لغيره سبحانه.
ويقال بَيَّن أن تقدُّسَه- سبحانه- بجلاله لا بأفعالهم، وأن التَجمُّلَ بتقديسهم وتسبيحهم عائدٌ إليهم، فهو الذي يجل من أَجَلَّه بإجلاله لا بأفعالهم، ويعز من أعزَّ قدره سبحانه بإعزازه، جَلَّ عن إجلال الخلق قدْرُه، وعزّ عن إعزاز الخَلْق ذِكْرُه.
قوله تعالى: {فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} أبى بقلبه، واستكبر عن السجود بنفسه، وكان من الكافرين في سابق حكمه وعلمه. ولقد كان إبليس مدةً في دلال طاعته يختال في صدار موافقته، سلَّموا له رتبة التقدم، واعتقدوا فيه استحقاق التخصيص، فصار أمره كما قيل:
وكان سراج الوصل أزهر بيننا ** فهبَّت به ريحٌ من البيْن فانطفا

كان يحسب لنفسه استيجاب الخيرية، ويحسب استحقاق الزلفة والخصوصية:
فبات بخير والدني مطمئنة ** وأصبح يوماً والزمان تقلبا

فلا سالِفَ طاعةٍ نَفَعَه، ولا آنِفَ رجعةٍ رفعه، ولا شفاعةَ شفيعٍ أدركتهْ، ولا سابقَ عنايةٍ أَمْسكتهْ. ومن غَلَبَه القضاء لا ينفعه العناء.
ولقد حصلت من آدم هفوة بشرية، فتداركتهْ رحمة أحدية، وأما إبليس فأدركته شقوة أزلية، وغلبته قسمة وقضية. خاب رجاؤه، وضلَّ عناؤه.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
أسْكَنَه الجنةَ ولكن أثبت مع دخوله شجرة المحنة، ولولا سابق التقدير لكان يبدل تلك الشجرة بالنضارة ذبولاً، وبالخضرة يبساً، وبالوجود فقداً، وكانت لا تصل يد آدم إلى الأوراق ليخصفها على نفسه- ويقع منه ما يقع.
ولو تطاولت تلك الشجرة حتى كانت لا تصل إليها يده حين مدَّها لم يقع في شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم.
ولا مكانَ أفضل من الجنة، ولا بَشَرَ أكيس من آدم، ولا ناصح يقابل قوله إشارة الحق عليه، ولا غريبة (منه) قبل ارتكابه ما ارتكب، ولا عزيمة أشد من عزيمته- ولكنَّ القدرةَ لا تُكابَرَ، والحُكْمَ لا يُعَارض.
ويقال لما قال له: {اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} كان فيه إشارة إلى أن الذي يليق بالخَلْق السكون إلى الخَلْق، والقيام باستجلاب الحظ، وآدم عليه السلام وَحْدَه كان بكل خير وكل عافية، فلمَّا جاء الشكلُ والزوجُ ظهرت أنياب الفتنة، وانفتح باب المحنة؛ فحين سَاكَنَ حواء أطاعها فيما أشارت عليه بالأكل، فوقع فيما وقع، ولقد قيل:
داءٌ قديمٌ في بني آدم ** صبوةُ إنسان بإنسان

فصل:
وكلُّ ما منِع منه ابن آدم توفرت دواعيه إلى الاقتراب منه.
فهذا آدم عليه السلام أبيحت له الجنة بجملتها ونُهِيَ عن شجرة واحدة، فليس في المنقول أنه مدَّ يده إلى شيء من جملة ما أبيح، وكان عِيلَ صبره حتى واقع ما نُهِيَ عنه- هكذا صفة الخَلْق.
فصل:
وإنما نبَّه على عاقبة دخول آدم الجنة من ارتكابه ما يوجب خروجه منها حين قال: {إِنِّى جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً} فإذا أخبر أنه جاعله خليفته في الأرض كيف يمكن بقاؤه في الجنة؟
ويقال أصبح آدم عليه السلام محمود الملائكة، مسجود الكافة، على رأسه تاج الوصلة، وعلى وسطه نطاق القُرَبة، وفي جيده (...) الزلفة، لا أحد فوقه في الرتبة، ولا شخص مثله في الرفعة، يتوالى عليه النداء في كل لحظة يا آدم يا آدم. فلم يُمْسِ حتى نُزِعَ عنه لباسهُ، وسُلِبَ استئناسه، والملائكة يدفعونه بعنف أن اخْرج بغير مُكْثٍ:
وأَمِنْتُهُ فأتاح لي من مَأْمني ** مكراً كذا من يأمن الأحبابا

ولمّا تاه آدم عليه السلام في مِشيته لم يلبث إلا ساعة حتى خرج بألف ألف عتاب، وكان كما قيل:
لله دَرُّهُمُ من فِتْيةٍ بَكَرُوا ** مثلَ الملوكِ وراحوا كالمساكين

فصل:
نهاه عن قرب الشجرة بأمره، وألقاه فيما نهاه عنه بقهره، ولبَّس عليه ما أخفاه فيه من سِرِّه.

.تفسير الآية رقم (36):

{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قوله جلّ ذكره: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}.
أزلَّهما أي حَمَلَهما على الزَّلة، وفي التحقيق: ما صَرَّفَتْهُما إلا القدرة، وما كان تقلبهما إلا في القضية، أخرجهما عما كانا فيه من الرتبة والدرجة جهراً، ولكن ما ازداد- في حكم الحق سبحانه- شأنُهما إلا رفعةً وقدراً.
قوله جلّ ذكره: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌ}.
أوقع العداوة بينهما وبين الشيطان، ولكن كان سبحانه مع آدم (وحرب وهو معهم محالهم بالظفر).
فصل:
لم يكن للشيطان من الخطر ما يكون لعداوته إثبات، فإن خصوصية الحق سبحانه عزيزة قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42].
فصل:
لو كان لإبليس سلطان على غواية غيره لكان له إمكانٌ في هداية نفسه، وكيف يكون ذلك؟ والتفرد بالإبداع لكل شيء من خصائص نعته سبحانه.
قوله جلّ ذكره: {وَلَكُمْ في الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}.
مشهد الأشباح ومألفها أقطار الأرض، ومعهد الأرواح ومرتعها رداء العرش، ولفظ الرداء استعارة وتوسع فكيف يكون للهمم بالحِدْثان تَعَلُّق، ولصعود القصود إلى الحقائق على الأغيار وقوع.