فصل: تفسير الآيات (30- 32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (26- 29):

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} لما أخبر تعالى عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن فقالوا: {لا تَسْمَعُوا}.
وقيل: معنى {لا تَسْمَعُوا} لا تطيعوا، يقال: سمعت لك أي أطعتك. {وَالْغَوْا فِيهِ} قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول.
وقيل: إنهم فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن.
وقال مجاهد: المعنى {وَالْغَوْا فِيهِ} بالمكاء والتصفيق والتخليط في المنطق. حتى يصير لغوا.
وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول.
وقال أبو العالية وابن عباس أيضا: قعوا فيه. وعيبوه. {لعلكم تغلبون} محمدا على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب. وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي {والغوا} بضم الغين وهي لغة من لغا يلغو. وقراءة الجماعة من لغي يلغى قال الهروي: وقوله: {وَالْغَوْا فِيهِ} قيل: عارضوه بكلام لا يفهم. يقال: لغوت ألغو وألغى، ولغي يلغى ثلاث لغات. وقد مضى معنى اللغو في البقرة وهو ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل. قوله تعالى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً} قد تقدم أن الذوق يكون محسوسا، ومعنى العذاب الشديد: ما يتوالى فلا ينقطع. العذاب في جميع أجزائهم. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. واسوأ الأعمال الشرك. قوله تعالى: {ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ} أي ذلك العذاب الشديد، ثم بينه بقوله: {النَّارُ} وقرأ ابن عباس {ذلك جزاء أعداء الله النار دار الخلد} فترجم بالدار عن النار وهو مجاز الآية. و{ذلك} ابتداء و{جزاء} الخبر و{النار} بدل من {جزاء} أو خبر مبتدأ مضمر، والجملة في موضع بيان للجملة الأولى.
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني في النار فذكره بلفظ الماضي والمراد المستقبل {رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} يعني إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه. عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما، ويشهد لهذا القول الحديث المرفوع: «ما من مسلم يقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من ذنبه لأنه أول من سن القتل» خرجه الترمذي، وقيل: هو بمعنى الجنس وبني على التثنية لاختلاف الجنسين. {نجعلها تحت أقدامنا ليكونا} سألوا ذلك حتى يشتفوا منهم بأن يجعلوهم تحت أقدامهم {لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} في النار وهو الدرك الأسفل سألوا أن يضعف الله عذاب من كان سبب ضلالتهم من الجن والإنس. وقرأ ابن محيص والسوسي عن أبى عمرو وابن عامر وأبو بكر والمفضل {أرنا} بإسكان الراء وعن أبى عمرو أيضا باختلاسها. وأشبع الباقون كسرتها وقد تقدم في الأعراف.

.تفسير الآيات (30- 32):

{إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} قال عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا.
وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبده ورسوله، فاستقام.
وفي الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} قال: «قد قال الناس ثم كفر أكثرهم فمن مات عليها فهو ممن استقام» قال: حديث غريب. ويروى في هذه الآية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي معنى {اسْتَقامُوا}، ففي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك- وفي رواية- غيرك. قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» زاد الترمذي قلت: «يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: هذا». وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: {ثُمَّ اسْتَقامُوا} لم يشركوا بالله شيئا.
وروى عنه الأسود بن هلال أنه قال لأصحابه: ما تقولون في هاتين الآيتين {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} و{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ} فقالوا: استقاموا فلم يذنبوا ولم يلبسوا إيمانهم بخطيئة، فقال أبو بكر: لقد حملتموها على غير المحمل {قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} فلم يلتفتوا إلى إله غيره {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ} بشرك {أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر وهو يخطب: {إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا} فقال: استقاموا والله على الطريقة لطاعته ثم لم يرغوا روغان الثعالب.
وقال عثمان رضي الله عنه: ثم أخلصوا العمل لله.
وقال علي رضي الله عنه: ثم أدوا الفرائض. وأقوال التابعين بمعناها. قال ابن زيد وقتادة: استقاموا على الطاعة لله. الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته.
وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى ماتوا.
وقال سفيان الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا.
وقال الربيع: اعرضوا عما سوى الله.
وقال الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية.
وقيل: استقاموا إسرارا كما استقاموا إقرارا.
وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولا.
وقال أنس: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هم أمتي ورب الكعبة».
وقال الإمام ابن فورك: السين سين الطلب مئل استسقى أي سألوا من الله أن يثبتهم على الدين. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة. قلت: وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا، وداموا على ذلك.
{تتنزل عليهم الملائكة} قال ابن زيد ومجاهد: عند الموت.
وقال مقاتل وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث.
وقال ابن عباس: هي بشرى تكون لهم من الملائكة في الآخرة.
وقال وكيع وابن زيد: البشرى في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث. {أَلَّا تَخافُوا} أي ب {أَلَّا تَخافُوا} فحذف الجار.
وقال مجاهد: لا تخافوا الموت. {وَلا تَحْزَنُوا} على أولادكم فان الله خليفتكم عليهم.
وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، وقال عكرمة ولا تخافوا أمامكم، ولا تحزنوا على ذنوبكم. {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ} أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة {نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ}.
قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة.
وقال السدي: أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى، والله ولي المؤمنين ومولاهم. {وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} أي من الملاذ. {وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ} تسألون وتتمنون. {نُزُلًا} أي رزقا وضيافة وقد تقدم في آل عمران وهو منصوب على المصدر أي أنزلناه نزلا.
وقيل: على الحال.
وقيل: هو جمع نازل، أي لكم ما تدعون نازلين، فيكون حالا من الضمير المرفوع في {تدعون} أو من المجرور في {لكم}.

.تفسير الآيات (33- 36):

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)}
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً} هذا توبيخ للذين تواصوا باللغو في القرآن. والمعنى: أي كلام أحسن من القرآن، ومن أحسن قولا من الداعي إلى الله وطاعته وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن سيرين والسدي وابن زيد والحسن: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول: هذا رسول الله، هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه. وقالت عائشة رضي الله عنها وعكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين. قال فضيل بن رفيدة: كنت مؤذنا لأصحاب عبد الله بن مسعود، فقال لي عاصم بن هبيرة: إذا أذنت فقلت: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فقل وأنا من المسلمين، ثم قرأ هذه الآية، قال ابن العربي: والأول أصح، لأن الآية مكية والأذان مدني، وإنما يدخل فيها بالمعنى، لا أنه كان المقصود وقت القول، ويدخل فيها أبو بكر الصديق حين قال في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد خنقه الملعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] وتتضمن كل كلام حسن فيه ذكر التوحيد والإيمان. قلت: وقول ثالث وهو أحسنها، قال الحسن: هذه الآية عامة في كل من دعا إلى الله. وكذا قال قيس بن أبي حازم قال: نزلت في كل مؤمن. قال: ومعنى {وَعَمِلَ صالِحاً} الصلاة بين الأذان والإقامة. وقاله أبو أمامة، قال: صلي ركعتين بين الأذان والإقامة.
وقال عكرمة: {وَعَمِلَ صالِحاً} صلى وصام.
وقال الكلبي: أدى الفرائض. قلت: وهذا أحسنها مع اجتناب المحارم وكثرة المندوب. والله أعلم. {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال ابن العربي: وما تقدم يدل على الإسلام، لكن لما كان الدعاء بالقول والسيف يكون للاعتقاد ويكون للحجة، وكان العمل يكون للرياء والإخلاص، دل على أنه لا بد من التصريح بالاعتقاد لله في ذلك كله، وأن العمل لوجهه. مسألة: لما قال الله تعالى: {وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ولم يقل له اشترط إن شاء الله، كان في ذلك رد على من يقول أنا مسلم إن شاء الله.
قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} قال الفراء: {لا} صلة أي {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} وأنشد:
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ** والطيبان أبو بكر ولا عمر

أراد أبو بكر وعمر، أي لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد، وما المشركون عليه من الشرك. قال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة الشرك.
وقيل: الحسنة الطاعة، والسيئة الشرك. وهو الأول بعينه.
وقيل: الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة.
وقيل: الحسنة العفو، والسيئة الانتصار.
وقال الضحاك: الحسنة العلم، والسيئة الفحش.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الحسنة حب آل الرسول، والسيئة بغضهم. قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} نسخت بآية السيف، وبقي المستحب من ذلك: حسن العشرة والاحتمال والإغضاء. قال ابن عباس: أي ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك. وعنه أيضا: هو الرجل يسب الرجل فيقول الآخر إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك. وكذلك يروى في الأثر: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ذلك لرجل نال منه.
وقال مجاهد: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني السلام إذا لقي من يعاديه، وقاله عطاء. وقول ثالث ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في الأحكام وهو المصافحة.
وفي الأثر: تصافحوا يذهب الغل. ولم ير مالك المصافحة، وقد اجتمع مع سفيان فتكلما فيها فقال سفيان: قد صافح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعفرا حين قدم من أرض الحبشة، فقال له مالك: ذلك خاص. فقال له سفيان: ما خص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخصنا، وما عمه يعمنا، والمصافحة ثابتة فلا وجه لإنكارها. وقد روى قتادة قال قلت لأنس: هل كانت المصافحة في أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. وهو حديث صحيح.
وفي الأثر: من تمام المحبة الأخذ باليد.
ومن حديث محمد بن إسحاق وهو إمام مقدم، عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيتي، فقرع الباب فقام إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عريانا يجر ثوبه- والله ما رأيته عريانا قبله ولا بعده- فاعتنقه وقبله.
قلت: قد روي عن مالك جواز المصافحة وعليها جماعة من العلماء. وقد مضى ذلك في يوسف وذكرنا هناك حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما». قوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي قريب صديق. قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن حرب، كان مؤذيا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصار له وليا بعد أن كان عدوا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أسلم فصار وليا في الإسلام حميما بالقرابة.
وقيل: هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، كان يؤذي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره الله تعالى بالصبر عليه والصفح عنه، ذكره الماوردي. والأول ذكره الثعلبي والقشيري وهو أظهر، لقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
وقيل: كان هذا قبل الأمر بالقتال. قال ابن عباس: أمره الله تعالى في هذه الآية بالصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم الله من الشيطان، وخضع لهم عدوهم. وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي ابن أبي طالب فناداه علي يا قنبر دع شاتمك، وآله عنه ترضي الرحمن وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه. وأنشدوا:
وللكف عن شتم اللئيم تكرما ** أضر له من شتمه حين يشتم

وقال آخر:
وما شيء أحب إلى سفيه ** إذا سب الكريم من الجواب

متاركة السفيه بلا جواب ** وأشد على السفيه من السباب

وقال محمود الوراق:
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ** إن كثرت منه لدي الجرائم

فما الناس إلا واحد من ثلاثة ** شريف ومشرف ومثل مقاوم

فأما الذي فوقي فأعرف قدره ** واتبع فيه الحق والحق لازم

وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ** إجابته عرضي وإن لام لائم

وأما مثلي فإن زل أو هفا ** تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم

{وَما يُلَقَّاها} يعني هذه الفعلة الكريمة والخصلة الشريفة {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} بكظم الغيظ واحتمال الأذى. {وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي نصيب وافر من الخير، قاله ابن عباس.
وقال قتادة ومجاهد: الحظ العظيم الجنة. قال الحسن: والله ما عظم حظ قط دون الجنة. وقيل الكناية في {يُلَقَّاها} عن الجنة أي ما يلقاها الا الصابرون والمعنى متقارب. قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ} تقدم في آخر الأعراف مستوفى. {فاستعذ بالله} من كيد وشره {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لاستعاذتك {الْعَلِيمُ} بأفعالك وأقوالك.