فصل: باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته، وشكله ونقطة، وتحزيبه وتعشيره، وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.باب ما جاء في ترتيب سور القرآن وآياته، وشكله ونقطة، وتحزيبه وتعشيره، وعدد حروفه وأجزائه وكلماته وآيه:

قال ابن الطيب: إن قال قائل قد اختلف السلف في ترتيب سور القرآن، فمنهم من كتب في مصحفه السور على تاريخ نزولها، وقدم المكي على المدني، ومنهم من جعل في أول مصحفه الحمد، ومنهم من جعل في أوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وهذا أول مصحف علي رضي الله عنه. وأما مصحف ابن مسعود فإن أوله {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثم البقرة ثم النساء، على ترتيب مختلف. ومصحف أبي كان أوله: الحمد لله، ثم النساء ثم آل عمران ثم الأنعام ثم الأعراف ثم المائدة، ثم كذلك على اختلاف شديد. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة. وذكر ذلك مكي رحمه الله في تفسير سورة براءة وذكر أن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما لم يأمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة، هذا أصح ما قيل في ذلك، وسيأتي. وذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: قال قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على علم بذلك، فهذا مما ننتهي إليه، ولا نسأل عنه. وقد ذكر سنيد قال حدثنا معتمر عن سلام بن مسكين عن قتادة قال قال ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصاحفنا كان عن توقيف من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما ما روى من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس عن ابن وهب قال سمعت مالكا يقول: إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرق على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين عليه السلام، عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول: «ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن». وكان جبريل عليه السلام يقف على مكان الآيات. حدثنا حسن بن الحباب حدثنا أبو هشام حدثنا أبو بكر عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال: آخر ما نزل من القرآن: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}. عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}.
فقال جبرائيل للنبي عليهما السلام: يا محمد ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة. قال أبو الحسن بن بطال: ومن قال بهذا القول لا يقول إن تلاوة القرآن في الصلاة والدرس يجب أن تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في المصحف، بل إنما يجب تأليف سورة في الرسم والخط خاصة، ولا يعلم أن أحدا منهم قال: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة وفي قراءة القرآن ودرسه، وأنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة ولا الحج قبل الكهف، ألا ترى قول عائشة رضي الله عنها للذي سألها: لا يضرك أية قرأت قبل، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها. وأما ما روى عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ في القرآن منكوسا، وقالا: ذلك منكوس القلب، فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة، ويبتدئ من أخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ، وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن، لأنه إفساد لسورة ومخالفة لما قصد بها. ومما يدل على أنه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله ما صح وثبت أن الآيات كانت تنزل بالمدينة فتوضع في السورة المكية، ألا ترى قول عائشة رضي الله عنه: وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده تعني بالمدينة وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلهما من القرآن بمكة، ولو ألفوه على تاريخ النزول لوجب أن ينتقض ترتيب آيات السور. قال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال: نزل بالمدينة من القرآن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والنحل، والحج، والنور، والأحزاب، ومحمد، والفتح، والحجرات، والرحمن، والحديد، والمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن، والطلاق،
ويا أيها النبي لم تحرم إلى رأس العشر، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله، هؤلاء السور نزلن بالمدينة، وسائر القرآن بمكة. قال أبو بكر: فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة، لم يدر أين تقع الفاتحة، لاختلاف الناس في موضع نزولها، ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به، ورد على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما حكاه عن ربه تعالى. وقد قيل إن علة تقديم المدني على المكي هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتها، وما تعرف من أفانين خطابها ومحاورتها، فلما كان فن من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر وتأخير المقدم خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى الذي لو فقدوه من القرآن لقالوا: ما باله عرى من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلى من نظامنا. قال عبيد بن الأبرص:

أن بدلت منهم وحوشا ** وغيرت حالها الخطوب

عيناك دمعهما سروب ** كأن شأنيهما شعيب

أراد عيناك دمعهما سروب لأن تبدلت من أهلها وحوشا، فقدم المؤخر وأخر المقدم، ومعنى سروب: منصب على وجه الأرض. ومنه للذاهب على وجهه في الأرض، قال الشاعر:
أنّى سربت وكنت غير سروب

وقوله: شأنيهما، الشأن واحد الشئون، وهي مواصل الرأس وملتقاها، ومنها يجئ الدمع. شعيب: متفرق.

.(فصل):

وأما شكل المصحف ونقطة فروى أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله، فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزينه، وأمر وهو والى العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك، وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روى من اختلاف الناس فيما وافق الخط، ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا، إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات. وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطة له يحيى بن يعمر.

.(فصل):

وأما وضع الأعشار فقال ابن عطية: مر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك، وقيل: إن الحجاج فعل ذلك. وذكر أبو عمرو الداني في كتاب البيان له عن عبد الله بن مسعود أنه كره التعشير في المصحف، وأنه كان يحكه. وعن مجاهد أنه كره التعشير والطيب في المصحف. وقال أشهب: سمعت مالكا وسيل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة وغيرها من الألوان، فكره ذلك وقال: تعشير المصحف بالحبر لا بأس به، وسيل عن المصاحف يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية، قال: إني أكره ذلك في أمهات المصاحف ن يكتب فيها شي أو يشكل، فأما ما يتعلم به الغلمان من المصاحف فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب: ثم أخرج إلينا مصحفا لجده، كتبه إذ كتب عثمان المصاحف، فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر، ورأيته معجوم الآي بالحبر. وقال قتادة: بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا. وقال يحيى بن أبي كثير كان القرآن مردا في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء، وقالوا: لا بأس به، هو نور له، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم. وعن أبي حمزة قال: رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا، فقال لي: امحه فإن عبد الله بن مسعود قال: لا تخلطوا في كتبا الله ما ليس فيه. وعن أبي بكر السراج قال قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا، قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه فيظنونه من القرآن.
قال الداني رضي الله عنه: وهذه الأخبار كلها تؤذن بأن التعشير والتخميس وفواتح السور ورءوس الآي من عمل الصحابة رضي الله عنهم، قادهم إلى عمله الاجتهاد، وأرى أن من كره ذلك منهم ومن غيرهم إنما كره أن يعمل بالألوان كالحمرة والصفرة وغيرها، والحراج والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله.

.(فصل):

وأما عدد حروفه وأجزائه فروى سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتاب، فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو؟. قال: وكنت فيهم، فحسبنا فأجمعنا على أن القرآن ثلاثمائة ألف حرف وأربعون ألف حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا وقال: فأخبروني إلى أي حرف ينتهي نصف القرآن؟ فإذا هو الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ} في الفاء. قال: فأخبروني بأثلاثه، فإذا الثلث الأول رأس مائة من براءة، والثلث الثاني رأس مائة أو إحدى ومائة من طسم الشعراء، والثلث الثالث ما بقي من القرآن. قال فأخبروني بأسباعه على الحرف، فإذا أول سبع في النساء {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ} في الدال، والسبع الثاني في الأعراف {حَبِطَتْ} في التاء، والسبع الثالث في الرعد {أُكُلُها دائِمٌ} في الألف من آخر أكلها، والسبع الرابع في الحج {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً} في الألف، والسبع الخامس في الأحزاب {وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} في الهاء، والسبع السادس في الفتح {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} في الواو، والسبع السابع ما بقي من القرآن. قال سلام أبو محمد: علمناه في أربعة أشبر، وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربعا، فأول ربعه خاتمة الأنعام. والربع الثاني في الكهف {وَلْيَتَلَطَّفْ}، والربع الثالث خاتمة الزمر، والربع الرابع ما بقي من القرآن. وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب البيان لأبي عمرو الداني، من أراد الوقوف عليه وجده هناك.

.(فصل):

وأما عدد القرآن في المدني الأول، فقال محمد بن عيسى: جمع عدد آي القرآن في المدني ستة آلاف آية. قال عمرو: وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة، ولم يسموا في ذلك أحد بعينه يسندونه إليه.
وأما المدني الأخير فهو قول إسماعيل بن جعفر: ستة ألاف آية ومائتان آية وأربع عشرة آية. وقال الفضل: عدد أي القرآن في قول المكيين ستة آلاف ومائتا آية وتسع عشرة آية. قال محمد بن عيسى: وجميع عدد آي القرآن في قول الكوفيين ستة آلاف آية ومائتا آية وثلاثون وست آيات، وهو العدد الذي رواه سليم والكسائي عن حمزة، وأسنده الكسائي إلى على رضي الله عنه. قال محمد: وجميع عدد آي القرآن في عدد البصريين ستة ألاف ومائتان وأربع آيات، وهو العدد الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن. وأما عدد أهل الشام فقال يحيى بن الحارث الذماري: ستة آلاف ومائتان وست وعشرون. في رواية ستة آلاف ومائتان وخمس وعشرون، نقص آية. قال ابن ذكوان: فظنت أن يحيى لم يعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. قال أبو عمرو: فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا، ويعدون بها في سائر الآفاق قديما وحديثا. وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان: جميع كلمات القرآن في قول عطاء بن يسار سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وحروفه ثلاثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا. قلت: هذا يخالف ما تقدم عن الحماني قبل هذا. وقال عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: هذا ما أحصينا من القرآن، وهو ثلاثمائة ألف حرف واحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا، وهذا يخالف ما ذكره قبل هذا الحماني من عد حروفه.

.باب ذكر معنى السورة والآية والكلمة والحرف:

معنى السورة في كلام العرب الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها، وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة. قال النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب

أي منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزل الملوك. وقيل سميت لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور. وقيل سميت بذلك لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده كسور البناء بغير همزة. وقيل سميت بذلك، لأنها قطعت من القرآن على حد، من قول العرب للبقية: سؤر، وجاء أسآر الناس أي بقاياهم، فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمزة ثم خففت فأبدلت واوا لانضمام ما قبلها. وقيل سميت بذلك لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة: سورة، وجمع سورة سور بفتح الواو. وقال الشاعر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور

ويجوز أن يجمع على سورات وسورات. وأما الآية فهي العلامة: بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام قبلها من الذي بعدها وانفصاله، آي هي بائنة من أختها ومنفردة. وتقول العرب: بيني وبين فلان آية، أي علامة، ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ}. وقال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها ** لستة أعوام وذا العام سابع

وقيل: سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآياتهم أي بجماعتهم. قال برج بن مسهر الطائي:
خرجنا من النقبين لا حيّ مثلنا ** بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا

وقيل: سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها. واختلف النحويون في أصل آية، فقال سيبويه: أييه على فعله مثل أكمه وشجرة، فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها انقلبت ألفا فصارت آيه بهمزة بعدها مدة. وقال الكسائي: أصلها آيية على وزن فاعلة مثل آمنة فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت لالتباسها بالجمع. وقال الفراء: أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت ألفا كراهة التشديد فصارت آية وجمعها آي وآيات وآياء. وأنشد أبو زيد:
لم يبق الدهر من آيائه ** غير أثافيه وأرمدائه

وأما الكلمة فهي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات أي الحروف، وأطول الكلم في كتاب الله عز وجل ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله تعالى: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ}. و{أَنُلْزِمُكُمُوها} وشبههما، فأما قوله {فَأَسْقَيْناكُمُوهُ} فهو عشرة أحرف في الرسم واحد عشر في اللفظ. وأقصرهن ما كان على حرفين نحو ما ولا وله، وما أشبه ذلك. ومن حروف المعاني ما هو على كلمة واحدة، مثل همزة الاستفهام وواو العطف، إلا أنه لا ينطق به مفردا. وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة نحو قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ}. {وَالضُّحى}. {وَالْعَصْرِ}. وكذلك {الم}. و{المص}. و{طه}. و{يس}. و{حم} في قول الكوفيين، وذلك في فواتح السور، فأما ما في حشوهن فال. قال أبو عمرو الداني: ولا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله في الرحمن {مُدْهامَّتانِ} لأغير. وقد أتت كلمتان متصلتان وهما آيتان، وذلك في قوله تعالى {حم عسق} على قول الكوفيين لأغير. وقد تكون الكلمة في غير هذا: الآية التامة، والكلام القائم بنفسه، وإن كان أكثر أو أقل، قال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا} قيل: إنما يعني بالكلمة هاهنا قوله تبارك وتعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} إلى آخر الآيتين، وقال عز وجل {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى}. قال مجاهد لا إله إلا الله. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم». وقد تسمى العرب القصيدة بأسرها، والقصة كلها، كلمة فيقولون: قال قس في كلمته كذا، أي في خطبته، وقال زهير في كلمته كذا، أي في قصيدته، وقال فلان في كلمته يعني في رسالته، فتسمى جملة الكلام كلمة إذ كانت الكلمة منها، على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره، وكان بسبب منه، مجازا أو اتساعا. وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة، وقد يسمى الحرف كلمة والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع والمجاز. قال أبو عمرو الداني: فإن قيل فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد نحو {ص} و{ن} حرفا أو كلمة؟ قلت: كلمة لا حرفا، ولذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه، ولا ينفرد وحده في الصورة ولا ينفصل مما يختلط به، وهذه الحروف مسكوت عليها منفردة منفصلة كانفراد الكلم وانفصالها، فلذلك سميت كلمات لا حروفا. قال أبو عمرو: وقد يكون الحرف في غير هذا: المذهب والوجه، قال الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ} أي على وجه ومذهب، ومن ذلك قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي سبعة أوجه من اللغات، والله أعلم.

.باب هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب أو لا؟

لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب، وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير العرب، كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط. واختلفوا هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من كلام غير العرب، فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه، وأن القرآن عربي صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم، وذهب بعضهم إلى وجودها فيه، وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا، ولا رسول الله عن كونه متكلما بلسان قومه، فالمشكاة: الكوة ونشأ: قام من الليل، ومنه {إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ} و{يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي ضعفين. و{فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} أي الأسد، كله بلسان الحبشة. والغساق: البارد المنتن بلسان الترك. والقسطاس: الميزان، بلغة الروم. والسجيل: الحجارة والطين بلسان الفرس. والطور الجبل. واليم البحر بالسريانية. والتنور: وجه الأرض بالعجمية. قال ابن عطية: فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه. وقد كان العرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة تحارت، وبرحلتي قريش، وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام، وكفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن. فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس معنى فاطر إلى غير ذلك. قال ابن عطية: وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر، لأنا لاندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا. قال غيره: والأول أصح. وقوله: هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم، ليس بأولى من العكس، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطب بها أولا، فإن كان الأول فهي من كلامهم، إذا لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة. فإن قيل: ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه. قلنا: ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها، فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية، وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون، وحينئذ لا يكون القرآن عربيا نبينا، ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم، والله أعلم.