فصل: تفسير الآيات (40- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآيات (40- 41):

{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِى المُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ}.
فلا دعاؤهم يُسمَع، ولا بكاؤهم ينفع، ولا بلاؤهم يكشف، ولا عناؤهم يُرْفَع.
قوله جلّ ذكره: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَخْزِى الظَّالِمِينَ}.
كما أحاطت العقوبات بهم في الدنيا فَتَدَنَّس بالغفلة باطنُهم، وتلوَّثَ بالزَّلة ظاهرهم، فكذلك أحاطت العقوبات بجوانبهم؛ فَمِنْ فوقهم عذاب ومن تحتهم عذاب، وكذلك من جوانبهم في القلب من ضيق العيش واستيلاء الوحشة ما يفي ويزيد على الكل.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)}
رفعنا عن ظاهرهم وباطنهم كلفة العمل فيسَّرنا عليهم الطاعاتِ بحسن التوفيق، وخَفَّفْنَا عنهم العباداتِ بتقليل التكليف.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
قوله جلّ ذكره: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ}.
طهرنا قلوبهم من كل غش، واستخلصنا أسرارهم عن كل آفة. وطَهَّرَ قلوب العارفين من كل حظ وعلاقة، كما طهَّر قلوب الزاهدين عن كل رغبة ومُنْية، وطهَّر قلوب العابدين عن كل تهمة وشهوة، وطهَّر قلوب المحبين عن محبة كل مخلوق وعن غل الصدر- كل واحد على قدر رتبته.
ويقال لمَّا خَلَق الجنة وَكَلَ ترتبيها إلى رضوان، والعرش ولي حفظه إلى الجملة، والكعبة سلَم مفتاحها إلى بني شيبة، وأمَّا تطهير صدور المؤمنين فتولاّه بنفسه.
وقال: {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}.
ويقال إذا نزع الغل من الصدور مِنْ قِبَله فلا محلّ للغرم الذي لزمهم بسبب الخصوم حيث كان منه سبحانه وجه آدائه.
قوله جلّ ذكره: {وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ}.
في قولهم اعترافٌ منهم وإقرارٌ بأنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من جزيل تلك العطيات، وعظيم تلك الرتب والمقامات بجهدهم واستحقاق فعلهم، وإنما ذلك أجمع ابتداء فضل منه ولطف.
قوله جلّ ذكره: {وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
تسكينٌ لقلوبهم، وتطييبٌ لهم، وإلا فإذا رأوا تلك الدرجات علموا أن أعمالهم المشوبة بالتقصير لم توجب لهم كل تلك الدرجات.

.تفسير الآيات (44- 45):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)}
اعترف أهل النار بحقيقة الدِّين، وأقروا بسوء ما عملوا، ولكن حين لم ينفعهم إقرارٌ بحالٍ من الأحوال.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}
قوله جلّ ذكره: {وَبَيْنَهُمَا حٍجَابٌ}.
ذلك الحجاب الذي بينهما حصل من الحجاب السابق؛ لمَّا حُجِبُوا في الابتداء في سابق القسمة عما خُصَّ به المؤمنون من القربة والزلفة حُجِبوا في الانتهاء عما خَصَّ به السعداء من المغفرة والرحمة.
ويقال حجاب وأي حجاب! لا يُرفَع بحيلة ولا تنفع معه وسيلة.
حجابٌ سبق به الحكم قبل الطاعة والجُرْم.
قوله جلّ ذكره: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ}.
هؤلاء الأشراف خصوا بأنوار البصائر اليوم فأشرفوا على مقادير الخلْق بأسرارهم، ويشرفون غداً على مقامات الكل وطبقات الجميع بأبصارهم.
ويقال يعرفونهم غداً بسيماهم التي وجدوهم عليها في دنياهم؛ فأقوامٌ موسومون بأنوار القرب، وآخرون موسومون بأنوار الرد والحجب.
قوله جلّ ذكره: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ}.
سَلِمُوا اليومَ عن النكرة والجحودِ، وأكرِمُوا بالعرفان والتوحيد.
وسلموا غداً من فنون الوعيد، وسَعِدُوا بلطائف المزيد. وتحققوا أنهم بلغوا من الرتب ما لم يَسْمُ إليه طرْفُ تأميلهم، ولم يُحِطْ بتفصيله كُنْهُ عقولهم.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}
إنما يصرف أبصارهم اليومَ تقديراً عليهم عظيم المِنّة التي بها نجاتُهم، فيزيدون في الاستغاثة وصدق الابتهاء، فتكمل بهم العارفة بإدامة ما لاطفهم به من الإيواء والحفظ.

.تفسير الآيات (48- 49):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
ذلك ما يرون عليهم من غبار الرد وأمارات البعد، وهي مما لا يخفى على ذي عينين، فيقولون لهم: هل يُغْنِي عنكم ما ركنتم إليه من أباطيلكم، وسكنتم إليه من فاسد ظنونكم، وباطل تأويلكم؟ فشاهِدوا- اليومَ- تخصيص الحق لمن ظننتم أنهم ضعفاؤكم، وانظروا هل يغني عنكم الذين زعمتم أنهم أولياؤكم وشركاؤكم؟

.تفسير الآيات (50- 51):

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}
دلَّت الآية على أن من أواخر ما يبقى على الإنسان الأكل والشربَ؛ فإنهم في تلك العقوبات الشديدة يقع عليهم الجوعُ والعطش حتى يتضرعون كلَّ ذلك التضرع؛ فيطلبون شربة ماء أو لقمة طعام وهم في غاية الآلام، والعادة- اليومَ- أن من كان في ألم شديد لا يأكل ولا يشرب، وهذا شديد.
ثم أَبْصِرْ كيف لا يسقيهم قطرةً- مع استغنائه عن تعذيبهم، وقدرتِه على أن يعطيه ما يريدون! ولكنه قهر الربوبية وعِزُّ الأحدية، وأنه فَعَّالٌ لما يريد. فكما لم يرزقهم- اليومَ- من عرفانه ذرة، لا يسقيهم غداً في تلك الأحوال قطرة، وفي معناه أنشدوا:
وأَقْسَمْنَ لا يسقيننا- الدهرَ- قطرةً ** ولو فُجِّرت من أرضهن بحورُ

ويقال إنما يطلبون الماء ليبكوا به بعدما نفدت دموعهم، وفي هذا المعنى قيل:
يا نازحاً نَزَفَتْ دمعي قطيعتُه ** هَبْ لي من الدمعِ ما أبكي عليكَ به

وفي هذا المعنى أنشدوا.
جرف البكاءُ دموعَ عينك فاستعِرْ ** عيناً لغيرك دمعها مدرار

مَنْ ذا يُعيرك عينَه تبكي بها ** أرأيتَ عيناً للبكاء تُعار

قوله جلّ ذكره: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا فَاليَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}.
كما تركوا أمره وضيَّعوه تركهم في العقوبة، ولا (...) فيما يشكون، فتأتي عليهم الأحقاب، فلا كشف عذاب، ولا بَرْد شراب، ولا حسن جواب، ولا إكرامٌ بخطاب. ذلك جزاءٌ لِمَنْ يعرف قَدْرَ الوصلة في أوقات المهلة.

.تفسير الآية رقم (52):

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
أنزلنا عليهم من الكتاب وأوحينا إليهم من الخطاب ما لو قابلوه بالتصديق وصاحَبُوه بالتحقيق لوجدوا الشفاء من محنة البعاد، ونالوا لضياء بقرب الوداد، ووصلوا في الدنيا والعقبى إلى جميل المراد، ولكنه- سبحانه أَبَى القسمة في نصيبهم إلا الشِّقْوة.

.تفسير الآية رقم (53):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
إذا كُشِفَ جلالُ الغيب، وانتفت عن قلوبهم أغطيةُ الرَّيب، فلا بكاء لهم يَنْفَع، ولا دعاء منهم يُسْمَع، ولا شكوى عنهم ترْفَع، ولا بلوى من دونهم تُقْطَع.

.تفسير الآية رقم (54):

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}
تعرّف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهي أفعاله، وتعرّف إلى الخواص منهم بآياته الدالة على نصرته التي هي أفضاله وإقباله، وظهر لأسرار خواص الخواص بنعوته الذاتية التي هي جماله وجلاله، فشتان بين قومٍ وقوم!.
ثم كما يدخل في الظاهر الليل على النهار والنهارَ على الليل فكذلك يدخل القبض على البسط والبسط على القبض. ومنه الإشارة إلى ليل القلوب ونهار القلوب: فَمِنْ عبدٍ أحواله أجمع قبض، ومن عبدِ أحواله أجمع بسط، ومن عبيد يكون مرة بعين القبض ومرة بعين البسط كما أن بعض أقطار العالَم فيها نهار بلا ليل، وفي بعضها ليل بلا نهار، وفي بعضها ليل يدخل على نهار ونهار يدخل على ليل.
{أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ} فمنه الخير والشر، والنفع والضر، فإن له الخلْقَ والأمر.
{تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} هذه الكلمة مجمع الدعاء لاشتمالها على إفادة معنى قِدَمِه ودوامِ ثبوته من حيث يُقال بَرَكَ الطيرُ على الماء.
وأفادت معنى جلاله الذي هو استحقاقه لنعوت العِزِّ لأنه قد تبارك أي تعظَّم. وأشارت إلى إسداد النِّعم وإتاحة الإحسان من حيث إن البَرَكَة هي الزيادة فهي مجمع الثناء والمدح للحق سبحانه.

.تفسير الآية رقم (55):

{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
الأمر بالدعاء إذنٌ- في التسلِّي- لأرباب المحنة، فإنهم إلى أن يصلوا إلى كشف المحنة ووجود المأمول استروحوا إلى روْح المناجاة في حال الدعاء؛ والدعاء نزهةٌ لأرباب الحوائج، وراحةٌ لأصاحب المطالبات، ومعجل من الإِنس بما (...) إلى القلب عاجل التقريب. وما أخلص عبدٌ من دعائه إلى رَوَّحَ- سبحانه- في الوقت قلبَه.
ويقال علَّمهم آداب الدعاء حيث قال: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وهذا أدب الدعاء؛ أن يَدْعُوا بوصف الافتقار والانكسار ونشر الاضطرار. ومن غاية ما تقرر لديك نعت كرمه بك أنه جعل إمساكَكَ عن دعائه- الذي لابد منه- اعتداء منك.

.تفسير الآية رقم (56):

{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
من الإفساد بعد الإصلاح إحمالُ النفس عن المجاهدات بخلع عذارها حتى تتبع هواها بعدما كَبَحْتَ لجامَها مدةً عن العَدْوِ في ميدان الخلاف، ومن ذلك إرسالُ القلب في أودية المنى بعد إمساكه على أوصاف الإرادة، ومن ذلك الرجوعُ إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق، ومن ذلك استشعارُ محبة المخلوق بعد تأكيد العقد معه بألا تحب سواه، ومن ذلك الجنوحُ إلى تتبع الرُّخص في طريق الطلب بعد حمل النَّفْس على ملازمة الأَوْلى والأشَق، ومن ذلك الانحطاطُ بِحَظٍّ إلى طلبِ مقامٍ منه أو إكرام، بعد القيام معه بترك كل نصيب.
وفي الجملة: الرجوعُ من الأعلى إلى الأدنى إفسادٌ في الأرض بعد الإصلاح.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ}.
يقال المحسنين عملاً والمحسنين أملاً، فالأول العابدون والثاني العاصون.
ويقال المحسن من كان حاضراً بقلبه غير لاهٍ عن ربِّه ولا ناسياً لِحقِّه.
ويقال المحسن القائم بما يلزم من الحقوق.
ويقال المحسن الذي لم يخرج (...) عن إحسانه بقدر الإمكان ولو بشطر كلمة.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}
قوله جلّ ذكره: {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ}.
تباشير القرب تتقدم فيتأدّى نسيمُه إلى مشام الأسرار، وكذلك آثار الإعراض تتقدم فتوجد ظلمة القبض في الباطن، فظلُّ الوحشة يتقدمها، ونسيم الوصلة بعدها، وفي قريبٍ منه قال قائلهم:
ولقد تشمَّمْتُ القضاءَ لحاجتي ** فإذا له من راحتيك نسيم

قوله جلّ ذكره: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلَّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
الإشارة منه أنه يحصل بالمهجور ما يتأذى به الصدر ويُبَرِّحُ به الوجه ويَنْحلُ به الجسم، بل يُبْطِلُ كلَّه البعجُ، فيأتيه القُرب فيعود عود وصاله بعد الذبول طرياً، ويصير دارس حاله عقيب السقوط نديا، كما قال بعضهم:
كُنّا كمن أُلْبِسَ أكفانه ** وقرَّب النعشُ من اللَّحد

فجالتْ الروحُ في جسمه ** وردَّه الوصلُ إلى المولد