فصل: تفسير الآية رقم (50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (50):

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
تقاصرت بصائر بني إسرائيل فأراهم المعجزات عياناً، ونفذت بصائر هذه الأمة فكاشفهم بآياته سراً، وبذلك جرت سُنَّتُه سبحانه، وكل من كان أشحذَ بصيرةً كان الأمر عليه أغمض، والإشارات معه أوفر، قال صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً».
وحين شاهدوا ظاهر تلك الآيات من فلق البحر وإغراق آل فرعون- دَاخَلَهُمْ ريبٌ؛ فقالوا: إنه لم يغرق حتى قذفهم البحر، فنظر بنو إسرائيل إليهم وهم مغرقون. وهذه الأمة لفظ تصديقهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وقوة بصائرهم (أن) قال واحد من أفتاء الناس: «كأني بأهل الجنة يتزاورون وكأني بأهل النار يتعاوون وكأني أنظر عرش ربي بارزاً» فشتَّان بين من يُعاين فيرتاب مع عيانه، وبين مَنْ يسمع فكالعيان حالُه من قوة إيمانه.

.تفسير الآية رقم (51):

{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
شتَّان بين أمة وأمة؛ فأُمَّةُ موسى عليه السلام- غاب نبيُّهم عليه السلام أربعين يوماً فاتخذوا العِجْلَ معبودَهم، ورضوا بأن يكون لهم بمثل العجل معبوداً، فقالوا: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِىَ} [طه: 88] وأمة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم مضى من وقت نبيِّهم سنون كثيرة فلو سمعوا واحداً يذكر في وصف معبودهم ما يوجب تشبيهاً لما أبْقَوْا على حشاشتهم ولو كان في ذلك ذهاب أرواحهم.
ويقال إن موسى- صلوات الله عليه- سلَّم أمته إلى أخيه فقال: اخلفني في قومي، وحين رجع وجدهم وقعوا في الفتنة، ونبيُّنا- صلوات الله عليه- توكَّل على الله فلم يُشِرْ على أحَدِ في أمر الأمة وكان يقول في آخر حاله: الرفيق الأعلى. فانظر كيف تولَّى الحق رعاية أمته في حفظ التوحيد عليهم. لعمري يُضَيِّعون حدودَهم ولكن لا ينقضون توحيدَهم.

.تفسير الآية رقم (52):

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}
سرعة العفو على عظيم الجُرْم تدل على حقارة قدرة المعفو عنه، يشهد لذلك قوله تعالى: (مخاطباً أمهاتِ المسلمين): {من يأتِ منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30] هؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال الله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، وقال لهذه الأمة (يقصد أمة محمد صلى الله عليه وسلم): {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8].

.تفسير الآية رقم (53):

{وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
فرقان هذه الأمة الذي اخْتَصُّوا به نورٌ في قلوبهم، به يُفَرِّقون بين الحق والباطل، قال النبي صلى الله عليه وسلم لوابصة: «استفتِ قلبك».
وقال: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله».
وقال الله تعالى: {إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] وذلك الفرقان ميراث ما قدَّموه من الإِحسان.

.تفسير الآية رقم (54):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قوله جلّ ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ}.
أي ما أضررتم إلا بأنفسكم فيما ارتكبتم من ذنوبكم، فأمَّا الحق سبحانه فعزيز الوصف، لا يعود إلى عِزِّه من ظلم الظالمين شيء، ومن وافق هواه واتَّبع مناه فَعِجْلُه ما علَّق به همَّه وأفرد له قصده.
قوله جلّ ذكره: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}.
الإشارة إلى حقيقة التوبة بالخروج إلى الله بالكلية.
قوله جلّ ذكره: {فَاقتُلُوا أَنفُسَكُمْ}.
التوبة بقتل النفوس غير (...) إلا أن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهراً، وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سراً، فأَوَّلُ قَدَمِ في القصد إلى الله الخروجُ عن النفس.
فصل:
ولقد توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا؛ فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة واحدة، وأمَّا أهل الخصوص من هذه (الأمة) ففي كل لحظة قتل، ولهذا:
ليس من مات فاستراح بميتٍ ** إنما الميت ميت الأحياء

وقتل النفس في الحقيقة التبري عن حوْلِها وقوتها أو شهود شيءٍ منها، ورد دعواها إليها، وتشويش تدبيرها عليها، وتسليم الأمور إلى الحق- سبحانه- بجملتها، وانسلاخها من اختِيارها وإرادتها، وانمحاء آثار البشرية عنها، فأمَّا بقاء الرسوم والهياكل فلا خطرَ له ولا عبرةَ به.
قوله جلّ ذكره: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
كونه لكم عنكم أتمُّ من كونكم لأنفسكم:

.تفسير الآية رقم (55):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
التعرض بمطالعة الذات على غير نعمة إلهية إفصاحٌ بِتَرْكِ الحرمة، وذلك من أمارات البعد والشقوة.
وإثبات نعت التولي بمكاشفات العزة مقروناً بملاطفات القربة من علامات الوصلة ودلالات السعادة.
فلا جَرَمَ لما أطلقوا لسان الجهل بتقوية ترك الحشمة أخذتهم الرجفة والصعقة.

.تفسير الآية رقم (56):

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
أعادهم إلى حال الإحساس بعد ما استوفتهم سطوات العذاب إملاء لهم بمقتضى الحكم، وإجراء للسنَّةِ في الصفح عن الجُرْم، ومن قضايا الكرم إسبال الستر على هناتِ الخَدَم.

.تفسير الآية رقم (57):

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
لمّا طرحهم في متاهات الغُربة لم يرضَ إلاَّ بأن ظلَّلَهُم، وبلبسة الكفايات جَلَّلَهُم، وعن تكلف التكسُّب أغناهم، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولاَّهم؛ فلا شُعُورُهم كانت تَطُول، ولا أظفارهم كانت تنبُت، ولا ثيابهم كانت تتسِخ، ولا شعاعُ الشمس عليهم كان ينبسط. وكذلك سُنَّتُه لمن حال بينه وبين اختياره، يكون ما يختاره سبحانه له خيراً مما يختاره لنفسه.

.تفسير الآية رقم (58):

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
(...) بنو إسرائيل على تضييع ما كانوا يُؤْمَرون، حتى قالةٍ أُوصُوا بحفظها فَبَدّلوها، وحالةٍ من السجود أُمروا بأن يدخلوا عليها فحوّلوها، وعَرَّضوا أنفسَهم لِسهام الغيب. ثم لم يطيقوا الإصابة بقَرْعِها، وتعرضوا المفاجآت العقوبة فلم يثبتوا عند صدمات وَقْعِها.

.تفسير الآية رقم (59):

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
لم يمكنهم أن يردوا باب السماء باحتيالهم، أو يصدوا مِنْ دونهم أسبابَ البلاء بما ركنوا إليه من أحوالهم، فزعوا من الندم لما عضّهم ناب الألم، وهيهات أن ينفعهم ذلك لأنه محال من الحسبان.

.تفسير الآية رقم (60):

{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
إن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصمَّاء كان قادراً على إروائهم بغير ماء ولكن لإظهار المعجزة فيه، وإيصال محل الاستغاثة إليه، وليكون على موسى عليه السلام- أيضاً في نقل الحجر- مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا مقاساةُ نوعٍ من معالجةِ ما أمضى حكمه عند استسقائه لقومه.
ثم أراد الحق سبحانه أن يكون كل قوم جارياً على سُنَّتْ، ملازماً لحَدّه، غير مُزَاحِمٍ لصاحبه فأفرد لكل سبطة علامةً يعرفون بها مشربهم، فهؤلاء لا يَرِدُون مشرب الآخرين، والآخرون لا يَرِدُون مشرب الأولين.
وحين كفاهم ما طلبوا أمرَهُم بالشكر، وحِفْظِ الأمرِ، وتَرْكِ اختيار الوِزر، فقال: {وَلاَ تَعْثَوْا في الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
والمناهل مختلفة، والمشارب متفاوتة، وكلٌّ يَرِدَ مَشْرَبه فمشربٌ عَذْبٌ فُرات، ومشربٌ مِلْح أُجاج، ومشربٌ صافِ زلال، ومشرب رتق أوشال. وسائقُ كلِّ قوم يقودهم، ورائد كُلِّ طائفة يسوقهم؛ فالنفوس تَرِدُ مناهل المنى والشهوات، والقلوب ترد مشارب التقوى والطاعات، والأرواح ترد مناهل الكشف والمشاهدات، والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف عن الكون والمرسومات، ثم عن الإحساس والصفات ثم بالاستهلاك في حقيقة الوجود والذات.

.تفسير الآية رقم (61):

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
لم يرضَوْا بحسن اختياره لهم، ولم يصبروا على قيامه بتولي ما كان يَهُمُّهُم من كفاية مأكولهم وملبوسهم، فنزلوا في التحير إلى ما جرت عليه عاداتهم من أكل الخسيس من الطعام، والرضا بالدون من الحال، فردَّهم إلى مقاساة الهوان، وربطهم بإدامة الخذلان، حتى سفكوا دماء الأنبياء وهتكوا حرمة الأمر بِقِلَّة الاستحياء، وتَرْكِ الاروعاء، فعاقبهم على قبيح فعالهم، وردَّهم إلى ما اختاره لأنفسهم من خسائس أحوالهم، وحين لم تنجح فيهم النصيحة، أدركتهم النقمة والفضيحة. ويقال كان بنو إسرائيل متفرقي الهموم مُشَتَّتِي القصود؛ لم يرضوا لأنفسهم بطعام واحد، ولم يكتفوا في تدينهم بمعبود واحد، حتى قالوا لموسى عليه السلام- لمَّا رأوا قَوماً يعبدون الصنم- يا موسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم إله، وهكذا صفة أرباب التفرقة. والصبر مع الواحد شديد، قال تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46].

.تفسير الآية رقم (62):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
اختلاف الطريق مع اتحاد الأصل لا يمنع من حسن القبول، فمن صدَّق الحق سبحانه في آياته، وآمن بما أخبر من حقه وصفاته، فتبايُن الشرع واختلاف وقوع الاسم غيرُ قادح في استحقاق الرضوان، لذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذَِينَ هَادُوا} ثم قال: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ}. أي إذا اتفقوا في المعارف فالكُلُّ لهم حُسْنُ المآب، وجزيلُ الثواب. والمؤمن مَنْ كان في آمان الحق سبحانه، ومَنْ كان في أمانه- سبحانه وتعالى- فَبالحريِّ {أَلاَّ خَوْفَ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170].

.تفسير الآيات (63- 64):

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
أخذ سبحانه ميثاقَ جميع المُكَلَّفِين، ولكنَّ قوماً أجابوا طوعاً لأنه تعرَّف إليهم فوَحَّدوه وقوماً أجابوه كرهاً لأنه ستر عليهم فجحدوه، ولا حُجَّة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور- وهو الجبل- ولكن عَدِموا نورَ البصيرة، فلا ينفعهم عيانُ البصر. قال الله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ}، أي رجعتم إلى العصيان بعد ما شاهدتم تلك الآيات بالعيان، ولولا حكمه بإمهاله، وحِلْمُه بأفضاله لعَاجَلكُم بالعقوبة، وأحلَّ عليكم عظيمَ المصيبة ولخَسِرَتْ صفقتُكم بالكُلِّيَة.

.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}
مسْخُ هذه الأمة حصل على القلوب، فكما أنهم لما تركوا الأمر واستهانوا بما أُلزموا به من الشرع- عجلت عقوبتهم بالخسف والمسخ وغير ذلك من ضروب ما ورد به النَّصُّ، فهذه الأمة مِنْ نَقْضِ العهدِ ورفض الحدِّ عوقبت بمسخ القلوب، وتبديل الأحوال، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] وعقوبات القلوب أنكى من عقوبات النفوس، وفي معناه أنشدوا:
يا سائلي: كيف كنتَ بَعْده ** لقيتُ ما ساءني وسَرَّه

ما زلت أختال في وِصالي حتى ** أمِنت من الزمانِ مَكره

طال عليَّ الصدود حتى ** لم يُبْقِ مما شَهِدَت ذرَّه

.تفسير الآية رقم (66):

{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
هكذا مَنْ مُنِيَ بالهجران، ووُسِمَ بالخذلان؛ صارت أحوالُه عِبْرة، وتجرَّع- مِنْ مُلاحَظته لحاله- عليه الحسرة، وصار المسكين- بعد عِزِّه لكلِّ خسيسٍ سُخْرَة. هكذا آثار سُخْطِ الملوك وإعراض السادة عن الأصاغر:
وقد أحدق الصبيان بي وتَجمعوا ** عليَّ وأشلوا بالكلاب ورائيا

.تفسير الآيات (67- 70):

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}
قوله جلّ ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.
كان الواجب عليهم استقبال الأمر بالاعتناق ولكنهم تعللوا ببقاء الأشكال توهماً بأن يكون لهم (...) تُفضِي بالإخلاد إلى الاعتدال عن عهدة الإلزام فتضاعفت عليهم المشقة وحل بهم ما حَذِرُوه من الافتضاح.
فصل:
ولما قال: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} أي ليست بِفَتيَّةٍ ولا مُسِنَّة بل هي بين السِّنَّيْنِ. حصلت الإشارة أن الذي يصلح لهذه الطريقة مَنْ لا يستهويه نَزَقُ الشباب وسُكْره، ولم يُعَطِّلْه عجزُ المشيب وضعفُه، بل هو صاحٍ استفاق عن سُكْرِه، وبقيت له- بَعْدُ- نضارةٌ من عمره.
قوله جلّ ذكره: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَنَا مَا هي إنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ}.
كما كان يأخذ لونها الأبصار فالإشارة منها أن من كان من أهل القصة يستغرق شاهدُه القُلوبَ لِمَا أُلبس من رداء الجبروت، وأقيم به من شاهد الغيب حتى أن من لاحَظَه تناسى أحوال البشرية واستولى عليه ذكر الحق، كذا في الخبر المنقول: أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله.