فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (20):

{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)}
قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغالطات، فأسند أمرك إلى ما كلفت من الايمان والتبليغ وعلى الله نصرك. وقوله: {وَجْهِيَ} بمعنى ذاتي، ومنه الحديث: «سجد وجهى للذي خلقه وصوره».
وقيل: الوجه هنا بمعنى القصد، كما تقول: خرج فلان في وجه كذا. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى، والأول أولى. وعبر بالوجه عن سائر الذات إذ هو أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس. وقال:
أسلمت وجهي لمن أسلمت ** له المزن تحمل عذبا زلالا

وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى: {وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ}: إنها عبارة عن الذات وقيل: العمل الذي يقصد به وجهه. وقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} {مَنِ} في محل رفع عطفا على التاء في قوله: {أَسْلَمْتُ} أي ومن اتبعن أسلم أيضا، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما. وأثبت نافع وأبا عمرو ويعقوب ياء {اتَّبَعَنِ} على الأصل، وحذف الآخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء.
وقال الشاعر:
ليس تخفى يسارتى قدر يوم ** ولقد تخف شيمتي إعسارى

قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} يعني اليهود والنصارى {وَالْأُمِّيِّينَ} الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب. {أَأَسْلَمْتُمْ} استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الامر، أي أسلموا، كذا قال الطبري وغيره.
وقال الزجاج: {أَأَسْلَمْتُمْ} تهديد. وهذا حسن لان المعنى أأسلمتم أم لا. وجاءت العبارة في قوله: {فَقَدِ اهْتَدَوْا} بالماضي مبالغة في الاخبار بوقوع الهدى لهم وتحصيله. و{الْبَلاغُ} مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، أي إنما عليك أن تبلغ.
وقيل: إنه مما نسخ بالجهاد.
وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها، وأما على ظاهر نزول هذه الآيات في وفد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أنزل إليك بما فيه من قتال وغيره.

.تفسير الآيات (21- 22):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)}
فيه ست مسائل الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم، ففيهم نزلت هذه الآية. وكذلك قال معقل بن أبي مسكين: كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجئ إلى بنى إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون. وقد روى عن ابن مسعود قال قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشى المؤمن بينهم بالتقية» وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهو الذين ذكرهم الله في هذه الآية». ذكره المهدوي وغيره.
وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم من آخر.
النهار. فإن قال قائل: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا. فالجواب عن هذا أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته، وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وهموا بقتلهم، قال الله عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ}: الثانية: دلت هذه الآية على أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة. قال الحسن قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه». وعن درة بنت أبى لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟ قال: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه».
وفي التنزيل: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} ثم قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}. فجعل تعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه. ثم إن الامر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزيز إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}.
الثالثة: وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس. فإن تشبثوا بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} وقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ} ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم هاهنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر. ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ}.
الرابعة: أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فيقلبه ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. قال: والأحاديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تأكيد الامر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة. قال الحسن: إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم، فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتقني اتقني فما لك وله.
وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.
وروى ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه». قالوا: يا رسول الله وما إذلاله نفسه؟ قال: «يتعرض من البلاء لما لا يقوم له».
قلت: وخرجه ابن ماجه عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلاهما قد تكلم فيه. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات اللهم إن هذا منكر فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه، وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده. قال: والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي.
قلت: هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع. وهذه الآية تدل على جواز الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل.
وقال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ}. وهذا إشارة إلى الاذاية.
الخامسة: روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان». قال العلماء: الامر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس. فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل، وهذا تلقي من قول الله تعالى: {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ}. وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه. ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به، حتى لقد قال العلماء: لو فرضنا قودا.
وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
السادسة: روى أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله، متى نترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم». قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم». قال زيد: تفسير معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والعلم في رذالتكم» إذا كان العلم في الفساق. خرجه ابن ماجة. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في المائدة وغيرها إن شاء الله تعالى. وتقدم معنى: {فَبَشِّرْهُمْ} و{حَبِطَتْ} في البقرة فلا معنى للإعادة.

.تفسير الآية رقم (23):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)}
فيه ثلاث مسائل الأولى: قال ابن عباس: هذه الآية نزلت بسبب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله. فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني على ملة إبراهيم». فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم». فأبيا عليه فنزلت الآية. وذكر النقاش أنها نزلت لان جماعة من اليهود أنكروا نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هلموا إلى التوراة ففيها صفتي» فأبوا. وقرأ الجمهور {لِيَحْكُمَ} وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع {ليحكم} بضم الياء. والقراءة الأولى أحسن، لقوله تعالى: {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ}.
الثانية: في هذه الآية دليل على وجوب ارتفاع المدعو إلى الحاكم لأنه دعي إلى كتاب الله، فإن لم يفعل كان مخالفا يتعين عليه الزجر بالأدب على قدر المخالف والمخالف. وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب وليس بالديار المصرية. وهذا الحكم الذي ذكرناه مبين في التنزيل في سورة النور في قوله تعالى: {وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}- إلى قوله: {بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. وأسند الزهري عن الحسن أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له». قال ابن العربي: وهذا حديث باطل. أما قوله: «فهو ظالم» فكلام صحيح. وأما قوله: «فلا حق له» فلا يصح، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. قال ابن خويز منداد المالكي: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يحيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق، أو يعلم عداوة من المدعى والمدعى عليه.
الثالثة: وفيها دليل على أن شرائع من قبلنا شريعة لنا إلا ما علمنا نسخه، وأنه يجب علينا الحكم بشرائع الأنبياء قبلنا، على ما يأتي بيانه. وإنما لا نقرأ التوراة ولا نعمل بما فيها لان من هي في يده غير أمين عليها وقد غيرها وبدلها، ولو علمنا أن شيئا منها لم يتغير ولم يتبدل جاز لنا قراءته. ونحو ذلك روي عن عمر حيث قال لكعب: إن كنت تعلم أنها التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها. وكان عليه السلام عالما بما لم يغير منها فلذلك دعاهم إليها وإلى الحكم بها. وسيأتي بيان هذا في المائدة والاخبار الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى. وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في ذلك. والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (24):

{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)}
إشارة إلى التولي والاعراض، واغترار منهم في قولهم: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} إلى غير ذلك من أقوالهم. وقد مضى الكلام في معنى قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ} في البقرة.

.تفسير الآية رقم (25):

{فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)}
خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته على جهة التوقيف والتعجب، أي فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا حشروا يوم القيامة واضمحلت عنهم تلك الزخارف التي ادعوها في الدنيا، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم واجترائهم وقبيح أعمالهم. واللام في قوله: {لِيَوْمٍ} بمعنى في، قاله الكسائي، وقال البصريون: المعنى لحساب يوم، الطبري: لما يحدث في يوم.

.تفسير الآية رقم (26):

{قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
قال علي رضي الله عنه قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما أراد الله تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب وآية الكرسي وشَهِدَ اللَّهُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ تعلقن بالعرش وليس بينهن وبين الله حجاب وقلن يا رب تهبط بنا دار الذنوب وإلى من يعصيك فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا يقرأكن عبد عقب كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما كان منه، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعدته من كل عدو ونصرته عليه ولا يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت».
وقال معاذ بن جبل: احتبست عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فلم أصل معه الجمعة فقال: «يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟» قلت: يا رسول الله، كان ليوحنا بن بارئا اليهودي على أوقية من تبر وكان على بابي يرصدني فأشفقت أن يحبسني دونك. قال: «أتحب يا معاذ أن يقضى الله دينك؟» قلت نعم. قال: «قل كل يوم {قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ} إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسابٍ} رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عني ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا لأداه الله عنك». خرجه أبو نعيم الحافظ، أيضا عن عطاء الخراساني أن معاذ بن جبل قال: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيات من القرآن- أو كلمات- ما في الأرض مسلم يدعو بهن وهو مكروب أو غارم أو ذو دين إلا قضى الله عنه وفرج همه، احتبست عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكره. غريب من حديث عطاء أرسله عن معاذ.
وقال ابن عباس وأنس بن مالك: لما. افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة ووعد أمته ملك فارس والروم قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد ملك فارس والروم! هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: نزلت دامغة لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شيء منها. قال ابن إسحاق: أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وإن عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن كان الله تعالى أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء، من قوله: {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ}. وقوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} فلو كان عيسى إلها كان هذا إليه، فكان في ذلك اعتبار وآية بينة.
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ} اختلف النحويون في تركيب لفظة {اللَّهُمَّ} بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى، وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى:
كدعوة من أبي رباح ** يسمعها اللهم الكبار

قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين: إن أصل اللهم يا الله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو يا جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاءوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا الله أمنا بخير، فحذف وخلط الكلمتين، وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطإ العظيم، والقول في هذا ما قال الخليل وسيبويه. قال الزجاج: محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في اسم الله ضمه أم، هذا إلحاد في اسم الله تعالى. قال ابن عطية: وهذا غلو من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا الله أم، ولا تقول العرب يا اللهم.
وقال الكوفيون: إنه قد يدخل حرف النداء على اللهم وأنشدوا على ذلك قول الراجز:
غفرت أو عذبت يا اللهما

آخر:
وما عليك أن تقولي كلما ** سبحت أو هللت يا اللهم ما

اردد علينا شيخنا مسلّما ** فإننا من خيره لن نعدما

آخر:
إني إذا ما حدث ألما ** أقول يا اللهم يا اللهما

قالوا: فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا. قال الزجاج: وهذا شاذ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب، وقد ورد مثله في قوله:
هما نفثا في فيّ من فمويهما ** ما على النابح العاوي أشد رجام

قال الكوفيون: وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم، وأما ميم مشددة فلا تزاد.
وقال بعض النحويين: ما قاله الكوفيون خطأ، لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال: اللهم ويقتصر عليه لأنه معه دعاء. وأيضا فقد تقول: أنت اللهم الرزاق. فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر. قال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها.
وقال الحسن: اللهم تجمع الدعاء.
قوله تعالى: {مالِكَ الْمُلْكِ} قال قتادة: بلغني أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل الله عز وجل أن يعطي أمته ملك فارس فأنزل الله هذه الآية.
وقال مقاتل: سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء. وقد تقدم معناه. و{مالِكَ} منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، ومثله قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم. وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري الزجاج فقالا: {مالِكَ} في الاعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
قال أبو علي، هو مذهب أبي العباس المبرد، وما قاله سيبويه أصوب وأبين، وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد {اللهم} لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف، نحو غاق وما أشبهه. وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع. فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت، نحو حيهل فلم يوصف. و{الْمُلْكِ} هنا النبوة، عن مجاهد. وقيل، الغلبة.
وقيل: المال والعبيد. الزجاج: المعنى مالك العباد وما ملكوا.
وقيل: المعنى مالك الدنيا والآخرة. ومعنى: {تُؤْتِي الْمُلْكَ} أي أي الايمان والإسلام. {مَنْ تَشاءُ} أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه:
ألا هل لهذا الدهر من متعلل ** على الناس مهما شاء بالناس يفعل

قال الزجاج: مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. وقوله: {تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ} يقال: عز إذا علا وقهر وغلب، ومنه، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}. {وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} ذل يذل ذلا إذا غلب وعلا وقهر. قال طرفة:
بطيء عن الجلى سريع إلى الخنا ** ذليل بإجماع الرجال ملهد

{بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي بيدك الخير والشر فحذف، كما قال: {سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}.
وقيل: خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله. قال النقاش: بيدك الخير، أي النصر والغنيمة.
وقال أهل الإشارات: كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الايمان، {قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ} تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت إلى القليب: يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء. أي صهيب، أي بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من الدنيا ببغضكم. بيدك الخير ما منعكم من عجز {إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إنعام الحق عام يتولى من يشاء.