فصل: تفسير الآية رقم (5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (5):

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)}
بَيَّنَ- سبحانه- أن الجِدَالَ منهم عادةٌ وسَجِيَّة، ففي كل شيء لهم جدال واختيار؛ فكرهُوا خروجَه إلى بَدْرٍ، كما جادلوا في حديث الغنيمة، قال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} وما يكون من خصال العبد غير متكرر ويكون على وجه الندرة كان أقربَ إلى الصفح عنه والتجاوز، فأمَّا إذا صار ذلك عادةً فهو أصعب.
ويقال ما لم تباشر خلاصةُ الإيمان القلبَ يوجد كمالُ التسليم وترك الاختيار، وما دام يتحرك من العبد عِرْقٌ في الاختيار فهو بعيدٌ عن راحة الإيمان.
ولقد أجرى الله سُنَّتَه مع أنبيائه ألا يفتح لهم كمالَ النُّعْمى إلا بعد مفارقة مألوفات الأوطان، والتجرد عن مساكنة ما فيه حظ ونصيب مِنْ كل معهود.
ويقال إن في هجرة الأنبياء- عليهم السلام- عن أوطانهم أماناً لهم من عادية الأعادي، وإحياءً لقلوب قوم تقاصرت أقْدَامُهم عن المسير إليهم.
وكذلك هجرة الأولياء من خواصه؛ فيها لهم خلاصٌ من البلايا، واستخلاصٌ للكثيرين من البلايا.

.تفسير الآية رقم (6):

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)}
جحودُ الحقِّ بعد وضوح برهانه عَلَمٌ لاستكبار صاحبه، وهو- في الحال- في وحشة غَيِّه، مُعَاقَبٌ بالصِّد وتَنعُّص العَيْشِ، يَملُّ حياتَه ويتمنى وفاتَه؛ {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ}.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)}
التعريجُ في أوطان الكسل، ومساكنة مألوفات الراحة من خصائص أحكام النَّفْس، فهي بطبعها تؤثِر في كل حالٍ نصيبها، وتتعجل لذَّةَ حظِّها. ولا يصل أحدٌ إلى جلائل النِّعم إلا بتجرُّع كاسات الشدائد، والانسلاخ عن معهودات النصيب. {وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي إذا أراد اللهُ- سبحانه- تخصيصَ عبدٍ بولايته قضى على طوارقِ نفسه بالأفُول، وحكم لبعض شهواته بالذبول، وإلى طوالع الحقائق بإشراقها، ولجامع الموانع باستحقاقها.

.تفسير الآية رقم (8):

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}
ليحق الحقَّ بالتوفيق فيما يحصل ببذل المجهود، والتحقيق لما يظهر من عين الجود.
ويقال لِيُحِقَّ الحقّ بنشر أعلام الوصل، ويُبْطِلَ الباطلَ بقهر أقسام الهزل.

.تفسير الآيات (9- 10):

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
الاستغاثة على حسب شهود الفاقة وعدم المنة والطاقة. والتحقق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاة تيسيرٌ للمسؤول وتحقيق للمأمول. فإذا صدقت الاستغاثة بتَعَجُّل الإجابة حَصُلَتْ الآمالُ وقُضِيَتْ الحاجة.. بذلك جَرَتْ سُنَّتُه الكريمة.
ويقال بَشَرَّهم بالإمداد بالمَلَك، ثم رقَّاهم عن هذه الحالة بإشهادهم أن الإنجاز من المَلِكِ، ولم يَذرْهم في المساكنة إلى الإمداد بالمَلَك فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} ثم قال: {إنَّ اللهَ عَزِيزٌ} فالنجاة من البلاء حاصلة، وفنون الإنجاز والإمداد بالطاقة متواصلة، والدعوات مسموعة، والإجابة غير ممنوعة، وزوائد الإحسان مُتَاحة، ولكن الله عزيز.
الطالبُ واجدٌ ولكن بعطائه، والراغب واصل ولكن إلى مبارِّه. والسبيلُ سهلٌ ولكن إلى وجدان لطفه، فأمّا الحقُّ فهو عزيز وراء كل وصل وفصل، وقُرْبٍ وبُعْد، وما وَصَلَ أحدٌ إلا إلى نصيبه، وما بقي أحدٌ إلا عن حظه، وفي معناه أنشدوا:
وقُلْنَ لنا نحن الأهِلَّةُ إنما ** نضيءُ لمن يسري بليلٍ ولا نُقْرِي

فلا بَذْلَ إلا ما تزوَّدَ ناظرٌ ** ولا وصلَ إلا بالجمال الذي يسري

.تفسير الآية رقم (11):

{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)}
قوله جلّ ذكره: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَِكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}.
غَشيَهم النُّعاسُ تلك الليلة فأزال عن ظواهرهم ونفوسهم كَدَّ الأغيار والكلال، وأنزل على قلوبهم رَوْحَ الأمن، وأمطرت السماءُ فاغتسلوا بعدما لزمتهم الطهارة الكبرى بسبب الاحتلام، واشتدت الأرض بالمطر فلم ترسب الأقدام في رَملِها، وانتفى عن قلوبهم ما كانت الشياطين توسوس به إليهم أنه سيصيبهم العناءُ بسلوك رَمْلِها وبالانتفاء عن الغُسْل، فلمَّا (...) الإحساسِ، واستمكن منهم النُّعاس، وتداركتهم الكفاية والنصرة استيقنوا بأن الإعانة من قِبَل الله لا بسكونهم وحركتهم، وأشهدهم صرف التأييد وإتمام الكفاية.
وكما طَهَّرَ ظواهرهم بماء المساء طهَّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلِّ غير وكلِّ عِلَّة، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجري الحقُّ من فنون التصريف.
قوله جلّ ذكره: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ}.
أقدامَ الظاهر في مَشَاهِدِ القتال، وأقدامَ السرائر على نهج الاستقامة بشهود مجاري التقدير.

.تفسير الآيات (12- 14):

{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)}
قوله جلّ ذكره: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى المَلاَئِكَةِ أَنِّى مَعَكُمْ فَثَبِتُّوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِى في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}.
عَرَّفَنَا أنَّ الملائكة محتاجون إلى تعريف الحق إياهم قضايا التوحيد. وتثبيتُ الملائكة للمؤمنين: قيل كانوا يَظْهَرُون للمسلمين في صور الرجال يخاطبونهم بالإخبار عن قلة عدد المشركين واستيلاء المسلمين عليهم، وهم لا يعرفون أنهم ملائكة.
وقيل تثبيتهم إياهم بأن كانوا يلقون في قلوبهم ذلك مِنْ جهة الخواطر، ثم إن الله يخلق لهم فيها ذلك، فكما يُوَصِّلُ الحق سبحانه- وساوسَ الشيطان إلى القلوب يوصل خواطرَ المَلَكِ، وأَيَّدَهم بإلقاء الخوف والرعب في قلوب الكفار.
قوله جلّ ذكره: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ}.
وذلك بأمر الله وتعريفه من جهة الوحي والكتاب، ويكون معناه إباحة ضربهم ونيلهم على أي وجه كان كيفما أصابوا أسافلهم وأعاليهم. ويحتمل فاضربوا فوق الأعناق ضرباً يوجِبُ قَتْلَهم؛ لأنه لا حياةَ بعد ضَرْبِ العُنُقِ. ولفظُ فوق يكون صلة.
{وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} أي ضرباً يعجزهم عن الضرب ومقاتلة المسلمين؛ لأنه لا مقاتلة تحصل بعد فوات الأطراف.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} بين أنهم في مغاليط حسبانهم وأكاذيب ظنونهم والمُنْشِئُ- بكلِّ وجهٍ- اللهُ؛ لانفراده بقدرة الإيجاد.
قوله جلّ ذكره: {وَمَن يُشَاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}.
يُمْهِلُ المجرمَ أياماً ثم لا يهمله، بل يُذِيقه بأْسَ فِعله، ويزيل عنه شُبْهةَ ظنِّه.
قوله جلّ ذكره: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.
ذلك العذاب فذوقوه- أيها المشركون- مُعَجَّلاً، واعلموا أن للكافرين عذاباً مُؤجَّلاً، فللعاصين عقوبتان مُحَصَّلٌ بنقد ومؤخَّرٌ بوعد.

.تفسير الآيات (15- 16):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}
يقول إذا لقيتم الكفار في المعركة زحفاً مجتمعين فأثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا فالشجاعة ثبات القلوب، وكما قيل الشجاعة صبر على الطاعة وفي الجهاد مع العدو، فالواجب الثبات عند الصولة- هذا في الظاهر، وفي الباطن جهاد مع الشيطان، والواجب فيه الوقوف عن دواعيه إلى الزَّلة؛ فَمَنْ وقف على حدِّ الإمساك عن إجابته، بلا إنجازٍ لما يدعوه بوساوسه فَقَدْ وفَّى الجهاد حقَّه.
وكذلك في مجاهدة النَّفس، فإذا وقف العبدُ عن إجابة النَّفْس فيما تدعوه بهواجسها، ولم يُطِعْ شهوتَه فيها تحمله النفسُ عليه من البلاء إلى ابتغاء حظِّه فقد وفَّى الجهادَ حقَّه.
والإشارة في قوله: {إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ} بإيثار بعض الرُّخص ليتقوَّى على ما هو أشد؛ كأكْله مثلاً ما يُقِيم صُلْبَه ليقوى على السَّهر، وكترفقه بنفسه بإيثار بعض الراحة من إزالة عطش، أو نفي مقاساة جوع أو بَرْدٍ أو غيره لئلا يبقى عن مراعاة قلبه، ولاستدامة اتصال قلبه به، فإنْ تَرَكَ بعضَ أورادِ الظاهر لئلا يبقى به عن الاستقامة في أحكام واردات السرائر أَخَذَ في حقِّ الجهاد بحزم.
والإشارة في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} إلى اعتضاد المريد بصحبة أقرانه فيما يساعدونه في المجاهدة، ويُبْقِي شهودُ ما هم فيه من المكابدة من إقامته على مجاهدته. ثم باستمداده من همم الشيوخ؛ فإن المريدَ ربيب هُمَّةِ شيخه، فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خَدَمِهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هِمَمِهم، يجبرون كَسْرَهم، ويتوبون منهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم. ومَنْ أهمل مريداً وهو يعرف صِدْقه، أو خالَفَ شيخاً وهو يعرف فضلَه وحَقَّه فقد باءَ من الله بسخطٍ، واللهُ تعالى حسيبُه في مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه.

.تفسير الآية رقم (17):

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}
قوله جلّ ذكره: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ}.
الذي نَفَى عنهم من القتل، هو إماتة الروح وإثبات الموت، وهو من خصائص قدرته- سبحانه، والذي يُوصَفُ به الخلق من القتل هو ما يفعلونه في أنفسهم، ويحصل ذهاب الروح عقيبه.
وفائدة الآية قطع دعاواهم في قول كل واحد على جهة التفاخر قتلتُ فلاناً، فقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} أي لم تكن أفعالكم مما انفردتم بإيجادها بل المنشئ والمبدئ هو الله عزَّ وجل. وصَانَهم بهذه الآية وصان نَبِيَّه- عليه السلام- عن ملاحظة أفعالهم وأحوالهم.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى}.
أي ما رَمَيْتَ بنفسك ولكنك رميْت بنا، فكان منه (صلوات الله عليه) قبضُ التراب وإرساله من يده ولكن من حيث الكسب، وكَسْبَهُ مُوجَدٌ من الله بقدرته، وكان التبليغ والإصابة مِن قِبَل الله خَلْقاً وإبداعاً، وليس الذي أثبت ما نفي ولا نفي ما أثبت إلا هو، والفعلُ فِعْلُ واحدٍ ولكن التغاير في جهة الفعل لا في عينه.
فقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} فَرْقٌ، وقوله: {وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} جمع. والفرق صفة العبودية، والجمع نعت الربوبية، وكلُّ فرقٍ لم يكن مُضَمَّناً بجمعٍ وكلُّ جمع لم يكن- في صفة العبد- مُؤَيَّداً بفرق فصاحبُه غير سديد الوتيرة.
وإن الحقَّ- سبحانه- يَكِلُ الأغيار إلى ظنونهم، فيتيهون في أودية الحسبان ويتوهمون أنهم منفردون بإجراءٍ ما منهم، وذلك منه مكرٌ بهم.
قال الله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] وأما أرباب التوحيد فَيُشْهِدهم مطالِعَ التقدير، ويعرِّفهم جريان الحُكمْ، ويُريهم أَنْفُسَهم في أَسْرِ التصريف، وقهر الحكمْ. وأمَّا الخواص من الأولياء وأصحاب العرفان فيُجرِي عليهم ما يُجْرِي و(ما) لهم إحساس بذلك، مأخوذون يثبتهم بشواهد النظر والتقدير، ويتولَّى حفظهم عن مخالفة الشرع.
قوله جلّ ذكره: {وَلِيُبْلِىَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا}.
البلاء الاختبار، فيختبرهم مرة بالنعم ليظهر شكرهم أو كفرانهم، ويختبرهم أخرى بالمحن ليظهر صبرهم، أو ذِكْرَهم أو نسيانهم.
البلاء الحسن: توفيق الشكر في المِنْحة، وتحقيق الصبر في المحبة، وكل ما يفعله الحقُّ فهو حَسَنٌ من الحقِّ لأنَّ له أَنْ يفعلَه. وهذه حقيقة الحَسَن: وهو ما للفاعل أن يفعله.
ويقال حَسُنَ البلاءُ لأنه منه و(...) البلاء لأنه فيه.
ويقال البلاء الحسن أن تَشْهَدَ المُبْلِي في عين البلاء.
ويقال البلاء الحسن ما لا دعوى لصاحبه إنْ كان نعمة، ولا شكوى إن كان محنة.
ويقال البلاء الحسن ما ليس فيه ضجر إنْ كان عُسْراً، ولا بطر إن كان يسراً.
ويقال بلاءُ كلِّ أحدٍ على حسبِ حاله ومقامه؛ فأصفاهم ولاءً، قال عليه السلام: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل».
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
تنفيسٌ لقوم وتهديدٌ لقوم؛ أصحابُ الرِّفق يقول لهم إن الله {سميعٌ} لأنينكم؛ فَيُرَوِّح عليهم بهذا، وَقْتَهم، ويحمل عنهم ولاءهم، وأنشدوا:
إذا ما تمنَّى الناسُ روْحاً وراحةً ** تمنيتُ أَنْ أشكو إليك فتسمعا

وقالوا:
قُلْ لي بألسنةَ التَّنفُّس ** كيف أنت وكيف حالك

وأمَّا الأكابر فلا يُؤْذَنُ لهم في التَّنَفُّس، وتكون المطالبةُ متوجِّهةً عليهم بالصبر، والوقوف تحت جريان التقدير من غير إظهارٍ ولا شكوى، فيقول: لو ترشح منك ما كُلِّفْتَ بِشُرْبِه تَوَجَّهَتْ عليك الملامةُ، فإِن لم يكن منك بيانٌ فإِنِّي لقالتك، عليمٌ بحالتك.
ويقال في قوله: {عليم} تسلية لأرباب البلاء؛ لأنَّ من عَلِم أنَّ مقصودَه يعلم حالَه سَهُل عليه ما يقاسيه فيه، قال- سبحانه- لنبيَّه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97].